أبو الطيب أفسد حلاوة العيد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال أبو ماجد: كاد عبد المجيد أن يهلك بين أيدينا.

ففي الوقت الذي تستجلب فيه الرحمة والمغفرة، في أواخر الشهر الفضيل، ويُغفل عمّا سواهما دندنت بما قاله ابن الحسين رغماً عني. وأوجست خيفة لم أعهدها من قبل من قوله \"فليت دونك بيدٌ دونها بيد\". ولقد كان المنزل وقتها خالياً من المضادات الحيوية والمسكنات بأنواعها، من فضل الله تعالى، مما خفف من وطأة الخوف وبدد بعض إرهاصات التعب. وقبل أن يهل العيد اجتاحت ماجد دوامة من البرد، هرعت به بعدها إلى المستشفى الجامعي، فأخضعوه للأكسجين وزوده بمضاد حيوي رغم كرهي له. فحقنته هذا السائل الرمادي حقناً رغم أنفه حتى شعّت فيه العافية من جديد. وقلت في نفسي نبقى معاً حيناً من الدهر على علة خير من الخيار الآخر، وكل الأمور بيد الله.

وما كاد ماجد لينهض إلاَّ وأجفان عبد المجيد تهبط من شدة الحرارة. فأخذته إلى ما أخذت أخاه إليه، فطمأنني الطبيب المعالج أن صحته لا تدعو للقلق، وما علينا إلا الانتظار، فإن تحسن حاله وإلا أحضرته مرةً ثانية. هذا مع تزويده بقطرة للأنف وخافض للحرارة. ومنذ أن عدت للبيت مساء يوم العيد وحرارته ترتفع إلى ما يقارب الأربعين كل ثلاث ساعات رغم استخدام الخافض دون انقطاع. كنّا في كل مرّة نطفئ لهيب جسمه بالماء البارد. وكان يصبر ويقاوم على مضض إذ لا خيار آخر أمامه فهو ابن عشرة أشهر وما كنّا نرفعه من الماء البارد إلا بعد أن يرّقل فكه السفلي من شدة البرد. قال أبو ماجد وهذا جهل منّا.

تنخفض حرارته فيهش ويبش وأحمله بسرعة إلى المستشفى فتتحسس الممرضة حرارته وتضحك من العجب. ولا يخالجني الشك في أنَّها شكت في والد الطفل ورثت لحاله مني. شرحت الوضع للطبيب، فقال هذا طبيعي والطفل صحته طيبة وسيعود إلى ما كان عليه في يومين فلا تقلق. قلت يا دكتور مسني وأهلي الضرّ، ونخاف أن ننام على أن حرارته تناوش الأربعين من حين لآخر، فما العمل؟. قال استخدم الخافض وإن شاء الله ما يصير إلاَّ خير. عدت به إلى البيت وعادت إليه الحرارة على حينها. فما كان أمامنا إلا الماء وكنا نتعهده باللمس فنجده سخن من شدة الحرارة، فنستبدله بغيرة إلى أن تتراقل فكاه من شدة البرودة، فنسحبه من الماء، ونلفه في ما تيسر من القماش، ثمّ نسعفه بالخافض فتسكن حالته ويستأنف اللعب ساعة أو مثلها ثمّ يذبل على حينه، فنعيد الكرة معه من جديد.

والمحزن في الأمر أننا أصبحنا نشك في درجة برودة الماء ونتواصى بتبريده أكثر كلما ارتفعت الحرارة أمام أعيننا. والمحزن أكثر أنه ببلوغنا اليوم الثالث (ثالث أيام العيد السعيد) بلغ منّا الإرهاق مداه، فكان أخر عهدنا بالطفل الساعة الرابعة صباحاً وما أيقظنا إلا لهيب جسده بعد أن أشرقت الشمس بساعة. هاجمناه بالماء بعشوائية لا يعذرنا فيها إلاَّ عاقل. وأسرعت به إلى المستشفى يحملني الغيظ والأسى، فطرحته بين يدي الممرضة، فضحكت. قلت ممَ تضحكين؟! من غبائك أم من جهلي. فعرفتها في وجهي وكتبت ما أمليت عليها وهي صاغرة. استنفرت من تواجد من الأطباء وقلت لهم كفى أنقذوا هذا الطفل مني. فالخافض لا يعمل والماء مرهق والحال لا يعلمه إلاَّ الله. تناوله طبيب أثق في علمه وفحصه بتأنٍ, واضح، وقال لي أبنك عنده التهاب في الأذنين وأشده في اليمنى منهما. قلت الحمد لله على الالتهاب. زدنا رعاك الله من هذه الالتهابات فهي خير من الجهل.

ما الحل إذن؟ قال خذ هذا المضاد وإذا لم تتحسن حالته خلال يومين عد به إلي وما يحصل إلا خير.

فرحت أيما فرح وعزمت على حقنه كما حقنت أخيه من قبل، لكن كلما أعطيته جرعة قذفها في الحال. بل إن حرارته أخذت تقفز قفزاً أمامي في الميزان، تكاد تتخطى الأربعين، فأرمي به قبل أن يتوقف، وأدنو به إلى الماء ثمّ أبدأ من جديد في ممارسة جهلي معه وأحسب إني على علم. وتملكني الحزن عليه من شدة الحرارة ومن شدة البرودة.

وحدث أن زارنا في اليوم الرابع بعض الأقارب، ونحن في حالة لا يحيط القلم بوصفها. فاقترحوا الذهاب به إلى مستشفى السليمانية للأطفال فلربما أدخلوه إلى المستشفى وأعطي العلاج عن طريق الوريد. حملت الطفل بين يدي وذهبت به إلى هناك، فكان استقبالهم للحالة جيداً، حيث فحصه الطبيب الأول، وقال لي عنده التهاب في الأذنين واليمنى أشد، لكني سأرسلك إلى المتخصص ليقول رأيه فيه. فحمدت الله ودعوت لذلك الشاب بالتوفيق. وعندما فحصه الأخير، قرر تنويمه ومباشرته بالمغذيات والتحاليل المختلفة والمضاد الحيوي. مكث الطفل في المستشفى ستة أيام لازمته المغذية في الأربعة الأيام الأول منها ليخرج في اليوم التاسع من شوال عام 1417هـ وهو في صحة طيبة، والحمد لله.

لقد تعلمت في هذا العيد المبارك أمور عدة صاحبها جرعات من الإرهاق كان بالإمكان تلافي بعضها. منها عدم صب الماء البارد على المريض حتى لو ارتفعت درجة حرارته، فذلك يؤدي إلى نتيجة عكسية حسب قول الأطباء، إنَّما يستعمل الماء الفاتر المحبب لدى الطفل. ومنها سؤال ذوي الخبرة في أمور لا تحتمل الاجتهاد الشخصي. ومنها عدم التحرج من تعنيف من يجهل إذا اكتفى برأيه ولم يطلب المشورة ممن يثق فيه. على أن الدرس الأدبي الذي تعلمته لا يقل أهمية من الأمرين الأخيرين على الأقل، فلقد أيقنت أن أبا الطيب لم يكن مازحاً حينما قال:

أما الأحبة فالبيداء دونهمُ *** فليت دونك بيدٌ دونها بيد.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply