وصية إبراهيم ..؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

دخل عليّ مسلمًا ومصافحًا، تسبقه خلجات عينيه السريعة، في يساره بعض ورقات بدت عليها علامات الاهتراء، جلس إلى مكان قريب مني، وأخذ يتناول أطرافًا من الحديث المشتت، وكأن شيئًا أهم سيتم الحديث عنه عمّا قليل، عينايَ ما تكاد تبرح تلك الورقات التي تتناقل بين يمينه حينًا وشماله حينًا آخر، وكأن هاتفًا يقول لي: ستتناولها عمّا قليل، فاصبر..

بعد هنيّهة قصيرةº خرج ثالثٌ كان معنا في المكان، وما إن استقرت عيني ترقبه خارجًا إلا وصاحبي يمدٌّ إليّ تلك الورقات ولسان حاله يقول: \" خلا لنا المكان \"! مدّ يمينه مناولاً لي إيّاها، لقد أحسستُ  من قبل  أن شأنًا فيها يهمني، قال بعد أن تناولتها منه ويده لم تعد بعد إلى مكانها: هذه رسالة جديدةٌ من إبراهيم. قرعت أسماعي كلماته سريعًا، الآن تذكرت! إنه أبو بارعة، أو (أبو بارعة الكوبي) هكذا يحلوها لنفسه كما كان يمازح بها محبيه، وهو أحد أسرى غوانتنامو ممن كانت له جهود علمية وعملية في أحد البلدان قبل حربٍ, غادرة، ساقه المحتل إلى الأسر بحجة ممارسة الإرهاب! وهو لعمري أبعد ما يكون عن الحرام!! بل إنه أمضى حياته كلها عالمًا ومتعلمًا، بل عفّ عن الدنيا وقد أقبلت له لأن إسلامه قد ابتغاه لمهمة هي أجلّ، هكذا أحسبه.

لم أُطل التفكير كثيرًا، فما إن مدّها لي حتى فللتُ الرسالة ورفعتها أمام ناظريَّ، أقرأ ما ترمّت به يده بشغفٍ, ونهمٍ, عجيبين، وسيطر على كياني جمود وهدوءº إنها رسالة من الشاب الصالح (إبراهيم) رسمها بيمينه يضمنها سلامًا عبقًا ووصفًا للحال، هكذا خِلتُهَا وأنا بعدُ لم أشرع في قراءتها..

بدأ إبراهيم رسالته بسلام عبقٍ, حار أجزل فيه الشوق، وأرسل معه قبلاته لوالدته الرءوم..

يا لهف قلبي عليها! مُزعة القلب وفلذة الكبد البار يبعث لها برسالة ترى بين سطورها أيام حمله ووضعه وطفولته وصباه وشبابه وعطر أيامه:

ولدي يا فلذةً من كبدي *** ولدي يا نبضةً في خافقي

كلما جفّت ينابيع الصفا *** بك يصفو سلسبيل موردِي

ورياضي إن خَبَت أزهارها *** أنت فيها الزهر والروض الندي

كان ابنًا بلغ الغاية سموًّا وعلوًّا، وتقاءً ونقاءً، كأني قد رأيتها وقد جلست ترقب وتسمع بإنصات، وقد اجتمعت في مقلتيها دمعتان تدافعهما والشوق لابنها لا يكاد يقاربه شوق، أي شوق! إنها تسمع لرسالة الحبيب البعيد..

أوّاه..º يا لها من أمٍّ, ثكلى مكلومة..!!

وقفتُ عن سرح خيالي، وأخذتُ أتابع وأقرأ رسالة إبراهيم، أتأملها حرفًا حرفًا، أتخيل لحظاته وسكناته وهو يكتبها، بل أتابع حركات قلمه وما قد تعنيه كل حركة، لقد كنتُ أقرأ رسالةً مفعمةً بروح المؤمن الصادق، وروح المؤمن الصابرº بدأ رسالته بجزيل الاحترام وتمام التقدير ووافر الود لوالدته، وهنأها بعيدها. ولسان الحال يقول له:

عيدٌ بأية حال عُدت يا عيد ***بما مضى أم لأمر فيك تجديد

أمّا الأحبة فالبيداء دونهم *** فليت دونك بيدٌ دونها بيد

يخبر والدته  حينها  أنه بعد أيام قليلة سيتم من الزمان هناك سنة! كان لا يملّ من تعظيم نعمة التسليم لله، وأن حفظ الله له بالدين أتم نعمة يتقلب فيها، وبكلامٍ, جميل يُغبط عليه لما يصفُ من نعيم حاله! هكذا تصورتُه \" نعيمًا \" من حلو وصفه وروعة بيانه ونعوت استحسانه، بل قد ملأ رسالته بالدعابة الجميلةº حتى أنه أوصى لابن خاله الصغير أن يدعو له: (أدعُ لإبلاهيم حتى يطلع من الثجن).

رأيتُ نفسي وأنا أقرأ الرسالة أبعد ما أكون حالاً منه، وأشد تقصيرًا مع ربي..: كيف دبّ فينا هذا الخور والفتور عن الله ونحن قد أُحطنا بنعيم الأمن والصحة؟! كم عرفتُ حينها أنني أسير مكبلٌ بالأغلال، وأخي الأسير حرٌ طليق.. والله حسبي!

لقد كانت رسالةً جامعةً بحق، إلا أنني توقفتُ مليًّا عند جزءٍ, منها، إنها كلمة.. يا لها من كلمة! لقد كان يخاطب والدته يثني على حاله، وأنه من خير، وفي خير، وإلى خير. حتى قال: (والدتي العزيزة: إن مصيبتك في أسري وإن كانت عليكِ عظيمةº فإنها لو امتدت سنوات أخف وأهون من مصيبة أمٍ, في أحد أبنائها ينام عن الصلاة المكتوبة بلا عذر يعتذره أمام الله)!!

رباه..!!

أي همٍ, فاضت به نفس هذا الشاب الفتي وأوحاه إلى روحه الأخرى في جسد أمه..؟!!

عقدت الدهشة لساني، واستوقفتني لحظات أخذتني إلى غمرةٍ, من التفكير السارح الطويل، وعيناي لم تغادر الورقة بعدº إنَّ همّ أي شاب طموح قد لا يتجاوز سيارة فارهة، أو زوجة جميلة، أو مسكن فسيح.. ، إلا أنت يا إبراهيم، لقد كنتَ تطوي بين جنبات صدرك الكبير حلمًا آخر.. ، أسمى، وأعلى، تناسيتَ يا أبا بارعة ما أنت فيه من لأواء ونصب وبعد عن الديار والأحبة، لتبعث لنا هذا الهمّ الجميل، بعفوية الشاب الذي نشأ في طاعة الله..

إن أي أسير قد حاطته أقل هموم الأسر لا يفتأ يُعبّر عن شعوره في كراهية من أسره، وسوء حاله، وطول وقته، وآهاته النفسيّة العصيبة! وحُقّ له، فكيف بمن كبَّلَته الأغلال وحاطته الأوصاد وناء بأسره عن أرضه وأهله التي عاش عليها أمدًا..؟!

ألا ما أجمل العاطفة إذا كانت خالصةً لله، وفي مرضاة الله، وابتغاء وجه الله...

فطنتُ لنفسي وقد أخذتها غفوةٌ ليست بقصيرة، رفعتُ بصري عن الورقة وإذا بحال صاحبي وحامل الرسالة الذي التزم صمتًا طويلاً هادئًا بجانبي يرقبني بعينيين تقولان: أ كُلّ هذا قراءة؟! تداركتُ نفسي قبل أن يبعث إليَّ بنقد لسانه بعد أن نقدني بعينيه، فقرأت بشكلٍ, أسرع ما بقي فيها من سطور، حتى انتهيت.

لكن.. يا لله! أين هو؟! وأين أنا؟! أنا لا زلتُ مذهولاً عند وصيةٍ, من بين وصايا، إذ كيف يسمو الهمّ بصاحبه؟ وكيف تترجم النفس للنفوس ما طغى في داخلها في أنقى صورة وأحدث مشهد؟

أيها التُقى..º من رآك؟!

لقد مضى على هذه الحادثة الآن عامٌ ونصف العام، بل تزيد! إلا أنها ما زالت تتجدد في داخلي كل يوم، وحينًا كل ساعة!

(والدتي العزيزةº إن مصيبتك في أسري وإن كانت عليكِ عظيمةº فإنها لو امتدت سنوات أخف وأهون من مصيبة أم في أحد أبنائها ينام عن الصلاة المكتوبة بلا عذر يعتذره أمام الله)!!

\" وصيّة إبراهيم \" همٌ مشترك، وهمٌ ينقله عن عمر - رضي الله عنه - في وداعه: (هل صلّى الناس؟) كما نقلها عن إمام البشر صلوات الله وسلامه عليه الذي ودّع الدنيا وهو يقول: (الصلاة الصلاة)!!..

\" وصيّة إبراهيم \" تتردد هاتفًا في قلبي يقذفها من خلف عرينه.. مؤمن، صابر، محتسب..

\" وصيّة إبراهيم \" سأبقى  حتى يشاء ربي  لا أملٌّ ذكرها، وتردادها..

\" وصيّة إبراهيم \" أيقظ بها الهمة، وأشد بها القوة، وأطرد بها الدعة..

إنها: \" وصيّة إبراهيم \"!!

نعمº فلئن كان الأسر حبسًاº فإن للإيمان فضاء! ولئن كان الجبان سجّانًاº فإن لمبدأ المؤمن شجاعة! ولئن كان للشباب فورةº فإن للرجال عزم! ولئن كان للدنيا لذةº فإن للآخرة جنة!

أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاستَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ).