بسم الله الرحمن الرحيم
لم تكن تتأخر، المدرّسة (ريم) كانت هي الساعة التي تنضبط بدقتها باقي الساعات! ما إن يقرع الجرس حتى نراها منتصبة أمامنا بطلعتها المحببة، وابتسامتها العذبة، ونظرتها التي تمر بها علينا كأنما تبغي رشها بالمساواة على كل واحد منا!
كنت أحب طلتها، حديثها الآسر يستهويني، ولطفها ورقتها تشدني إليها بقوة لا تقاوم، وحين تقترب مني لتصحح لي رسم حرف لم أتقنه كنت أحس بالدفء يغمرني من قربها، فأتمنى لو تكون حروفي كلها غير متقنة لتبقى إلى جانبي على الدوام، ولأستمتع بأناملها الحانية وهي تلمس يدي وترشدها نحو الصواب، لكنها اليوم ما جاءت! قرع جرس الحصة وما جاءت!! تواثبت عيوننا المترقبة نحو الباب ننتظرها مثل كل يوم، ولكنها عادت حسيرة لا ترى سوى فتحة الباب الصماء التي عجزت عن إخبارنا بشيء.
ولفّنا صمت ووجوم، وابتدأ هاجس لا نحبه يتسلل إلى أعماقنا الطفلة، هل يمكن ألا تأتي أبدًا؟ هل أصابها سوء؟ ولكن من يملك الإجابة؟! يا للحيرة.. يا للحيرة التي شملتنا بشعور واحد، بيد أنه غير لطيف.. شعور جعل أيدينا تمتد إلى الكراسات وتفتحها أمامنا استعدادًا لقدومها. وبخيبة أمل تقافزت من عيوننا اللاهفة أرجعناها إلى حقائبنا، أجل! فما عاد لها، بغياب المدرّسة، من معنى سوى تذكيرنا بحرماننا منها!
وانتظرنا شيئًا ما دون أن ندري بالتحديد أي شيء، أذرعنا التفت فوق صدورنا، وأفواه تخشى أن تقول شيئًا لئلا تزيد الأمر سوءًا! ولا أحد يشفق علينا فيخبرنا ماذا هناك، وما الذي أخرها؟ حتى سمعنا جلبة وصوت طرقات حذاء خفيف يسرع نحونا في لهفة، فالتفتنا، أجل، إنها هي، والله العظيم هي! المدرسة (ريم) نفسها، ها هي نقرت على الباب كما تفعل كل مرة، وانتصبت أمامنا بهية مثل عادتها فصفقنا لقدومها وصحنا من الفرحة في هياج، لكنها، هي، لم تكن باسمة هذه المرة! بل اكتشفت عيوننا المتطفلة بقايا دمع على أهدابها وانتفاخًا في عينيها لم تستطع النظارة البيضاء إخفاءه. وارتجفنا من هواجسنا التي مرت كالبرق على خواطرنا!
وانتظرنا، لم تلق التحية علينا كما تفعل أول ما تدخل! بل استدارت صوب النافذة والمنديل الأبيض يوشي بأنها تبكي! وانتظرنا أن تلتفت نحونا، لكنها لم تفعل، شيء قوي منعها أن تفعل! ثم اتجهت نحو (السبورة) وهي تقول بصوت يرتجف:
دعونا نكتب معًَا:
فلسطين داري
وضوء نهاري
ولحنًا أبيًا
على شفتيا
كانت الكلمات تتأبى من فرط الحزن على شفتيها وهي تحدثنا دون أن تنظر في وجوهنا «ليس هذا النشيد من منهاج دروسنا، ولكنه من منهاج حياتنا، أو حياتي أنا على الأقل، بل إنه قضيتي التي لا أقدر أن أنفصل عنها، مثلما أن الغدو إلى المدرسة هو قضيتكن كل صباح، هل بينكن من تفكر في ترك المدرسة أو التهرب من الواجبات؟! » وصمتت شيئًا ما، بينما كان شيء مثل الينبوع يتصاعد من داخلنا معلنًا قرب انفجاره بكاء من مآقينا، ولكننا انتبهنا إليها، وهي تقول: «أيتها الغاليات، لقد أحببتكن مثل بناتي، بل أكثر، مثل شجر البرتقال في (بيارات) يافا، مثل أغصان الزيتون في منحدرات (الرملة)، مثل كل نسمة عطر من بلدي، ولكنها الحصة الأخيرة التي تجمعنا! » وأحسسنا بالوجع الذي همست به قبل قليل ولم تجرؤ على إعلانه عقولنا!! أو كمن طرق رؤوسنا بأداة ثقيلة، وأحسسنا شتى الأحاسيس التي لا يعلم حدها إلا الله انتابتنا لحظتها، ولكنها صرفتنا عن ذلك كله حين تابعت تقول بصوتها المحزون: «لقد أجلت هذا القرار كثيرًا حبًا بكن وحبًا بهذه البلاد الخيرة الكريمة، ولكنني بعدما سمعت عما يحدث لأهلي وجدت كم أنا مقصرة في حمل رسالتي بأمانة وصدق، وفي مشاركة أبناء بلدي هناك ما يعانون، أليس معيبًا أيتها الغاليات أن نضحك وفينا زمالة تبكي؟! فأهلي أنا يبكون! أليس معيبًا أن نفرح بالدعة والأمن والسلامة بينما أهلنا، أهلنا ـ أيتها الغاليات ـ يأكلون الهم والخوف والاضطهاد؟! إنه قدري ولقد عزمت أن أواجهه بعزيمة وصبر وشجاعة، فهل ستعذرنني إذا ما فارقتكن وأنا كارهة؟ هل ستذكرنني متى كبرتن وصرتن مدرسات أو طبيبات أو كاتبات؟ هل سينقص حبكن لي مع الأيام؟ هل ستكتبن لي عن أخباركن وما حققتن من النجاح؟ ».
لم ننطق بكلمة، لم نقدر أن نجيبها عن كل ما سألتنا بأننا لن ننساها لأنها صارت جزءًا عزيزًا منا! كل ما قدرنا عليه هو أن نلتف حولها، نحتضنها كأمنا، نقبلها ونبكي، إلا أنا فما استطعت! خفت إن اقتربت منها أن أنفجر دموعًا وعويلاً يضعف قرارها، كل ما قدرت عليه هو أن انتحيت جانبًا أتملى طلعتها البهية كي تبقى ماثلة في داخلي فلا تنمحي ما حييت!
والآن ها قد جاوزت أنا العشرين، وصرت كاتبة أتتبع الحرف مثلما كانت ترشدني إليه، وأحس بأناملها فوق يدي دافئة حانية ودودة، ما زلت أذكر ابتسامتها، نظرتها المميزة كأنها إلى الآن تستحثني على أن أتقدم، رنة صوتها المحببة.... إلا أنني لم أستطع الكتابة إليها، جربت ذلك مرارًا وسودت لأجلها كثيرًا من الصفحات وأودعتها ذوب مشاعري وما أكنه من حب نحوها ونحو أهلها ووطنها، وملأتها بدعائي المتضرع إلى الله السميع أن يخلصها ويخلص أهلها أجمعين، ولكن شيئًا مما كتبته لم يصلها، لسبب بسيط! بسيط جدًا، فقد أخبرني أبي أن ساعي البريد محرم عليه الاقتراب من منزلها وإلا
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد