مرارة الفراق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 بعد سماعي لشريط الإخاء لفضيلة الشيخ محمد حسين يعقوب الذي لامس كلامه شغاف قلبي، وأثار مشاعري وهيج حب الأخوة في نفسي، أيقنت بعدها على ضرورة الأخوة في عصر استعبد فيه الناس المادة، في عصر فقد الناس فيه الألفة والتراحم وطغى عليهم الحسد والكراهية، في عصر كل يقول نفسي نفسي!!

 

وطنت نفسي بعدها على ضرورة رفع صرح الأخوة التي افتقده عالمنا اليوم.

 

قال فضيلة الشيخ في شريطه: أنه من الضروري اتخاذ أخ في مثل هذا الزمن، فيختار الواحد منا أخا لنفسه من بين ألوف البشر الذين تجمعوا حوله في كل حين، ومن الواجب عليه الإفصاح بما يكنه له من حب أخوي صادق!! تلك كانت كلماته التي رسخت في عقلي ونقشت في فؤادي، فلم يكد أن يغمض لي جفن إلا والأفكار تحاصرني من كل اتجاه و الكلمات يرتد صداها في أذني، أيقنت بعدها أنني بحاجة لتلك الأخت التي تعينني على طاعة الرحمن و ترافقني هذا الطريق الأخوي إلى الجنان..

 

قضيت أياما وليالي وصدى الكلمات تلاحقني أينما ذهبت، وكأن المحاضرة ألقيت خصيصا لأجلي!! أردت فعلا أن تكون لي أخت حبيبة ومعينة، ولكنها لخطوات صعبة لارتقاء هذه الأخوة!!

فكيف لي أن أصارح من سأختارها أختا في الرحمن بحبي الأخوي لها؟! إنها لخطوات جد صعبة لارتقاء عتبات هذه الأخوة!! ولكن ما سهل علي الأمر أن من اخترتها أختا بعد تفكير دام طويلا كانت إحدى الفتيات التي تربطني بها صداقة عادية، كأي علاقة تربط بين صديقتين، لكني كنت أجدها قريبة مني وكنت أميل لها دوننا عن مثيلاتها!!

فقررت مصارحتها عما قد ملئ جعبتي،،، فبدأ الصراع بين قلبي وعقلي!! فأنا لا أمتلك الجرأة الكافية لمصارحتها!! ولكني قد اخترتها و أحببتها!! فظللت في حلبة الصراع حتى وكلت أمري إلى الخالق الباري…

فخطيت أولى خطواتي للارتقاء وجاءت ساعة الصفر!!

فواجهتها و أخبرتها عما سمعته من ذلك الشريط الذي ترك في قلبي بصمة لن تمحى مع مرور الزمن، وعن وجوب اتخاذ أخت، وعن وعن …

و أني قد اخترتها من بين العالم كله لتشاركني: الفكر، الحب، الإخاء.. فهل تقبلين بي أختا لك؟

وما أن خرجت تلك الكلمات مني إلا و اشتعلت حرقة في فؤادي خوفا من رفضها إياي!! ولكن ردها جاء مثلجا لقلبي..

 

و منذ تلك اللحظة بدأنا حياة جديدة، حياة أخوية صادقة، موثقة بأمر من الرحمن و مؤيدة بنصر من العدنان. بدأت هي بارتقاء العتبات الأولى لهذا الطريق الأخوي، فبدأت تخطي خطوة تلو الأخرى، أما أنا كنت أرى المستقبل بعين واحدة، لم أكن أعي ما أفعل!! دائما كنت أطالبها بالعطاء ولم أراعى استحداثها لعالمنا الجديد، عانينا في بداية المطاف، حيث كانت أخوتنا بين أمواج البحر تقلبها كيفما شاءت، فتارة يشتد الموج وتشتد معه الخلافات، وتارة يهدأ وتهدأ معه النفوس والقلوب، وتارة يشتد ويهدأ في آن واحد، تصارعنا مع الموج كثيرا!! فلم تكد الأيام تمر حتى ألقتنا الأمواج على بر الأمان، بعدها أيقنت أنني المخطأة و المقصرة بحق أختي وحبيبتي في الرحمن، كما أيقنا أن المرحلة السابقة لم تكن إلا مرحلة تعارف للشخصيات لا غير!!

 

أما الآن فسنبدأ حياة أخوية صادقة ليست كالتي ادعيناها مسبقا، سنبدأ حياة الواحدة منا تعيشها للأخرى، حياة جددنا فيها: أفكارنا، حبنا، إيمانياتنا، طريقنا، جددنا فيها قلوبنا فربطنا حبنا بحب الواحد الباري، وذلك كله وطد أخوتنا و قربنا من بعضنا..

 

بدأنا بحفظ كتاب الله، و دراسة لسنة نبيه، المداومة على حضور الندوات والمحاضرات الدينية، صيام ليومي الاثنين والخميس، المداومة على صلاة النوافل، حتى صلاة القيام كانت تجمع بيننا، إذ اعتدنا على القيام معا وفي نفس الوقت..

 

بدأنا بالتدرج معا فلم تفارق إحدانا الأخرى سبيلا، حققنا إنجازات كثيرة، غيرت الواحدة منا أختها، لقد غيرت من طباعي، كما غيرت نهج حياتي، فبدأت أحيا حياة إيمانية صادقة ليست كالتي عهدتها وعشتها وحيدة!!

كنا قريبتين من بعضنا فلم تكد عين من البشر أن ترى إحدانا دون الأخرى، اتحدت أرواحنا وتآلفت قلوبنا، وتصافت نوايانا، بدأنا نعيش حياة الكل يغبطنا عليها!! تشاركن فيها الفرح و الحزن، الهم والسرور، الفكر والقلب والروووووح!!!!

فغدينا روحا في جسدين..

 

وبعد مرور تلك الأيام والليالي التي قضيناها معا بأسمى المعاني و أروعها قدر الله لنا الفراق، قدر الله في لوحه أن تفترق أجسادنا ولكن أرواحنا متصلة وقلوبنا مرتبطة..

فستبعدني المسافات عنها بعد أيام قليلة، فكانت أفكارنا مزدحمة ما الذي سنفعله؟ وما الذي سنقوله فيما تبقى لنا من ساعات اللقاء؟ مرت الأيام مرور الثوان.. جاء ذلك اليوم الذي توجب فيه توديعها، فكانت لحظات الوداع أثقل على كاهلي من أي شيء مضى!!

 

ودعتها ودموعي أغرقت قلبي وفكري حار في لبي، احتضنتني ودموعها الساخنة تنهمر من عينيها التي طالما كنت أرى بهما بريق أمل وغد مشرق لأخوتنا!! أحسست بزفرات بكائها وكأنها أخرجت من قلبي لا من قلبها، ودعتني وكان وداعنا معلقا بأمل القيا!!

 

ما إن بدأت خطواتي للرحيل والسفر العليل إلا و شريط أخوتنا يعرض أمام ناظري، ركبت الطائرة وقد خيم السكوت والسكون علي!! وبدأت الأحزان تداهمني وتقرع أبواب قلبي المحب لأختي وحبيبتي وشطر روحي!! ارتفعت الطائرة محلقة في أفق بعيد، فتركت قلبي و روحي معلقان في أرضي ومع حبيبتي!! ولم آخذ معي سوى الذكريات و رسائل قد خطها قلمها ناقلا عبراتها لتحط على أرض قلبي!!

 

قضيت وقتا طويلا في الطائرة إذ كانت الدموع أنيستي، والذكريات جليستي، بعدها حطت عجلات الطائرة على تلك البلاد الغريبة التي طالما كرهت السفر إليها!!

قضيت أياما وليال مع ذكرياتي وأحزاني، لم ترتسم الابتسامة على محياي، فغدا الحزن أنيسي…

مرت علي الأيام وكأنها سنون طويلة!! لكني كنت دوما أتضرع بين يدي المنان، أدعوه أن يؤنس وحشتي ويطفئ لهيب شوقي لأختي، وان يقر عيني برؤيتها، لم أترك صلاة الوتر قط حيث كانت عهدا قطعناه على أنفسنا فكانت أرواحنا تتصل في دجى الليل الرهيب، لمناجاة الحبيب، باللقاء القريب!!

قضيت أيامي أنتظر ساعات الرجوع و أترقبها، وما إن حلت البشرى أرض قلبي بأنه لم يبقى سوى يومين على رجوعي لحبيبتي و أختي و شطر روحي، إذ برجلي تتسارع خطاها نحو سماعة الهاتف لأزف لها البشرى. وإذ بها تصفعني بخبر ليتها لم تفصح عنه!! قالت: وبعد طول انتظار لاجتماعنا ولقيانا أنه حان موعد سفرها، فشلت أركاني عن الحراك، و عجزت أذني عن السماع!! فلم أفق من صدمتي وصمتي إلا وهي تقول: بأنها سترحل لأرض طهرها الله عن العالم و أراضيه، أرض أحبها الله و رسوله الكريم، كانت فرحتي ممزوجة بعبرات حزن يتفطر لها القلب!! لكني لم أرد إلا الخير والسعادة لها!!

وبعد سويعات قليلة إذ بصوت أبى يهتف مناديا باسمي، فذهبت ملبية نداءه، و إذا بالابتسامة ترتسم على محياه، ونور الفرحة يشع منها!! فقال بكلمات حانية: حبيبتي شاء الله أن لا تلتقي بحبيبتك في الرحمن على أرض الوطن، لكنه شاء أن تلتقي بها في أرضه المحببة إلى نفسه، هناك حيث يجتمع ألوف من البشر راجين مغفرته، هناك حيث أختك!!

لم تسعني الفرحة و السعادة فور سماعي لهذا الخبر!! فإذا بجداول الدموع تتفجر من عيني، و أشرقت على وجهي ابتسامة الفرح!!

ركضت مسرعة نحو الهاتف لأنقل البشرى لأختي باللقيا القريبة..

استبشرنا خيرا و علمنا أن الله لم يخيب رجاءنا و أنه لم يرد دعواتنا التي طالما كابدنا الليل قياما نرجوه أن يتقبلها، وأنه زادنا من فضله ونعيم سلطانه..

تمنيت الأيام تمر سريعا، وإذا بها تمر كما تمنيت!! فلم تبقى من الآن إلا ساعات قليلة للاجتماع و اللقاء وتالف الأرواح، قضيت هذه الساعات بالتفكير: ماذا سأفعل إذا التقيت بأختي؟ و ما الذي سأقوله لها؟ أحسست و كأني التقي بها للوهلة الأولى!!

قطع حبل تفكيري نداء موظف الطائرة: سيداتي سادتي وصلنا بحمد الله إلي مطار جدة، يا إلهي لم تبقى سوى ساعات قليلة!! وصلنا أرض مكة المكرمة بعد ساعتين تقريبا، اعتمرنا ولله الحمد، بعدها بدأ الحنين والشوق يصارعاني!!

التقينا بعد فراق دام طويلا، في هذه اللحظة يعجز قلمي عن نقل مشاعري!!

أحسست حينها وكأنني طير يطير في السماء سعادة وفرحا بالقيا..

فاضت الأعين بالدموع و عجز القلب عن نقل العبرات!!

بدأنا خطوات لقاءنا الأولى في بيت الله الحرام فما أحلاه من لقاء أخوي بعد طول فراق!! قد جزانا الله لطول صبرنا خيرا..

مضينا في رحاب الحرم الشريف، نشكره جل في علاه لجود كرمه وعظيم سلطانه..

قرأنا شيئا من كتاب الله، و طفنا حول بيته، أخذنا عهدا على أنفسنا بأن لا يدب الفراق حياتنا إلا أن يكون فراق ممات لا فراق حياة، جددنا عهد أخوتنا، ومضينا متصلتين روحا وفكرا وقلبا و جسدا!!

 

وقد حق من قال:

من ذاق حلاوة اللقاء، لابد أن يتجرع مرارة الفراق.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply