لأن هذا طريق الخلود


 
 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
دمعت العيون، وحبست الأنفاس، وكان العجب والاستغراب هو لسان حال كل من رآها، بل إن بعضهم تساءل هل هي مثلنا نحن باقي البشر. كيف استطاعت فعل ذلك، وأي قلب تحمله بين جنباتها أعانها على تحمل ذلك الموقف ونحن مثلها آباء وأمهات ولا نظن أننا سنقدر على ما قدرت عليه، ما الذي دفعها لتقدم ولدها بنفسها للموت. بكل هدوء وثبات أعجز اللسان والبيان عن التعبير عنه.

هل تريدون إجابة لهذه الأسئلة..أعتقد أنني أستطيع أن أجيبكم على بعضها..

بداية معكم كل الحق في السؤال والاستغراب فنحن في زمن لم يعرف منذ زمن الكثير من المعاني التي لا تفجرها إلا المحن ومشاعر القهر والإحساس بالظلم..

تلك الأم العظيمة التي أذهلت العالم كونوا على ثقة أنها لازلت تذكر ولدها جنينا يتحرك في أحشائها. يتنفسان نفس الهواء معا. تغذيه من دمها. تدفئه في رحمها. وتطرب على حركاته بداخلها التي تؤكد لها أن هناك روحا تعيش في داخلها.. كانت رحلة حمل طويلة توثقت خلالها علاقتها به. وازدادت شوقا أن تراه حقيقة ماثلة أمامها تمسكه. تقبله. وتحنو عليه. وما إن حملته بين ذراعها حتى تفجرت مكنونات أمومتها وبدأت تشعر أنها لا تستطيع البعد عنه كانت تخاف عليه من نسمات الهواء أن تؤذيه أصبح لها في هذه الحياة الأمل والغد والمستقبل. بدأت في تعليمه وأخذت تحلم كيف سيكون مستقبله. وكانت تتمنى في داخلها أن يكون مستقبله كباقي البشر. ولكن.. هذا محال لأنها لا تعيش حياة كباقي البشر.. فمن يعيش الظلم كل يوم وكل لحظة وحين، لن يكون إنسانا عاديا.. ومن ترى الألم في عيون أبنائها ليل نهار لن تكون أما عادية.. ولن تربي أولادها تربية عادية، أولاد أرض الرباط رضعوا حليب القهر والبغض لبني صهيون، وفطموا على صوت الرصاص. ودرجوا في مدارج الدماء، وتعلموا في مدارس الجهاد، وتخرجوا منها شهداء، هم هناك يستيقظون ولا ينتظرون المساء.. وينامون -إن استطاعوا لا ينتظرون الصباح- يخرج الأب إلى عمله و الأولاد إلى مدارسهم وهم لا يأملون العودة وربما ودعوا بعضهم فقد لا يتجدد اللقاء. وهكذا كل يوم.. هم فعلا لا يحيوا كما البشر.. ولكنهم لا يحزنوا لأنهم في أرض رباط وجهاد. ولأن حياتهم في فلسطين ليست كحياتنا خارجها. وتختلف في أعينهم معاني الحياة الكريمة الأبية ويفهموا البذل والتضحية بغير الطريقة التي نفهمها وظروف الحياة التي يعيشونها تؤثر في معتقداتهم بل وفي بديهيات حياتهم وأولوياتها، ومن يعيش الألم والقهر والأسى واقعا لا كمن يستشعره عن بعد ويعيشه كل يوم بألم أشد من الذي قبله فلا مجال أن ينسوه وإن حاولوا فستذكرهم به عيون أطفال يتامى وأمهات ثكالى. وأيادي عرائس رملت ولم يجف حناءها بعد. خنساء فلسطين لسان حالها يقول: ما عادت مشاعر العجز تقتلنا وما عادت الدموع تعني لنا شيئا. لقد تجاوزنا مرحلة الضعف والبكاء، و لم نعد نؤمن بالكلام فمن يسير على الدماء. ويتكئ على الجراح. ويبتلع الآهات تلو الآهات. لا يستطيع إلا أن ينظر في اتجاه واحد. الانتقام لكل حبيب مات أو شرد أو أهين. ولا نفهم الانتقام هنا بمعناه البغيض، إنما القصد به الانتصار للحق المسلوب، واسترداد الأرض المغتصبة، فبدأنا نعلم أولادنا فن الموت كما تعلمون أولادكم فن الحياة، نعلمهم كيف يصنعون موتهم ويخططون له ويذهبون إليه. وكيف يحبونه. ونعلم أنفسنا كيف نحبه لهم فأولادنا إما أن يعيشوا شرفاء مكرمون.. أو ليموتوا شهداء سعداء، وإيماننا عميق أن الأعمار أقدار مقدرة لا تنقصها شدة ولا يزيدها الرخاء..

و كل أم في فلسطين تعلم أنه لم يعد في مقدور أولادها تحمل الذل والاحتلال أكثر. وإنهم قنابل موقوتة ستنفجر في أي لحظة. إن ناموا فهم يحلمون بالدمار والقتال. وإن استيقظوا رؤوا أحلامهم واقعا. ومعظم أمهات فلسطين فرض عليهن أن يكن أمهات شهداء.. و بطلتنا كانت تعلم أن ولدها ليس أقل من غيره شجاعة ورفضا للذل والهوان. ورفضت أن ترضى له البقاء في أحضانها وداعي الجهاد ينادي والأرض تستغيث. آثرت أن تختار أن تكون أما لشهيد. لا أن يفرض عليها ذلك، آثرت أن تسير مع ولدها منذ بداية الطريق تسانده. تشجعه.. تدعو له.. تثبته.. ثم تزفه.. كان من السهل عليها أن تقهر إحساس الأمومة في داخلها؟ لا وألف لا.. كان من السهل عليها أن تودع ابنها وهو في طريقه للموت؟ لا وألف لا، كان من السهل أن تعد له آخر وجبة يأكلها؟.. أو تراه يسير آخر خطوة يسيرها؟ أو تقبله وتحضنه وتلقي آخر نظرة إلى عينيه الحبيبتين البراقتين وهي تعلم أنها لن تراه بعد الآن إلا جسدا بلا روح؟ لا وألف مليون لا،

وكيف تظنونها قضيت آخر ليلة معه؟.. هل كانت سهلة؟. طبعا لا

وكيف كان قلبها يخفق وهي تراقب الساعات والثواني وتدعو الله أن بثبت ولدها ويسدد رميه، هل كان الانتظار سهلا؟ أم أنه كاد أن يوقف قلبها خوفا؟ ولكن أي خوف هل خوف الموت؟ لا بل كانت تدعو ألا يعود إليها إلا شهيدا، وخوفها كان أن يخفق، أو يقبض عليه الأعداء.

لقد علمت أن هذا الطريق هو الذي سيضمن لولدها الخلود فرحبت به.. و أن كان هذا هو ثمن طريق الجنة فلم لا وأي أمنية هي أغلى من الجنان.

هذه الأم العظيمة أرادت لولدها أن يعلم أنها معه تدعو له راضية عنه.. وليس له أن يكتب في وصيته طلب مسامحتها له أو الرضا عنه.. ليس له أن يضطر أن يعمل في الخفاء عنها.. بل له أن يخبرها وسوف تكون أول من يساعده.

بل أن هذا الأمر سيوفر على ولدها مشاعر ألم قد يشعر بها أن ظن أن ما يفعله قد يؤلمها أو يسبب الحزن لها لا. لن تجعله ينظر للوراء ولو لحظة فأمه معه وتدعو له وهل هناك أعظم من دعاء الأم لولدها. أرأيتم لقد تميز ولدها إنه ذهب في مهمته وهو يحمل سلاحه- الذي أصرت عليه أن يجمع ثمنه من ماله الخاص. - وعتاده وإيمانه وقلب أمه الراضي عنه.. ربته وأعدته سنوات طوال ليزف للحور العين بأفضل حال، وعندما حان وقت حصاد ثمار تربيتها التي أينعت. ودعته شهيدا إلى جنان الله. والحمد لله أكرمها الله أن أعاده لها شهيدا وقبلت حبيبها ونور عينها الذي دعت الله أن يوفقه ويسدد رميه.

فلأنها تحب ولدها اختارت له طريق الخلود،، والخروج من ضيق الأرض إلى رحابة الجنان، والتخلص من قهر وظلم الأرض لينعم بعدالة رب السماء. وأن يقهر بعمله الظالمين ويشف صدور المؤمنين. ولأنها أحبت بلدها قدمت لها أغلى ما تملك.. هي أنجبت ولدها مرتين، مرة في الصغر ومرة يوم استشهاده حيث ضمنت له الحياة الكريمة التي تتمناها كل أم لولدها، ثم إنها ليست أقل حبا لوطنها من ولدها، وكل يعبر عن حبه وهواه بالطريقة التي يراها مناسبة وكانت طريقتها (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وهل تحب أكثر من ولدها؟ هناك من يقدم المال. وهناك من يقدم الكلام، وهناك من يقدم مهج القلب ولن تستطيع هذا إلا من امتلأ قلبها بالإيمان بالله أولا. وهانت عليها الدنيا وسمت روحها نحو المعالي وأصبحت تنظر للأرض من علٍ,، لها نفس تواقة. طموحة، لا ترضى بأقل من الجنان لأولادها وذريتها، الثمن غال نعم.. ولكن كما قلنا إن كان ثمن الجنة مهج القلب فإلى جنان الله يا ولدي، ولا ننسى هي أيضا ستنال إن شاء الله شفاعة... لأن الشهيد مشفع بسبعين من أهله.

وأنت يا أم الأبطال. علمينا مما علمك الله. لقد أحييت فينا الأمل أن الزمن الذي كنا نعتقد انه لن يعود عاد على يديك. فتحت أمامنا أبوابا من الجهاد واشتاقت كل واحدة منا أن تنجب الولد تلو الآخر لتهبه لله. وإن رزقت بأنثى فأهلا ومرحبا. إن كانت مثلك صانعة رجال. ومصنع أبطال. وأما لشهداء.

فرضي الله عنك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر... وجمعك وابنك الحبيب في الفردوس الأعلى إن شاء الله.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply