بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على المبعوث رحمة للعالمين..أما بعد:
فإن القصَصَ لها تأثير كبير في نفس سامعها، ولذا قال الله - تعالى -{فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ}
وقال - تعالى -: {وَكُلاًّ نَّقُصٌّ عَلَيكَ مِن أَنبَاء الرٌّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}
وقال - تعالى -{لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِّأُولِي الأَلبَابِ}.
ففي القصة عبرة، وعظة، ومتعة، ولذا أصبحت القصة فنا من فنون الأدب..
ذكر الحافظ ابن كثير البداية والنهاية ج: 11/89، في ترجمة الخليفة العباسي المعتضد
قصة عجيبة هذا نصها:
ذكر القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي عن شيخ من التجار قال: كان لي على بعض الأمراء مال كثير فماطلني ومنعني حقي، وجعل كلما جئت أطالبه حجبني عنه، ويأمر غلمانه يؤذوننيº فاشتكيت عليه إلى الوزيرº فلم يفد ذلك شيئا، وإلى أولياء الأمر من الدولة فلم يقطعوا منه شيئا، وما زاده ذلك إلا منعا وجحودا.
فأيست من المال الذي عليه، ودخلني هَمٌ من جهته، فبينما أنا كذلك، وأنا حائر إلى من أشتكي إذ قال لي رجل: ألا تأتي فلانا الخياط إمام مسجد هناك؟
فقلت: وما عسى أن يصنع خياط مع هذا الظالم، وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه؟
فقال لي: هو أقطع، وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليهº فاذهب إليه لعلك أن تجد عنده فرجا.
قال: فقصدته غير محتفل في أمره، فذكرت له حاجتي، ومالي، وما لقيت من هذا الظالم.
فقام معي فحين عاينه الأمير قام إليه وأكرمه واحترمه، وبادر إلى قضاء حقي الذي عليه فأعطانيه كاملا من غير أن يكون منه إلى الأمير كبير أمر! غير أنه قال له: ادفع إلى هذا الرجل حقه و إلا أذّنتº فتغير لون الأمير، ودفع إلى حقي.
قال التاجر: فعجبت من ذلك الخياط مع رثاثة حاله وضعف بنيته كيف أنطاع ذلك الأمير له،
ثم إني عرضت عليه شيئا من المال، فلم يقبل مني شيئا، وقال: لو أردت هذا لكان لي من الأموال ما لا يحصى فسألته عن خبره؟ وذكرت له تعجبي منه، وألححت عليه،
فقال: إن سبب ذلك أنه كان عندنا في جوارنا أمير تركي من أعالي الدولة وهو شاب حسن فمر به ذات يوم امرأة حسناء قد خرجت من الحمام، وعليها ثياب مترفة ذات قيمة، فقام إليها وهو سكران، فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها منزله، وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها: يا مسلمين أنا امرأة ذات زوج، وهذا الرجل يريدني على نفسي، ويدخلني منزله، وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير منزله، ومتى بت ها هنا طلقت منه، ولحقني بسبب ذلك عار لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع!
قال الخياط: فقمت إليه فأنكرت عليه، وأردت خلاص المرأة من يديه فضربني بدبوس في يدهº فشج رأسي، وغلب المرأة على نفسها، وأدخلها منزله قهرا، فرجعت أنا فغسلت الدم عني، وعصبت رأسي وصليت بالناس العشاء، ثم قلت للجماعة: إن هذا قد فعل ما قد علمتم، فقوموا معي إليه لننكر عليه، ونخلص المرأة منه، فقام الناس معي، فهجمنا عليه داره، فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيديهم العصي والدبابيس يضربون الناس، وقصدني هو من بينهم، فضربني ضربا شديدا مبرحا، حتى أدماني وأخرجنا من منزله، ونحن في غاية الإهانة فرجعت إلى منزلي، وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع، وكثرة الدماء، فنمت على فراشي، فلم يأخذني نوم، وتحيرت ماذا أصنع حتى أنقذ المرأة من يده في الليلº لترجع فتبيت في منزلها حتى لا يقع.. الطلاق!
فألهمت أن أؤذن الصبح في أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من منزله فتذهب إلى منزل زوجها فصعدت المنارة، وجعلت أنظر إلى باب داره، وأنا أتكلم على عادتي قبل الأذان، هل أرى المرأة قد خرجت، ثم أذنت فلم تخرج، ثم صممت على أنه إن لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الصباحº
فبينا أنا أنظر هل تخرج المرأة أم لا؟
إذ امتلأت الطريق فرسانا ورجالة وهم يقولون: أين الذي أذن هذه الساعة؟!
فقلت: ها أنا ذا، وأنا أريد أن يعينوني عليه فقال: انزل فنزلت، فقال: أجب أمير المؤمنين فأخذوني، وذهبوا بي لا أملك من نفسي شيئا حتى أدخلوني عليه، فلما رأيته جالسا في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف، وفزعت فزعا شديدا فقال: ادن، فدنوت فقال لي: ليسكن روعك، وليهدأ قلبك، وما زال يلاطفني حتى اطمأننت وذهب خوفي.
فقال: أنت الذي أذنت هذه الساعة؟
قلت: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال: ما حملك على أن أذنت هذه الساعة، وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منهº فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم؟!
فقلت: يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري؟
فقال: أنت آمن. فذكرت له القصة قال: فغضب غضبا شديدا، وأمر بإحضار ذلك الأمير والمرأة من ساعته على أي حالة كانا!
فأحضرا سريعا فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات، ومعهن ثقة من جهته أيضا، وأمره أن يأمر زوجها بالعفو والصفح عنها والإحسان إليها، فإنها مكرهة ومعذورة،
ثم أقبل على ذلك الشاب الأمير فقال: له كم لك من الرزق؟ وكم عندك من المال؟ وكم عندك من الجوار والزوجات؟
فذكر له شيئا كثيرا.
فقال: له ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك؟! حتى انتهكت حرمة الله، وتعديت حدوده، وتجرأت على السلطان، وما كفاك ذلك أيضا، حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف، ونهاك عن المنكرº فضربته وأهنته وأدميته، فلم يكن له جوابº فأمر به فجعل في رجله قيد، وفي عنقه غل ثم أمر به فأدخل في جوالق [وعاء] ثم أمر به، فضرب بالدبابيس ضربا شديدا حتى خفت! ثم أمر به فألقي في دجلة! فكان ذلك آخر العهد به!
ثم أمر بدرا صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الحواصل والأموال التي كان يتناولها من بيت المال،
ثم قال لذلك الرجل الصالح الخياط: كلما رأيت منكرا صغيرا كان أو كبيرا ولو على هذا! ـ وأشار إلى صاحب الشرطة ـº فأعلمني، فإن اتفق اجتماعك بي، و إلا فعلى ما بيني وبينك الأذانº فأذن في أي وقت كان، أو في مثل وقتك هذا.
قال: فلهذا لا آمر أحدا من هؤلاء الدولة بشيء إلا امتثلوه ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفا من المعتضد، وما احتجت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن!. اهـ.
هذا القصة العجيبة الغريبة، وإن لم يتحقق ثبوتها إلا أن فيها عبرا كثير منها:
* الحذر من معاملة الكبراء، والظلمة، ومَن لا يستطيع المرء إخراج حقه منهم.
* خبث هذا الأمير، وبخله، فبدلاً من أن يعطيه حقه، ويشكره فعل ما فعل من أذيته، والتهرب منه، وهذا ـ مع الأسف ـ انتشر الآن، فقل من يفي من غير مماطلة مما سبب قلة المعروف بين الناس.
* قول الرجل فأيست من المال.. الخ
غلط فعلى المسلم أن لا ييأس من رحمة الله، وعليه أن يلح في الدعاء، ويكثر الالتجاء إلى الله حتى يرفع عنه البلاء قال - تعالى -: {إِنَّهُ لاَ يَيأَسُ مِن رَّوحِ اللّهِ إِلاَّ القَومُ الكَافِرُونَ} (87) سورة يوسف.
* يؤخذ من رفض الخياط أخذ المال الذي عرض عليه التاجر..
عِظَمُ شأن هذا الخياط، وزهده في الدنيا، وتعففه عن المال، وابتغاؤه ثواب الله بهذا الجاه الذي حصل له من الله.
* في القصة: (فمرت به امرأة حسناء)
يؤخذ منه أن خروج المرأة غير متحجبة بالحجاب الشرعي، وظهور شيء من محاسنها يغري بها أهل الفساد، والمجون ويُعرضها للفتن، وهذا مشاهد، فيندر أن يتعرض الفساق للمرأة المحتشمة.
* في القصة (عليها ثياب مترفة ذات قيمة)
أن خروج المرأة بالثياب الرفيعة، وإظهارها زينتها في الملبس سبب للافتتان بها.
فانظروا إلى بعض ما يلبس النساء اليوم من العباء المخصر والمزركش..
هل هذا ستر؟ أليس القصد من هذا اللباس ستر المفاتن فما باله أصبح الفاتن!
* أن خروج المرأة لوحدها يعرضها للمخاطر خصوصاً إن كانت شابة ذات هيئة، ويلاحظ أنه لا يكفي أن تخرج معها امرأة مثلها، أو صبيº لأنهم لا يغنون عن أنفسهم شيئاً، فعن غيرهم أولى، وهذا مع الأسف منتشر في الأسواق، والمستشفيات، وغيرها..
* أن الخمر أم الخبائث، فهذا الأمير لما سكر تعدى الحرمات جهاراً، ولم يراع أحداً ولم يخش عاقبة فعلهº لأنه لا عقل له.
* لما تعلق هذا الرجل بالمرأة قالت: يا مسلمين.. الخ
انظروا في الشدة نادت المسلمينº لينقذوها، وينصروها، وقد كانت قبل قليل سببا لفتنتهم بها، بل ربمـا لو نُصحت لردت بقبيح من القول ـ كما تفعله بعضهن ـ، وفي الشدة لا ينفعها إلا الناصح.
* قول المرأة حلف زوجي بالطلاق.. الخ
عجيب أمر هذا الزوج يتركها تخرج، وحدها متبرجة بكامل الزينة، ثم يحلف عليها بالطلاق! غلط على غلط، والحلف بالطلاق منكر، وقد انتشر عند بعض الناس لأتفه الأسباب وقد قال الله - تعالى -: (ولا تتخذوا آيات الله هزواً).
وأمثال هذا الزوج اليوم كثير مما ضعفت أو ماتت غيرتهم فلا دين ولا مروءة.
* قالت المرأة: (ولحقني بسبب ذلك عار لا تدحضه الأيام ولا تغسله المدامع.. الخ).
هذا حق حمانا الله، وإياكم، فلم يعرض الإنسان نفسه، وأهله للفتن والشر، ويعتاد السلامة، فإنه إذا وقع المكروه ـ نسأل الله السلامة ـ لا ينفع الندم.
* وجوب إنكار المنكر بحسب الاستطاعة كما في صحيح مسلم عن النبي:: ص \" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان \".
وعليه فلا ينتقل من مرتبة الإنكار باليد إلى اللسان مع القدرة، فإن فعل فهو مقصر، وهكذا من مرتبة اللسان إلى القلب مثل الأب في بيت أهله..
* قول الخياط: (ثم صليت بالناس العشاء ثم قلت للجماعة.. الخ. )
يستفاد منه أن الإنسان إذا لم يستطيع أن يمنع المنكر بنفسه ينتقل إلا من يعينه على إزالته، و يجوز أن يستعدي عليه من له قدرة على التغيير، ولا يسكت، ويقول: أديت الذي عليّ.
* قوله (فنمت على فراشي فلم يأخذني النوم)
عجيب هذا الرجل يهان مرتين، ويضرب، وتخرج منه الدماء، ومع ذلك لم ييأسº لأن باله مشغول بتغيير المنكر، فمن منا إذا رأى منكراً اهتم له مثل هذا؟! الله المستعان.
* قوله: (فألهمت أن أؤذن الصبح... )
على الإنسان أن يفعل وسعه لرفع الظلم، ودفع المنكر، ويجتهد في ذلك.
وأن الإنسان إذا عمل ما يستطيع فقد أعذر عند الله، ولا يؤاخذ بذنب غيره، وإنما المشكلة السكوت على المنكر.
* حكمة الخليفة في ملاطفته للرجل حتى يذهب عنه الخوف.. فعل هذا ليعرف الباعث له على هذا الفعل، وهذا مهم في حل المشكلة، ولم يدفعه للجلادين، والمحققين ليخرجوا منه الاعتراف بالقوة.
* من حكمة الخليفة أنه بين للخياط ما يترتب على آذانه الفجر قبل نصف الليل فقال: فتغر الصائم، والمسافر، والمصلي.. الخ.
فلم يكتف هو بمعرفة الخطأ، ثم المحاسبة عليه، بل أعلمه وجه غلطه، وما ترتب على فعله من أضرار..
وهكذا ينبغي للآباء، والمربين إذا شاهدوا خطأ أن يبينوا للمخطئ وجه الخطأ حتى يتركه عن اقتناع، و إلا سيعود إليه إن غِبت عنه، ويتركه فقط من أجلك.
* حكمة الخليفة عندما قال الخياط يؤمنني أمير المؤمنين: فقال مباشرة أنت آمن..
* قوة الخليفة وعدله وانتصاره لمحارم الله عندما غضب وأمر أن يحضروا مباشرة..
* حكمة الخليفة عندما بعث بالمرأة مباشرة مع نساء، ورجل ثقات من عنده، وأمرِهِ زوجها بالصفح عنهاº لأنها مكرهة.
* حكمة الخليفة في مخاطبة الأمير الفاسق، وتقريره بنعم الله عليه من الأموال، والجوار، والنساءº فكفر بنعمة الله، وتعدى محارم الله، وحدوده، وتجرأ على السلطان عندما تعرض للمرأة في الشارع أمام الناس من غير خوف، ولا حياء، وتجرأ على من أمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر.. فقد جمع بين أنوع من القبائح، ولذا لم يكن منه جواب، فكان لا بد من عقوبة قاسية تناسب من بلغ هذه المرتبة من الفساد والجرأة.
* إيقاع العقوبة الشديدة والتنكيل برؤوس الفساد سبب في إقلاع بقية الناس، فلما عاقب الخليفة هذا الأمير بهذه العقوبة انزجر بقية الأمراء، ولذا لم يحتج الرجل أن يؤذن أبداً!
* تمكين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ومساندتهم سبب في زوال كثير من المنكرات، وسلامة سفينة المجتمع من الغرق. قال - تعالى -(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد