تزكية النفس


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الطريق إلى تزكية النفس يحتاج إلى معرفتها والتوصل إلى مساربها ومجال التأثير فيها حتى تحصل الصفة المستقرة الراسخة في النفس، قال - تعالى -: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}، وقال - صلى الله عليه وسلم -:\"إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه\".

 

النهج السديد في إصلاح الناس أن يبدأ الصالحون في إصلاح النفوس بتقوية جوانب العقيدة في النفس وتزكيتها وغرس معاني التقوى فيها وتحليتها من فجورها وانحرافها، فالرسول علل بعثته بتميم مكارم الأخلاق واعتبر الدين حسن الخلق وإن أثقل ما يوضع بالميزان وإن أفضل المؤمنين وأقربهم مجلساً يوم القيامة أحاسنهم أخلاقاً والتفريط عنه لا يغني عنه الصلاة والصوم ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه بأن يحسن خلقه ويهديه لأحسن الأخلاق ويصرف عنه سيئها، ولقد مدحه القرآن بهذا {و إنك لعلى خلق عظيم}.

 

و الطريق إلى تزكية النفس اعتياد الأفعال الصادرة من النفوس الزاكية الكاملة حتى إذا صار ذلك معتاداً بالتكرار مع تقارب الزمان حدث منها هيئة النفس راسخة بحيث يصير له بالعادة كالطبع فيخف عليه ما كان يستثقله من الخير فمن أراد أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلف فعل الجواد وهو بذل المال. ولا يزال يواظب عليه حتى يسير عليه فيصير بنفسه جواداً ولذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع وغلب عليه التكبر فطريقه في المجاهدة أن يواظب على أفعال المتواضعين مواظبة دائمة على التكرار مع تقارب الأوقات وكذا سائر الأخلاق والأعمال وكما أن عيار الدواء وكميته مأخوذ من مقدار العلة أو المرض حتى أن الطبيب لا يعالج قبل أن يعرف درجة الحرارة قوة وضعفاً وأحوال البدن والوقت والجو حتى يضع الدواء في موضعه فكذلك المربون وأطباء النفوس لا يهجمون على تلاميذهم بالتكاليف دون معرفة ما هم عليه من خلق وما هو الغالب عليهم من الخلق السيء ومقداره وملاحظة حاله وسنه وما يتحمله من المعالجة حتى يتسنى له العلاج فمعيار الأعمال مأخوذ من مقدار الصفات والأخلاق وهذه تختلف باختلاف الأشخاص وتختلف في حق شخص واحد باختلاف الأحوال فمن رزق البصيرة تتبع العلة وعالجها بطريقها، والنفس البشرية من أعقد المخلوقات، وقوى الإنسان أنواع متعددة منها:

 1ـ قوة التفكر وتهذيبها للوصول إلى الحكمة وهو الصواب وثمرتها أن يتيسر له الفرق بين الحق والباطل في الاعتقادات وبين الصدق والكذب في المقال وبين القبيح والجميل في الأفعال.

 

 2 ـ وقوة الشهوة وبإصلاحها تحصل العفة حتى تنزجر النفس عن الفواحش وتنقاد للمواساة والإيثار المحمود بقدر الطاقة.

 

3 ـ والقوة الغضبية قهرها وإصلاحها يحصل الحلم وهو كظم الغيظ وكف النفس عن التشفي وتحصل الشجاعة وهي كف النفس عن الخوف والحرص المذمومين في كتاب الله.

 

ولسهولة التربية وصعوبتها في الناس أسباب منها أثر التربية السابقة ومدة التأثير ونوع الإنسان فهناك مثلاً:

 

1 ـ إنسان غفل لا يعرف الحق من الباطل وهو الجاهل.

2 ـ ومنهم من عرف القبيح ولكن لم يتعود العمل الصالح بل زين له سوء عمله فصار جاهل وضال فيجب تجاهه قلع ما رسخ فيه من كثرة التعود للفساد وصرف النفس إلى ضده.

3 ـ ومنهم من يعتقد أن الأخلاق القبيحة هي الواجبة والمستحسنة وأنها حق ثم تربى عليها حتى صار لا يرجى إصلاحه إلا نادراً إذ تضاعفت عليه أسباب الضلال فصار جاهل وضال.

4 ـ ومنهم من ينشأ على الاعتقاد الفاسد وتربيته على العمل به بحيث يحسن في نظره ويتباهى به ويظن أن ذلك يرفع من قدره فيضحى من أجله حتى يصير بذلك جاهل وضال وفاسق وشرير.

فحسن الخلق هو إزالة جميع العادات السيئة التي فصلها الشرع وتعود جميع العادات الحسنة حتى كأنها تصدر منه وهو في غفلته وحتى يسهل فهم جوانب النفس الإنسانية لا بد من التعرف على أمهات الفضائل وفروعها والتي يحسن بالمربين التركيز عليها:

فأمهات الفضائل أربع هي: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة.

 

فأما الحكمة: فهي فضيلة القوة العقلية وهي وسط بين الخداع والمكر، والبله والغفلة، ومن فروعها حسن التدبير وجودة استنباط الأصلح والأفضل في تحصيل المصالح ودرء المفاسد وصواب الظن والفراسة والرجوع إلى الحق وجودة الذهن وهو القدرة على صواب الحكم عند اشتباه الآراء.

 

و أما الشجاعة فهي فضيلة القوة الغضبية وهي وسط بين التهور والجبن ويندرج تحتها من الفضائل الكرم وهو الإنفاق على الأمور الجليلة وهو وسط بين البذخ والبخل، والنجدة وثقة النفس من إقبال الموت وهي وسط بين الخسارة والهلع والحلم وسط بين سرعة الغضب وبطئه وهي حالة تكسب النفس الوقار، والثبات شدة النفس وبعدها عن الخور والنبل سرور النفس بالأفعال العظيمة، والشهامة الحرص على الأعمال توقعاً للأجر، والوقار بين التكبر والتواضع وهو وضع النفس موضع استحقاقها لمعرفته بقدرها.

 

و يندرج تحتها من الرذائل كذلك منها البذخ وهو الإنفاق فيما لا يجب من الزينة طلباً للتكبر والتكبر رفع النفس فوق قدرها، والنذالة الدناءة والافتخار بالأشياء الصغار، والبخل الإفراط في التقصير بالإنفاق خوفاً من الفقر، والشح بخل مع كره.

 

و العفة هي فضيلة القوة الشهوانية وهي وسط بين الشره والخمود.

 

و يندرج تحتها من الفضائل: الحياء وهو وسط بين الوقاحة والخنوثة وهو حفظ النفس عن إتيان الرذائل، والهدوء سكون النفس فيما تناله من اللذات الجميلة والمسامحة هو التجافي عن بعض الاستحقاق باختيار طيب النفس وهو وسط بين المشاكسة والإهمال، والورع تحري الحلال واجتناب ما يحرمه أو يكرهه الشرع والسخاء وسط بين التبذير والتقتير وهو سهولة الإنفاق وتجنب اكتساب الشيء من غير وجهه، الطلاقة المزاح بالأدب دون إفراط في جد أو هزل مع الابتسام أمام الناس، الدماثة حسن المعشر، حسن الهيئة محبة الزينة الواجبة بلا رعونة القناعة حسن تدبير المعيشة من غير طمع، حسن التقدير الاعتدال في النفقات دون التقتير والتبذير، والنظام حسن التقدير والمناسبة في الأوقات ووضع كل شيء في موضعه.

 

وأما رذائل العفة فهي الشره، والوقاحة تعاطى القبيح دون احترز من الذم، والتخنث التشبه بالنساء، والتبذير إفناء المال فيما لا يجب وفي الوقت الذي لا يجب، والتهتك المجاهرة بأضداد الفضائل مع الإعراض عن تزيين النفس بالفضائل، والإفراط في الجد والمجون وهو الإفراط بالهزل.

 

وأما العدالة فجامعه لجميع الفضائل والجور المقابل لها فجامع لجميع الرذائل.

 

وما من خلق من هذه الأخلاق إلا وقد ورد في فضائله أخبار باعثة عليه وفي رذائله زواجر عنه تطلب من كتب الآداب النبوية.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply