الميكانيكي


 

بسم الله الرحمن الرحيم
أوقفت سيارتي في نفس المكان الذي تعوّدت أن أوقفها فيه.. لم تكن هذه هي الزيارة الأولى لي إلى هذا المكان، فقد تعوّدت أن أقوم بفحص دوري للسيارة كلما شعرت بالحاجة إلى ذلك، ولأنني لا أعرف من مهارات الميكانيك أي شيء، فلست من النوع المهمل في التعامل مع السيارة.

لم يكن قاسم كبيراً في السن، وإن كنت أقرأ في ملامحه تجاعيد الأربعين.. بدا لي كشجرة مهملة لم يتعهدها أحد بالري والتشذيب.. فجفّت بعض أغصانها واصفّرت.. ونمت من حولها الأعشاب فزاحمتها على الحوض، وهكذا هي حال ذلك الشاب المغترب. كان ضعيف البنية، لوحت الشمس بشرته فبدا لونه محترقاً، يظهر التعب على وجهه، وتغار عينه في حزن ورجاء.. تقرأ في ابتسامته مرارة العمل وطلب الرزق، وتعب الغربة والتفكير في الأهل.

- هل تحتاج إلى تغيير الزيوت؟

- يمكنك أن تسير عليها مدة إضافية.

- لا بأس أفضّل أن أغيرها الآن.. ربما لا أجد وقتاً فيما بعد.

ذهب مسرعاً ثم عاد يحمل في يده زجاجة باردة دفعها إليّ وابتسم، وأصر عليّ أن أشربها.. ثم بدأ في عمله صامتاً.

- عدت للحديث معه ثانية.. أنت مغترب.. أليس كذلك؟

- نعم، أنا كذلك.. وابتسم لي في سذاجة.

- أهلك معك هنا.. أم أنك تركتهم في البلاد؟

- سرت لحظة صمت.. شعرت كأنها سيف مزّق تقاسيم وجهه.. وقبل أن أسمع الإجابة كنت قد رحلت إليهم هناك في قرية صغيرة تقع على قمم الجبال.. ورأيت البيوت الحجرية القديمة.. والأغنام تسرح مع خيوط الفجر إلى المراعي الصخرية تلتمس عشبة تظهر من بين الصخور.. وأطفال في ثياب شبه ممزقة.. أو في رقع مجتمعة إن صح التعبير.. وأيقظتني إجابته من غفلتي.. تركتهم هناك في البلاد مع بقية الأسرة.

انشغل قاسم بالسيارة ينظفها.. ثم ذهب وعاد حاملاً خمس علب صفّها فوق منضدة تشبّعت بالزيت.. وأخرج من جيبه قطعة حديد مُدبّبة في طرفها، ووفي الطرف الآخر تشبه السكين التي يستخدمها الفنان في النقش على الخشب، وبهدوء فتح العلب وعاد إلى السيارة يحملها وقمع بيده، مسحه، وبدأ في صبّ الزيت.

- هل تفكر في السفر؟

- نعم.. لابد أن أسافر، ولكن ليس في الفترة الحالية.

- متى تنوي السفر؟ كنت أتأمل في ملامحه المنكسرة.. كان فيه شيء عَجَزتُ عن الوصول إليه.. نوع من الذل أو الشعور بالغربة، أو المرارة، لا أدري ما هو بالضبط، ولكنه كان شيء يجعلك تشعر به وتشفق عليه.

- ربما بعد سبعة أشهر أو ثمانية.

- أتشعر بالراحة هنا؟

- أنا مرتاح.. ويوجد لي قريب هنا يزورني بين فترة وأخرى.

قلّبت نظري في ملابسه.. بدت لي الملابس متشبعة بالزيت.. تعمّدت ألاّ يراني أنظر إليه هكذا.. مع أنني متأكد أنه لن يهتم بنظراتي.. لم يكن من النوع الشكّاك، أو الذي يؤول نظرتك.. بدا ساذجاً بسريرة صافية.. أطهر من أن يحمل في نفسه حقداً على أحد.

انتهى من تغيير الزيت، ولكنني أردت أن أبقى معه فترة أطول.. شعرت أنه أهزل مما تصورت في البداية.. ترى لماذا تغيّرت نظرتي له؟

بدأ يحدثني عن الأمطار في بلاده.. عن الربيع.. عن الناس البسطاء.. وابنه أحمد الذي سيبدأ في الدراسة هذا العام.. كنت أسافر معه في قصته البسيطة.. يرويها لي بأحرف عامية، لكنني شعرت ببلاغتها تهزأ بأقلام الكتّاب.. لم تكن القصة تروي شيئاً معيناً.. كان ينتقل من نقطة لأخرى.. شعر بالأنس لي فبدأ يحكي لي تفاصيل غربته.

- انتهيت من السيارة.

- هل ترى الماء إذا تكرمت.

فتح علبة الماء.. ثم ذهب وعاد حاملاً ماءً أخضر وأخذ يصبه في السيارة.. اختلفنا في الحساب.. لم يكن يريد أن يأخذ المبلغ الذي دفعته إليه.. أصر وازداد إصراري.. ومع قسمي عليه قبل بالمبلغ وهو مطأطئ الرأس.

انطلقت بسيارتي.. ولكنني كنت في مكاني معه.. أفكر في أسرة تعيش في الجبال ينتظر أبناؤها ثمن علبة زيت يعيشون بها ويتعلمون بثمنها..ومن هذه المعيشة البسيطة تخرج قلوب صافية كقاسم.متصلة بربها.. متفانية في عملها.. مستقرة في مشاعرها.. قنوعة لا ينغص عيشها سوى الشعور بالشوق لمن تحب.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply