بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام وكفى بها نعمة، وجعلنا من أتباع خير الأنام ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكفى بها منة.
فسبحان من أنعم علينا وتفضل، وأسبغ عطاياه وأسبل، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ونشهد أن محمداً عبده المجتبى ورسوله المرتضى ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ـ أما بعد:
فلقد مدح الله تعالى عباده المتقين والذين استحقوا جنات في عليين فقال سبحانه: { كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيلِ مَا يَهجَعُونَ * وَبِالأَسحَارِ هُم يَستَغفِرُونَ }[الذاريات:17- 18].
وروى الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أفضل الصلاة بعد المكتوبة ؟
فقال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة في جوف الليل).
فهذه العبادة الرفيعة قيام الليل من أجل العبادات وأفضل القربات، بل هي شرف المؤمن ورفعته كما جاء في الحديث عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل)(1) فهي عنوان المجاهدة ودليل الصدق والمصابرة.
وأي دعوة تريد أن تستقيم إلى الله فبابها الصلاة، فإن أخطأته تاهت خطاها ولن تصل إلى مبتغاها ـ ولقد قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه عاماً كاملاً قبل أن ينزل التخفيف، قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يرقـد حينما أمره ربه بذلك، قال تعـالى: { يَا أَيٌّهَا المُزَّمِّلُ { 1 } قُمِ اللَّيلَ إِلَّا قَلِيلاً { 2 } نِصفَهُ أَوِ انقُص مِنهُ قَلِيلاً { 3 } أَو زِد عَلَيهِ وَرَتِّلِ القُرآنَ تَرتِيلاً { 4 } إِنَّا سَنُلقِي عَلَيكَ قَولاً ثَقِيلاً { 5 } إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيلِ هِيَ أَشَدٌّ وَطئاًً وَأَقوَمُ قِيلاً { 6 } إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبحاً طَوِيلاً { 7 } وَاذكُرِ اسمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّل إِلَيهِ تَبتِيلاً }[المزمل: 1- 8].
تربى أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على معنى المجاهدة في الله، وذاقوا حلاوة الإيمان بالله الواحد الأحد . نعم \" إن سجود المحراب واستغفار الأسحار ودموع المناجاة: \"سيماء يحتكرها المؤمنون .. ولئن توهم الدنيوي جناته في الدينار والنساء والقصر المنيف فإن جنة المؤمن في محرابه\"(2).
وهكذا يجد المؤمن متعتة وراحته ولذته في الوقوف أمام الله تعالى حتى يخرج من قيود الأرض وأثقال الشهوات وظلمات الدنيا إلى فضاء فسيح طيب مبارك يتنسم فيه عطر الجنات ونعيم الروضات في تشابه ملائكي واستعلاء سماوي، فمن يدانيه في رفعته ؟! ومن يساميه في فرحته ؟!.
هذا الوصف فكيف المشاهدة ؟!
إن المؤمن يستمد قوته وطاقته من هذا اللقاء السماوي حينما تلتقي الأرض بالسماء في ساعة يتنزل فيها ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ فيقول: هل من سائل فأعطيه ؟ وهل من مستغفر فأغفر له ؟.
فإذا بالمؤمن الصادق يتملق ربه ويستعطفه ويستهديه فتنزل الرحمة وتغشاه السكينة وتحيطه سحابة القرب بالمغفرة والعفو.
ولقد علم السلف الصالح ـ رحمهم الله ـ فضل هذه العبادة، وشرف هذه الطاعة، فكانوا في التنافس فيها على درجة عالية ومنزلة سامية فرحم الله أعظماً طالما نصبت وانتصبت، إن ذكرت قلوبُهم عدلَه رهِبت وهَربت وإن تصورت فضله فرِحت وطَرِبت.
وحسبك أن قوماً موتى تحيا بذكرهم القلوب وأن قوماً أحياء تقسو برؤيتهم القلوب ـ وهؤلاء الصالحون لم يشاهدوا مع الإخلاص والاجتهاد سوى التقصير في حق سيدهم ومولاهم، ينادي واحدهم بلسان الخوف والرجاء:
اعف عني وأقلـــني عثرتي يا عتادي لملمــــــات الزمن
لا تعاقبني فقــــــد عاقبني ندم أقلق روحي في البـدن
ولقد اشتهر بقيام الليل كله جماعات من السلف رحمهم الله، فمنهم سعيد بن المسبب وصفوان بن سليم ومحمد بن المنكدر المدنيون والفضيل بن عياض المكى وطاووس ووهب اليمانيان والربيع بن خثيم الكوفي، ويزيد الرقاشي وحبيب العجمي ويحيى البكاء وكهمس ورابعة البصريون، وخلق كثير لا يعلمهم إلا الله.
كحلوا أعينهم بالسهر، وشغلوا خواطرهم بالفكر، وأشغلوا قلوبهم بالعبر ـ نازلهم الخوف فصاروا والهين، وجَنَّ عليهم الليل فرآهم ساهرين، وهبت رياح الأسحار فمالوا مستغفرين، فإذا رجعوا وقت الفجر بالأجر نادى منادى الهجر:يا خيبة النائمين.
هم أحسن الناس وجوهاً، قيل للحسن: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً ؟! قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
أفلا تشتاق لأن تنضم إلى قافلة السعادة والنجاة ؟!
إن الدعوة إلى الصلاة في جوف الليل دعوة للعمل والجهاد، فإن الله تعالى لن يرفع هذه الأمة إلا برجال ونساء صالحين عرفوا طريق الحق وسلكوا درب الكرامة وعلامتهم ... قيام الليل.
(1) رواه البيهقى في شعب الإيمان وأبو نعيم في الجلية وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد