مراد كورناز المتهم البريء في جوانتانامو


 
 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
من هو مراد كورناز؟

ولد مراد كورناز في بريمن بألمانيا في 1982، وكان والداه قد هاجرا من تركيا في السبعينيات من القرن الماضي.

عقب زواجه أصبح مراد متديناً بصورة متزايدة، فراح يصلي في مسجد أبو بكر بدلاً من المسجد الذي تؤمٌّه العائلة، وبحسب ما ذُكر أصبح شديد السخط بشكل متزايد حيال ما رأى فيه اضطهاداً للمسلمين في شتى أنحاء العالم، وبعد ما يقل عن شهر من هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة ذهب إلى باكستان، حيث اتهمته الولايات المتحدة بالانضمام إلى القاعدة، غير أن لجنة مراجعة أمريكية قالت في وقت لاحق: إن تلك الاتهامات لا أساس لها، وتم الإفراج عنه الشهر الماضي.

خمس سنوات تلك التي قضاها الشاب التركي المولود بألمانيا \'مراد كورناز\' داخل معتقل جوانتانامو يتجرع ألواناً متعددة ومتباينة من كأس العذاب والهوان، وقد تم أخيراً إطلاق سراحه قبل نحو شهر من الآن بعدما ثبتت برأته من كل التهم المنسوبة إليه، وعلى الرغم من رفضه القاطع لمقابلة وسائل الإعلام والحديث عن تلك التجربة المريرة إلا أن النائب البرلمان الأوروبي \'سيم أوتسدمير\' قام بزيارته في منزله بمدينة بريمن الألمانية، ومن ثم كتب التقرير التالي لمجلة \'ديرشبيجل\' حول تلك الزيارة التي لم ينجح أيضاً خلالها في إخراج \'كورناز\' من عزلته التي يعيشها بعد الإفراج عنه.

حينما ألتقي وأتقابل مع إنسان قضى خمس سنوات من عمره في المعتقل دون ذنب جناه، ودونما أية جريمة يعاقب عليهاº فإنه يصبح من الصعب عليَّ أن أتمكن من صياغة مشاعري وأحاسيسي الداخلية خلال تلك المقابلة في كلمات وجمل.

فـ \'كورناز\' البالغ الآن من العمر 24 عاماً اضطر إلى أن يضيع فترة زمنية ليست بالقصيرة من عمره، وهي الفترة التي تقدر بنحو خمسة أعوام [تزوجت خلالها، وصرت أباً، ونجحت في الحصول على عضوية البرلمان الأوروبي] قضاها دون محاكمة، وفي عزلة تامة، وفي ظروف ربما أدت بغيره إلى الانتحار.

كان مراد يحيا حياة طبيعية تماماً كغيره من الشباب ممن هم في مثل سنه، يلعب الجيتار، ويستمع للموسيقى، ويرغب في تكوين أسرة، وأن يصبح أباً، ويحب الرياضة، ويلعب الكرة مع أقرانه، إلا أن زيارته التي قام بها إلى باكستان في أكتوبر عام 2001 من أجل تعميق معارفه الإسلامية، وزيادة معرفته بالقرآن قلبت كل الموازين، وقادته إلى هذا المصير المظلم.

وقد علق مسئولو البيت الأبيض في واشنطن على رحلة \'كورناز\' إلى باكستان بسخرية واقتضاب قائلين: \'مراد كورناز ذهب في الوقت الخطأ إلى المكان الخطأ\'، دون عناية أو اهتمام بمصير شاب في مثل هذا السن.

وعلى الرغم من ثقة المسئولين الأمريكان في برأة \'كورناز\' إلا أنهم قاموا باعتقاله، وبالرغم أيضاً من أن واشنطن وبرلين أدركتا سريعاً نقص الأدلة، وضعف الاتهامات ضده إلا أنهما لم يسعيا لإطلاق سراحه، وأبقياه رهن الاعتقال لمدة خمس سنوات كاملة.

حينما قررت الذهاب إلى \'كورناز\' وزيارته في بيت عائلته ببريمن هيأت نفسي أنني سوف أرى شخصاً منكسراً ومحطماً نفسياً، وهو بالفعل ما وجدته ولمسته لكنه غير مقتنع بضرورة خضوعه للعلاج النفسي في الوقت الحالي.

خرجت من اللقاء معه بقناعة مفادها أن \'كورناز\' لم يفقد انسجامه مع الحياة ومع من حوله بغض النظر عن تلك الحالة النفسية السيئة، لاحظت أنه على الرغم من قلة كلامه، ومن عينيه الضعيفتينº إلا أن لديه شغفاً وتطلعاً للمستقبل كما لو أن لديه يقيناً بأن أحداً غيره لن يستطيع أن يمنحه تعويضاً عن كل تلك السنوات المهدرة من عمره، وأنه وحده القادر على ذلك من خلال العثور على وظيفة - ولا سيما أنه يجيد العربية والإنجليزية والألمانية والتركية - ربما تكون هي أولى خطواته للخروج من تلك العزلة التي يعيشها، والتي وجد نفسه مضطراً للبقاء فيها.

استهللت حديث مع والدته \'ربيعة كورناز\' متحدثاً بالتركية قائلاً: \'أتمنى أن يتغلب على الماضي سريعاً، ويتحسن بصورة أفضل\'.

لقد خاضت تلك الأم صراعات على مدار خمسة أعوام من أجل الإفراج عن ابنها في وقت غيرت هجمات سبتمبر 2001 مفهومنا عن الديموقراطية والحرية والأمن، في وقت أعلنت الحكومة الألمانية السابقة بقيادة \'جيرهارد شرودر\' معارضتها الصريحة للحرب ضد العراق إلا أنها في الوقت ذاته لم تنظر وتتابع وتهتم بالوسائل التي اختارتها المخابرات المركزية الأمريكية [CIA] بالتعاون مع مخابرات بعض الدول الأوروبية في الحرب ضد الإرهاب.

ولو زعمت الحكومة الألمانية السابقة أنها كانت لديها دراية ومعرفة بتلك الوسائل المتبعة فإننا نجد أنفسنا أمام سؤال هام وضروري يطرح نفسه بقوة ألا وهو: لماذا لم تقم حكومة شرودر وغيرها من الدول الأوروبية بعمل اللازم تجاه تلك الوسائل التي تنوعت بين الاختطاف والاعتقال لأجل غير معلوم دون محاكمة؟

إن كل من يعتقد بأنه من غير الممكن أن يكون هناك نظاماً يعتمد على السجون السرية وخطف المتهمين الحقيقيين أو المشتبه فيهم بالانتماء إلى القاعدة وتعذيبهم، وانتهاك حقوقهم الإنسانية بما يخالف كل الاتفاقات الدوليةº فإنه بحاجة إلى تصويب اعتقاده وقناعاته.

من وجهة نظري أرى أن الحكومة الألمانية الحالية مطالبة بالبحث عن إجابة لسؤالين هامين يفرضان نفسهما الآن، وهما:

ألم يكن من الممكن إطلاق سراح كورناز من جوانتانامو مبكراً، وقبل أن يمضي على بقائه بالمعتقل خمس سنوات؟ وهنا أود أن أشير إلى أن المحامي \'برنارد دوك\' ذكر أمام أعضاء لجنة التحقيق الأوروبية بشأن أنشطة المخابرات المركزية الأمريكية\' CIA\' في أوروبا أن الولايات المتحدة عرضت على برلين إعادة \'مراد كورناز\' في عام 2002 بعد أن أثبتت التحقيقات معه عدم وجود علاقة له بهجمات سبتمبر، إلا أن رد الحكومة في برلين كان مقتضباً، وجاء في جملة واحدة ألا وهي: \'نحن لا نريده\'.

مضيفاً أن برلين لم تكتفِ برفض استعادة \'كورناز\' بل إنها أمدت أمريكا بكل المعلومات اللازمة عنه خلال فترة اعتقاله في جوانتانامو.

أما السؤال الثاني: ما هي نتائج وتداعيات \'قضية كورناز\' على موقف الحكومة السابقة من ملف حقوق الإنسان؟

يلاحظ المتابع لقضية \'مراد كورناز\' أن أحداً لم يتطرق حتى الآن إلى طبيعة الدور التركي في عملية الإفراج عن \'كورناز\'، باعتباره يحمل الجنسية التركية.

على الرغم من تمتعه بالجنسية التركية والتي تستوجب وتستدعي الحصول على الحماية والرعاية الدبلوماسية التركيةº إلا أنني علمت أن مسئولاً تركياً قام بزيارة \'كورناز\' في معتقل جوانتانامو، وهو الأمر الذي استبشر به خيراً، إلا أن الواقع كان مؤلماً، حيث أن هذا المسئول لم يستطع تقديم أي حماية أو دعم لكورناز، بل على العكس اكتفى بقوله: \'تركيا لن تستطيع مساعدتك طوال فترة احتجازك على أيدي الأمريكان\'.

الغريب أن القنصلية التركية في مدينة \'هانوفر\' سارعت بالاتصال بـ\'كورناز\' عقب الإفراج عنه لا لتهنئه وتواسيه بل جاء الاتصال لتخبره بأنه مطالب بأداء الخدمة العسكرية الإجبارية في تركيا، وهنا يلوح لي سؤالً في الأفق أتمنى أن أجد إجابة له لدى المسئولين الأتراك: أليست واجبات المواطن تقاس بنفس المقياس الذي تقاس به حقوقه؟ أم أن أنقرة لا تتذكر إلا واجبات مواطنيها، وتتناسى حقوقهم؟!

في النهاية ليس بإمكاني رسم صورة مجملة عن \'كورناز\' بعد لقائي به، ولا عن الأسباب التي دفعته للسفر إلى باكستان عام 2001، ولكن ما بإمكاني أن أجزم به هو أن كورناز لا يمثل صوت التعصب أو التطرف، كما أنه ليس استشهادياً بالصورة التي أتخيلها عن هؤلاء الاستشهاديين.

ربما جاء سفره على كورناز من أجل البحث عن ذاته، والتعرف على القيم الصوفية التي شغف بها، وأنا لا أرى أن السفر إلى باكستان يستوجب السجن كل هذه المدة، فأنأ أعرف أشخاصاً من ألمانيا قرأوا بعض الروايات الأدبية ثم سافروا بعدها إلى الأماكن الحقيقية للأحداث من أجل التعرف أكثر على تلك الأماكن.

ولا أنسى قول الأم بأن الحكومة الأمريكية الحالية أساءت على مظهر الولايات المتحدة، وأفقدتنا ثقتنا في الاختيارات الأمريكية للحرب ضد الإرهاب.

والسؤال الذي أطرحه في آخر مقالي: هل كل شخص يتحدث بهدوء وحكمة، وذو لحية كثةº ينبغي أن نعتبره أصولياً متطرفاً سيئاً؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply