الكلام الأخاذ ليحيى بن معاذ ( 5 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

81- القلوب كالقدور في الصدور في تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها، فانتظر الرجل حتى يتكلم، فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه، من بين حلو وحامض وعذب وأجاج، يخبرك عن طعم قلبه اغترافُ لسانه.

82- إنما صار الفقراء أسعد على الذكر من الأغنياء لأنهم في حبس الله، ولو أطلقوا من حصار الفقر لوجدت من ثبت منهم على الذكر قليلاً.

83- ألق حسن الظن على الخلق وسوء الظن على نفسك، لتكون من الأول في سلامة، ومن الآخر على الزيادة.

84- أبناء الدنيا يجدون لذة الكلام، وأبناء الآخرة يجدون لذة المعاني.

85- الدرجات التي يسعى إليها أبناء الآخرة سبعة: التوبة ثم الزهد ثم الرضا ثم الخوف ثم الشوق ثم المحبة ثم المعرفة، فبالتوبة تطهروا من الذنوب وبالزهد خرجوا من الدنيا، وبالرضا ألبسوا حُلل العبودية، وبالخوف جاوزا قناطر النار، وبالشوق إلى الجنة استوجبوها، وبالمحبة عقلوا النعيم، وبالمعرفة وصلوا إلى الله.

86- الدنيا خزانة الله، فما الذي يُبغض منها وكل شيء من حجر أو مدر أو شجر يسبح الله فيها، قال - تعالى -: {وإن من شيء إلا يُسبح بِحمده}، وقال - تعالى -: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين}. فالمجيب له بالطاعة لا يستحق أن يكون بغيضاً في قلوب المؤمنين، ليعلم أن الذنب والذم زائلان عنها إلى بني آدم لو كانوا يعلمون.

87- اعلموا أنه لا يصح الزهد والعبادة ولا شيء من أور الطاعة لرجل أبداً وفيه للطمع بقية، فإن أردتم الوصول إلى محض الزهد والعبادة فأخرجوا من قلوبكم هذه الخصلة الواحدة، وكونوا رحمكم الله من أبناء الآخرة، وتعاونوا واصبروا وأبشروا تظفروا إن شاء الله، واعلموا أن ترك الدنيا هو الربح نفسه الذي ليس بعده أمر أشد منه، فإن ذبحتم لتركها نفوسكم أحييتموها، وغن أحييتم أنفسكم بأخذها قتلتموها، فارفضوها من قلوبكم تصيروا إلى الروح لراحة في الدنيا والآخرة، وتصيبوا شرف الدنيا والآخرة، وعيش الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون.

88- عذبوا أنفسكم في طاعة الله بترك شهواتها قبل أن تلقي الشهوة منها أجسامكم في ديار عاقبتها، واعلموا أن القرآن قد ندبكم إلى وليمة الجنة، ودعاكم إليها، فأسرع الناس إليها أتركُهم لدنياه، وأوجدُكم لذة لطعم تلك الوليمة: أشدهم تجويعاً لنفسه، ومخالفة لها، فإنه ليس أمر من أمور الطاعة إلا وأنتم تحتاجون أن تخرجوه من بين ضدين مختلفين بجهد شديد، وسأظهر لكم هذا الأمر: فإني وجدت أمر الإنسان أمراً عجيباً، قد خلاف ما كُلِف سائر الخلق من أهل الأرض والسماء فأحسن النظر فيه، وليكن العمل منك فيه على حسب الحاجة منك إليه، واستعن بالله فنعم المعين، واعلم أنك لم تسكن لتنعم فيها جاهلاً، وعن الآخرة غافلاً، ولكنك أسكنتها لتتعبد فيها عاقلاً وتمتطي الأيام إلى ربك عاملاً، فإنك بين دنيا وآخرة، ولكل واحدة منهما نعيم وفي وجود أحدهما يطول الآخر، فانظر أن تحسن طلب النعيم، فقد حكي عن إبراهيم بن آدم أنه قال: غلط الملوك طلبوا النعيم فلم يحسنوا.

89- وعلى حسب اقتراب قلبك من الدنيا يكون بعدك من الله، وعلى حسب بعد قلبك من الدنيا يكون قربك من الله، وكما كان معدوماً وجود نفسك في مكانين فكذلك معدوم وجود قلبك في دارين، فإن كنت ذا قلبين فدونك اجعل أحدهما للدنيا وأحدهما للآخرة. وإن كنت ذا قلب واحد فاجعله لأولى الدارين بالنعيم والمقام والبقاء والإنعام.

90- واعلم أن النفس والهوى لا تقهران بشيء أفضل من الصوم الدائم (أي صوم النفس عن الهوى) وهو بساط العبادة ومفتاح الزهد، وطلع ثمرات الخير، وأجساد العمال من شجراته دائم الجذاذ دائم الإطعام، وهو الطريق إلى مرتبة الصديقين، وما دونه فمزرعة الأعمال، فثمر غرسها وربيع بذرها في تركها، وفقدها في أخذها، وليس معنى الترك لا لخروج من المال والأهل والولد، ولكن معنى الترك العمل بطاعة الله وإيثار ما عند الله عليها مأخوذة متروكة، فهذا معنى الترك لا ما يدعيه المتصوفة الجاهلون.

91- أنت من الدنيا بين منزلتين فإن زويت عنك كفيت المؤنة وأن صرفت إليك ألزمتها طاعة مولاك، وإن كانت طاعتك لله في شأنها تصلحها، ومعصيتك لله في أمرها يفسدها، فدع عنك لوم الدنيا واحفظ من نفسك وعملك ما فيه صلاحها، فإن المطيع فيها محمود عند الله، إنما تلزمه التهمة وعيب الأخذ لها إذا خان الله فيها، لأن الدنيا مال الله، والخلق عباد الله، وهم في ها المال صنفان.

92- خونة وأمناء، فإذا وقع المال في أيدي الخائنين فهو سبب دمارهم، ولا عتب على المال إنما العتب على فعلهم بالمال. وإذا وقع في أيدي الأمناء كان سبب شرفهم وخلاصهم، ولا معنى للمال إنما كسب لهم الشرف عند الله فعلهم بالمال، أدوا أمانة الله في أموالهم فلحق بهم نفع المال. لا ذنب للمال الذنب لك، الذنوب إنما تكتسب بالجوارح، وليس للضيعة والحانوت جوارح، إنما الجوارح لك وبها تكتسب الذنوب، فعلك بما لك أسقطك من عين ربك لا مالك، وفعلك بما لك يصحبك إلى قبرك لا مالك، وفعلك بما لك يوزن يوم القيامة لا مالك.

93- يا من أقام لي غرس ذكرى، وأجري إلي أنهار نجوى، وجعل لي أيام عيد في اجتماع الورى، وأقام لي فيهم أسواق تقوى، أقلبت إليك معتمداً عليك ممتلئ القلب من رجائك ورطب اللسان من دعائك، في قلبي من الذنوب زفرات، ومعي عليها ندامات، إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني دعوت، وإن دعوتني أحببت، فأعطني إلهي ما أريد فلئن لم تعطني ما أريد فصبرني على ما تريد.

94- من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله، ويدخل عليه ثلاث خصال من الخير: أولها المبادرة إلى التوبة، والثاني القناعة برزق يسير، والثالث النشاط في العبادة. ومن حرص على الدنيا فإنه يأكل فوق ما كتب الله له، ويدخل عليه من العيوب ثلاث خصال: أولها أن تراه أبداً غير شاكر لعطية الله له، والثاني لا يواسي بشيء مما قد أعطي من الدنيا، والثالث يشتغل ويتعب في طلب ما لم يرزقه الله حتى يفوته عمل الدين.

95- الصبر على الناس أشد من الصبر على النار.

96- تأبى القلوب للأسخياء إلا حباً وإن كانوا فجاراً وللبخلاء إلا بعضاً وإن كانوا أبراراً.

97- ليس على وجه الأرض أحد إلا وفيه فقر وحرص، ولكن من أخلاق المؤمنين أن يكونوا حرصاء على طلب الجنة قراء إلى ربهم، والمنافق حريص على الدنيا فقير إلى الخلق.

98- قال بعض الحكماء: من أصبح لم يكن معه هذه الخصال الثلاث لم يصب طريق العزم: أولها كما أن الله لم يعط رزقك اليوم غيرك فلا تعمل لغيره، وكما أن الله لم يشارك فيما أعطاك أحد فلا تشارك في العمل الذي تعمل له - يعني الرياء - وكما أن الله لم يكلفك اليوم عمل غد فلا تسأله رزق غد على جور حتى إذا لم يعطك شكوته.

إذ لاحظت الأشياء منه كان لها طعم آخر

99- ليس بصادق من ادعى حبه (أي حب الله - تعالى -) ولم يحفظ حده.

سقوط رجل من درجةٍ,: ادعاؤها.

100- إذا عملوا على الصدق انطلقت ألسنتهم على الخلق بالشدة، وإذا عملوا في التفويض انكسرت ألسنتهم عن الخلق مبهوتين، الأول من صفة الزاهدين، والثاني من صفة العارفين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply