بسم الله الرحمن الرحيم
استيقظ الليل مبكراً هذا المساء، والتجأ الناس إلى منازلهم خوفاً من الليل وبرده، وخوفاً من الضباع التي لا يسمعون بها إلا من روايات الجدات، ولا يرونها إلا في كوابيسهم وأحلامهم.
وكنت ممن لاذ من برد الليل ورعبه إلى منزلي.
أشعلت لنفسي حطباً كانت تحتفظ به أمي في مطبخنا القديم، وجلست إلى ناره أطلب نوره ودفئه.
وما هي إلا ساعة أو بعضاً منها حتى سرقتني غفوة من نعاس، فرأيت فيما يرى النائم أنني ضبع أبيض كبير..لي فكّين قويين أتحدى بهما عظم الصغير والكبير، وأرعب بصوتي المدوّي كل رجال القرية، فاقتحمت الحقول والمنازل، وقتلت رجالاً كثيراً ونساء، وقد اتخذت من الغابة القريبة مسكناً لي، فصرت أعرف في القرية بضبع الغابة.
وفي ليلة قمرية هادئة، قررت غزو القرية والتهام رجل أو رجلين منها... رحت أتجول بين منازلها وحقولها، فخطر في بالي أن أهجم على بيت أبي سعيد البقال وآكله، فأنا لم أر في حياتي رجلاً أجشع منه، يبتاع كيلو السكر من المدينة بخمس ليرات، ثم يبيعه على سكان القرية الفقراء بعشرين، ويفعل ذلك بكل أصناف بقالته الوحيدة في القرية.
ثم عدلت عن فكرتي بفكرة أخرى، سألتهم الحاج حسين البكري، فهو وجيه القرية ومنافقها الأول، إذا عطس بحضرته الفقير طرده مشمئزاً، وإذا تقيأ المختار أو أبو سعيد أو أحد أغنياء القرية قال على الفور \"يرحمكم الله\"!!.. ولا يديّن إلا بفائدة، ولا يأكل إلا من حرام.. لكنني قلت لنفسي: \"لا بل سآكل اليوم زوجة المختار\"، تلك المتعالية التي لم تسلم امرأة من شرها يوماً، حتى والدتها يقال إنها توفيت يوم ولادتها، ورغم أن كل نساء القرية يتحاشين معاملتها ويتعوّذن ألف مرّة قبل لقائها، إلا أنها تصرّ على زيارة الجميع، لا لشيء إلا للسخرية والإهانة والتلذذ بتحقير الآخرين.
ثم قلت لنفسي مجدداً: \"لا.. سأدعها ليوم آخر، وآكل اليوم أبو علي مبروك\"، زير النساء وخاطف العذارى، فهو قد تزوّج وحده بربع نساء القرية، وطلقهنّ.. وبالكاد تمرّ من جانبه فتاة إلا واشتراها من والدها الفقير ببعض الليرات إكراهاً، ثم يطلّقها بعد أن يقضي منها وطراً... يقال إن له ثلاثين مطلقة وأربعين طفلاً كلهم في نار الفقر.
إلا أنني قررت أخيراً أن ألتهم جابر مبروك، شقيق أبو علي مبروك، ذلك أنه أهانني يوماً أمام جمع غفير في القرية بينهم خطيبتي السابقة وأهلها وأقاربي، ومسح بي الأرض دون أن أستطيع فعل أي شيء سوى الرجاء وطلب العفو والسماح، وأمرني أن أبيع كل ما لدي كي أعطيه ثمن إيجار أرضه التي لم تنجب لي طوال السنة سوى الذل والمهانة والخسارة.
وفي طريقي إلى منزله، تراءى لي طفل صغير قرب دار الخالة زينب العمياء، اقتربت منه فعرفته.. إنه خالد.. ابن السنوات الثلاث.. الذي كان آخر ما أنجبته الخالة زينب قبل وفاة زوجها من مرض مزمن ألمّ به، لم تقو زوجته على شراء الدواء اللازم له.. فعميت من شدة بكائها عليه ألماً وحسرة وقهراً.
أشفقت عليه للحظات، ذلك أن الجوع لم يبق له سوى عظام بارزة وجلد قاس..
قلت في نفسي: \"لا بد أن أمه العمياء لم تنتبه له نائماً قرب دارها، ونامت بعد طول تعب وكدّ طلباً للقمة عيش لها ولأولادها الخمسة\".
وقفت عند رأسه، وبأنيابي القوية أطبقت على قميصه الرث، وسحبته إلى باب الدار.
طرقت الباب طويلاً قبل أن يتناهى إلى مسمعي صوت أمه تسأل عن الطارق.. قلت لها:
- لقد نسيت خالداً نائماً أمام المنزل..
فتحت الباب وتلمّست الأرض فأمسكت به وقالت:
- شكراً لك يا بني..
استوقفها سؤالي:
- ألا تخافين عليه من الضبع؟
أجابت بتعجّب..
- الضبع.. أي ضبع يا بني؟
فأجبتها على الفور انتصاراً لكرامتي..
- ضبع الغابة طبعاً
فقالت:
- كلا يا بني.. فلم يبق ضباع القرية مني ومن أسرتي شيئاً يأكله ضبع الغابة...
ثم دخلت منزلها وهي تسبح بحمد ربها وتستغفره.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد