كيف ترق قلوبنا؟


 
 
بسم الله الرحمن الرحيم 

إن القلوب قد تعتريها القسوة، وتنتابها الغفلة، ولابد لها من دواء يزيل صدأ الغفلة، وغبار القسوة، ليظهر معدنها كريماً، فيه بريق الإيمان والرحمة. ومن أهم ما يرقق القلوب، ويجلو صدأها، ذكر الموت. يروى أن امرأة شكت إلى عائشة - رضي الله عنها - قساوة قلبها، فقالت لها: أكثري من ذكر الموت يرق قلبك، ففعلت ذلك، فرق قلبها، فشكرت عائشة - رضي الله عنها -. ومرض أبو الدرداء - رضي الله عنه - فقالوا له أي شيء تشتهيه؟ قال: الجنة، قالوا: أندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب أمرضني، فقال له رجل من أصحابه: يا أبا الدرداء: أتشتهي أن أسامرك الليلة؟ فقال له أبو الدرداء: أنت معافى وأنا مبتلى، والعافية لا تدعك أن تسهر، والبلاء لا يدعني أن أنام، ثم قال: أسأل الذي لا إله إلا هو أن يهب لأهل العافية الشكر، ولأهل البلاء الصبر. أخا الإسلام:

وإذا ابتليت بشدة فاصبر لها                         صبر الكرام فما يدوم مقامها

فالله يبلي كي يثيب فلا تضق                      ذرعاً بنازلة جرت أحكامها

ولرب يوم نازلتك خطوبها                             ثم انجلى قبل الظلام ظلامها

ولئن جزعت فليس ذاك بنافع                       إن الأمور قضى بها علامها

فاعلم يا أخا الإسلام أن الآمال تطوى، والأموال تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى، وأن الليل والنهار يسرعان يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد. أخا الإسلام: إن العبد الصالح ليعالج سكرات الموت وكرباته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض، تقول السلام عليك. لما حضرت حسان بن أبي سنان الوفاة قيل له: كيف تجدك؟ قال بخير إن نجوت من النار. قيل له ما تشتهي؟ قال: ليلة طويلة أصليها كلها. وقال عبد الله بن عتبة: عدت رجلاً مريضاً فلما قعدت عنده قلت له: كيف تجدك؟ فأنشدني:

خرجت عن الدنيا وقامت قيامتي                  غداة أقل الحاملون جنازتي

وعجل أهلي حفر قبري وصيروا                     خروجي وتعجيلي إليه كرامتي

كأنهموا لم يعرفوا قط صحبتي                      غداة أتى يومي علي وساعتي

ودخل المزني على الشافعي - رضي الله عنه - في مرضه الذي مات فيه فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى ربي - سبحانه وتعالى- وارداً، ولا أدري روحي صائرة إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم أنشد:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي                  جعلت الرجا مني لعفوك سلماً

تعاظمني ذنبي فلما قرنته                          بعفوك ربي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو عن الذنب                          لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما

وجاء رجل إلى مقبرة فأخذته سنة من النوم فرأى في منامه صاحب القبر. فقال له يا هذا: إنكم تعملون ولا تعلمون، ونحن نعلم ولا نعمل، والله لو تكون ركعتان في صحيفتي أحب إلي من الدنيا وما فيها. وقال ثابت البناني - رضي الله عنه -: دخلت المقابر لأزور القبور، وأعتبر بالموتى، وأتفكر في البعث والنشور، وأعظ لنفسي لعلها ترجع عن الغي والفجور. فوجدت أهل القبور صامتين لا يتكلمون، وفرادى لا يتزاورون، فأيست من مقالهم، واعتبرت بأحوالهم، فلما أردت الخروج إذا بصوت يقول: يا ثابت لا يغرنك صمت أهليها، فكم من نفس معذبة فيها. فيا أخي انتبه من رقدة الهجوع، وافزع إلى الله – تعالى-  بالتضرع والخشوع، فكأنك بالموت وقد فرق الجموع، وأخلى القصور والربوع، وأمطر عليهم سحائب الدموع، ونادهم المشوق بطرف باك وقلب موجوع:

معارف في الثرى هجوع                             فالقلب من بعدهم صدوع

تكدرت بعدهم حياتي                                فأوحشت منهم الربوع

كانوا سروري ونور عيني                             فما لها بعدهم هجوع

ماتوا فأودى لذيذ عيشي                            وبالأسى ذابت الضلوع

يا نفس كم من جموع وصل                        فرقها البين والولوع

يا نفس للموت فاستعدي                           فالموت إتيانه سريع

فلا مليك ولا شريف                                   في الدهر يبقى ولا وضيع

ولا سعيد ولا شقي                                   ولا عصي ولا مطيع

يا نفس إن الأصول ماتت                             فما عسى تنبت الفروع

قال مالك بن دينار - رحمه الله - عليه: أتيت القبور على سبيل الزيارة والتذكار، والتفكر في الموت والاعتبار، فتمنيت من يخبرني عنهم بخبر، أو يقص لي من آثارهم بعض أثر، فقلت بلسان أحزاني، ما قدحت زناد أشجاني من الفكر:

أتيت القبور فناديتها                                   فأين المعظم والمحتقر

وأين المدل بسلطانه                                 وأين العزيز إذا ما افتخر

قال: فنوديت من بين القبور وأنا بالوجد مغمور:

تفانوا جميعا فلا مخبر                                وماتوا جميعاً وصاروا عبر

وعادوا إلى ملك عادل                                عزيز مطاع إذا ما أمر

فيا سائلي عن أناس مضوا                         أما لك فيمن مضى معتبر

قال مالك بن دينار: فرجعت أبكي الدموع الغزار، واعتبرت بذلك أي اعتبار. قال بعض الصالحين: زرت مرة القبور حين عج بقلبي لهيب النار، فأقمت عندها برهة من الزمان أنظر لها بعين الاعتبار، وأناجي صرعاها بالعشي والإبكار، وأجلس إليها في الأصائل والأسحار، فجال فكري في مجال التفكر والاعتبار، بخطاب نظمته من محاسن الأشعار:

 أحبابنا فارقتمونا فأوحشت قلوب                 لنا من بعدكم وديار

فكم قد تذاكرنا محاسن من مضى                فجاءت دموع الفراق غزار

قضوا وقضيتم ثم نقضي فلا                         بقا لحي وكاسات المنون تدار

وكنا وإياكم نزور مقابراً                                ومتم فزرناكم وسوف نزار

سقت ديمة الرضوان رياً ثراكمو                     وسحت لها في ساحتيه بحار

فيا من ركن إلى الدنيا بإقامة وثبات، احذر أسد الموت فإن له وثبات. كيف تركن إلى اللذات وقد جاء في طلبك الممات. واعتبر يا هذا بمصارع الهالكين، ففيهم لدى التفكر عظات. روى الفضيل بن عياض قال: كنت آتي قبر أبي المرة والمرتين، وأكثر زيارته، فشيعت يوماً جنازة إلى المقبرة التي فيها أبي، وكان ورائي شغل، فتعجلت الرواح فلم أزره، فلما كان الليل: رأيته في المنام، فقال: يا بني إنك أتيت بالنعش ولم تأتني، فقلت: يا أبت وإنك لتعلم بي إذا أتيتك؟ فقال: أي والله يا بني، إنك لتأتيني فلا أزال أنظر إليك حين تجوز القنطرة إلى أن تصل إلي، وتقعد عندي، ثم تقوم، فلا أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة. ويروى أن فارساً أمر بغلام فسأله يا غلام أين العمران؟ فقال له: اصعد الشرف، فصعد فأشرف على مقبرة فقال: إن هذا الغلام إما جاهل وإما حكيم، فرجع إليه فقال له: سألتك عن العمران، فدللتني على المقابر، فقال الغلام: إني رأيت أهل تلك ينقلبون إلى هذه، ولم أر أحد ينقلب من هذه إلى تلك، وإنما ينقلب من الخراب إلى العمران، ولو سألتني عما يواريك ودابتك لدللتك. ثم أنشد:

يا نفس زوري القبور واعتبري بها                  حيث فيها لمن يزور عظات

فانظري كيف حال من حل فيها                     بعد عز وهم بها أموات

حرصوا وأملوا كحرصك يا نفس                      وأوفاهم الحمام فماتوا

فالسراة العظام منهم عظام                        في بطون الثرى حطام رفات

فكأن قد حللت في مصرع القوم                   وحلت بجسمك المثلات

نقلا من كتاب أصحاب النفوس المطمئنة للشيخ عبد الحميد كشك - رحمه الله -

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply