بسم الله الرحمن الرحيم
خرجت من منزلي لقضاء بعض الأغراض في يوم من الأيام الحياتية التي اعتدنا عليها، السرور يخالج قلبي بعدما قبلت جبين طفلي وودعت زوجتي.....
لم يكن يدور في خلدي شيء سوى السرور بهذه الأسرة الصغيرة التي أفرح بها وتفرح بي، فتحت باب المنزل وخرجت مسرعا فأنا بشوق للرجوع إلى منزلي الجميل وعشي الهاديء قبل أن أخرج منه. انطلقت إلى سيارتي وأخرجت مفاتحا هاما بالركوب وقبل أن أضع يدي على الباب سمعت صوتا أقرب إلى الهمس منه إلى النطق..
التفت فإذا بامرأة يزينها منظر الحجاب المحتشم قالت بصوت منخفض: ممكن خدمة؟؟؟
تلعثمت في الجواب لأنني لم اعتد أن أكلم امرأة أخرى من غير محارمي والموقف محرج لي فنحن في الشارع ولكنني تجلدت وقلت لها: نعم ماذا تريدين يا أخية؟
قالت: خذ.
ومدّت إليّ مظروفا كانت تحمله.
قلت: ما هذا؟
قالت: ألست أنت إمام هذا الجامع؟
قلت: نعم.
قالت: خذ هذه الرسالة واقرأها ولا تنسنا في خطبتك فإن وراء جدران هذه البيوت المحيطة بمسجدك ألوان المآسي التي يشيب لها رأس الوليد قالتها والعبرة تخنقها ثم انصرفت وتسمرت أنا أمام سيارتي دقائق معدودة قبل أن أعود أدراجي إلى منزلي لأقرأ تلك الرسالة الصدمة التي هزت وجداني ووجدان عائلتي الصغير، فماذا في هذه الرسالة وما هو نصها؟
أخذت الرسالة من تلك الفتاة التي ذهبت من أمامي بخطوات متثاقلة ملؤها الهم والحزن والأسى وكأني بها خطوات من يحمل الدنيا على كتفيه وعدت أنا وهذا المظروف إلى منزلي، صعدت سريعا إلى مكتبتي وجلست برهة أتنفس الصعداء، فتحت الرسالة ولأول وهلة سقطت عيناي على لون الحبر الذي كتبت به فتاتنا رسالتها، لقد كان اللون الأحمر هو سيد الموقف، رسالة من ثلاث صفحات جعلت عنوانها البارز الكلمة التالية (ضحية أب تخلى وأم مشغولة).. وجعلت تخاطبني في رسالتها وتخاطب كل صاحب رسالة نبيلة وهدف نبيل وضمير حي في هذه الحياة إنها تقول لجميع هؤلاء: أنا فتاة أبلغ العشرين من عمري أدرس في السنة الثانية في إحدى الكليات، من عائلة مترفة قد من الله عليها بكثرة المال والمكانة الاجتماعية المرموقة حيث أن أبي من كبار رجال الأعمال الذين يشار إليهم بالبنان، قد يظن البعض أنني سعيدة وهذا الشعور هو شعور الكثيرات من زميلاتي اللاتي يعاشرنني ومصدر ظنهم ذاك هو ما يتوفر لي من المال والجاه والمنصب وهم قد يكونون على حق في نظرتهم إلي فصحيح أن جميع طلباتي أوامر ولا أشتهي شيء إلا ويتحقق لي لكن النظرة للسعادة من هذا الجانب تظل نظرة قاصرة وفيها الكثير من الخلل.
إنني بكل بساطة أتعس مخلوقة على وجه الأرض، نعم أنا أملك المال، أركب أفخم السيارات، أجوب أفخم الأسواق، أشتري أفخم الملابس وألبس أحدث الموديلات لكنني أعيش في داخلي الرعب الدائم والهم والقلق المتلازم، أعيش الألم وأتجرعه مع كل يوم تغيب شمسه ويحل ظلامه، أفتقد إلى الإحساس بالأمان ومحرومة من شيء اسمه الحنان، هل تصدق يا شيخ أنني أعيش أسوأ وضع أمني داخل منزلي، نعم والله أعيش القلق داخل منزل والدي واضطر أحيانا للهرب إلى خارج المنزل هربا بنفسي وشرفي وما بقي لي من خلق والسبب في ذلك يعود ببساطة إلى أن منزلنا قد أصبح مستنقعا للفجور ألوان الآثام.
نعم هو كذلك مستنقع للفجور بدءا من الدجتل الذي يبث يا شيخ ما تتخيل وكل مالا تتخيل، ومرورا بأخي مدمن المخدرات الذي حاول التهجم علي في أكثر من مرة نتيجة ما يرى وما يتعاطاه ولا تسل عن والدي الذي لا يصحو من شرب الخمرة وإذا احمرت عيناه وغاب وعيه ونظر إلي فو الله لا تسل عن أودية الرعب السحيقة التي أهيم فيها وإذا بحثت عن أمي صدر الحنان وموطن الأمان والشاطئ الذي أغسل بمائه كل الأحزان وجدت رجع الصدى وأثر الغبار فهي أيضا لها عالمها ومغامراتها في ظل انتكاسة الوالد والأخ وغياب العقل الراشد في منزل الهم والغم. الأجواء كلها يا شيخ من حولي مسمومة كلها تدفعني إلى الخطأ وأنا مازلت بقية إنسان يبحث عن قارب النجاة، قد تتساءل أنت وما الذي أستطيع أن أعمله لك؟
وأقول أنا تستطيع الكثير فإن منزلي جوار جامعكم وأسمع خطبتك فتحدث عن مأساتنا يا شيخ تحدث عن المظلومين خلف أسوار البيوت المغلقة، تحدث عن جريمة إهمال الأبناء تحدث عن جريمة انحراف الوالدين وما تجره على الأبناء من ويلات تحدث عن المخدرات تحدث عن الفضائيات تحدث عن المسكرات تحدث عن القلق عن الهم عن التفكك الأسري تحدث وتحدث وتحدث تكلم ولا تصمت تكلم يا شيخ عسى أن يصحو والدي يوما من غفوته فيسمعك وإن لم يسمعك فإنني أسمعك ودموعي تسابقني وكلماتك تثبتني وتشد من عزمي لا أريدك أن تصمت بعد اليوم يا شيخ عن قضايانا فنحن والله فرائس الألم الذي يطوي أكبادنا ويكوي قلوبنا ليلا ونهارا ولا نشكوه إلا إلى الله - عز وجل - ثم إلى من نثق فيه من أمثالكم).
هذه الرسالة سقتها إليكم بتصرف، قرأتها مرة واثنتين وثلاث وعشر قرأتها متسائلا: كيف ينتقل البيت من واحة أمان إلى غابة خوف وحرمان وإدمان، لقد حزنت لحال هذه المسكينة ولسان حلي يقول: \" أين تهرب من انحراف والدها ووالدتها وأخيها؟
سؤال لا جواب له إلا أن نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد