السحابة


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الإهداء: إلى كل طفل طمرت الحرب ألعابه تحت الأنقاض!!

اللقاء :

أعمدة كثيفة من الدخان تتصاعد في سماء الأفق القريب فتكون سحابة تحجب زرقة السماء وأشعة الشمس.. أحجار متناثرة على طول الشارع.. أكوام تراب مختلفة الأحجام تتربع خلف وأمام بقايا البيوت التي تتعلق حول الساحة.. زجاج متناثر.. أخشاب.. شظايا الحديد.. أثواب ممزَّقة.. أحجار كبيرة وصغيرة.. كل هذه الأشياء مجتمعة قد أخذت لها مكاناً وسط الساحة بشكل يتعذَّر معه رؤية أرضيتها.. ومن خلف الأبواب شبه المهشَّمة يظهر بين الحين والآخر شخص من الأشخاص.. يقف لحظة يمسح عينيه، يديم النظر فيما حوله قبل أن يقفل راجعاً إلي قبو بيته مطأطئ الرأس، أو يأخذ طريقه وسط أكوام التراب والأحجار، ويداه خلف ظهره.. توالى خروج الرجال وكثر تصافحهم ومعانقة بعضهم لبعض، عمَّت الحركة معظم أقبية المنازل، فقُضي على التردٌّد الذي ملأ عليه نفسه. أزاح الباب شبه المهشَّم، مسح عينيه بكمه.. نظر إلى ما حوله.. أدام النظر.. هم بتجاوز الأحجار التي اصطفت أمام عتبة الباب.. تراجع.. تقدَّم.. ركَّز عينيه في الرجال المتحلّقين، وكأنَّه لأوَّل مرَّة يرى مثل هذا المنظر، أرهف السمع ولمَّا تتابعت الخطوات وارتفعت أصوات المتحدِّثين قفز على الأحجار.. خطا خطوات.. من جديد مسح عينيه.. نظر إلى السماء الملفَّعة بالسحابة الكثيفة.. تنقل بعينيه بين أكوام التراب والأحجار والأكياس الرملية التي وضعت متراصة.. تسمرت قدماه لحظة.. حرك يديه، مرَّر إحداهما على رأسه قبل أن يواصل مشيه وسط الأتربة والأحجار والزجاج، بعد خطوات أخذ له مكاناً على أحد الأكياس. وضع يديه على خديه، طاف بناظريه بين الخراب الذي اتخذ له مقاماً في كل مكان قبل أن يمدَّ يده إلى الرمل المنساب من كيس قريب منه، وراح يعبث به شارد البال، وحينما رآه قادماً صوبه قفز من مكانه.. هم بالجري.. توقَّف.. ركَّز بصره فيه.. همهم.. خطا خطوة أولى ثم ثانية.. أغمض عينيه.. فتحهما.. ومن غير تماطل جرى نحوه ثم صاح بأعلى صوته: إدريس! ردَّ الآخر بصوت باك: صالح! تعانقا.. قبل أحدهما الآخر.. مسحا الدموع التي غمرت خديهما.. تبادلا نظرات خرساء.. جلسا جنباً إلى جنب بدون كلام.. ألقى السكون رداءه عليهما دقائق، ولم يتمكنا من إزاحته إلاَّ عندما وقعت عيناهما عليه قادماً، فقال إدريس في شك: أليس هذا أيوب؟!

 أجاب صالح: بلى.

 أراه يمشي على مهل!

 أجل، ولكن أرأيت أنَّه يضع ضمادة على يده اليمنى؟

تبادل الصغيران النظرات، قبل أن يسرعا صوبه، غمراه قُبلاً، عانقهما بدوره متألماً.. أسنداه، خصصا له مكاناً على الكيس الرملي.. بعدها خيَّم الصمت عليهم لحظات أنهاها صالح بصوت هادئ:

ـ أيوب، أراك تضع ضمادة على يدك اليمنى، هل ...

انحبس الكلام في حلق صالح ليقتصر على النظر في وجه أيوب، وقد كست عينيه غشاوة رقيقة من الدموع.. بادله أيوب النظر قبل أن يذهب ببصره إلى حيث تربعت السحابة الكثيفة، في الوقت الذي كان فيه صالح وإدريس ينتظران كلامه بفارغ الصبر.

حديث وأحداث:

أيوب:

مرَّر يده اليمنى على شفتيه، التفت نحوهما وبصوت هادئ حزين قال: من أين أبدأ الحديث؟ وعَمَّن أتحدَّث؟ أأتحدَّث عن جدتي التي ما زالت طريحة الفراش؟ أم عن أخي الأصغر سعيد الذي أصبح من يومها يبكي لأدنى صوت حتى ولو كان صوت كرسي منقول من مكان إلى آخر؟ أم عن أمٌّي التي سقطت وقد أغمي عليها؟ أم عن أبي الذي رأيته لأوَّل مرَّة يبكي كما يبكي الصغار؟ لقد كانت ليلة ليست كباقي الليالي، كنا خلالها في القبو الذي ضمنا منذ اندلاع القتال بين شطري المدينة.. جدتي تحاول تهدئة روع أخي سعيد الخائف من صوت الرصاص المتقطع.. أمِّي تحاول إعداد العشاء من الأشياء القليلة التي عاد بها أبي من الخارج بعد عناء وحذر شديدين، وتخوفات منا على حياته.. أبي يحاول التقاط إحدى الإذاعات.. هذا ما كنا نفعله في تلك الليلة، لست أدرى أهي الليلة الثانية أم الثالثة على بداية سقوط الصواريخ من الجهة الجنوبية.. المهم أنَّ أخي سعيداً صرخ صرخة لم أسمع مثلها من قبل، وجدتي ولولت، أمَّا أمِّي فقد سقطت على الأرض صارخة.. هذا ما رأيته وسمعته، ولمَّا استيقظتُ بعد ساعات وجدت على يدي هذه الضمادة التي تغطي الجرح الذي جرحت جرّاء القفز من مكاني إلي حيث كان يجلس أبي كما حدثني بذلك بعد يومين من الحادث.. لقد كان انفجاراً مدوياً تساقطت بسببه الأتربة عبر المدخنة المخربة لتغطي مكان جلوسي، ودفاتري، إذ كنت أراجع الدروس التي أخذناها قبل اندلاع المعاركº عملاً بنصائح أمي، وتشجيعات أبي الذي طالما حدثني عن قرب توقف الحرب، ودنو موعد الالتحاق بالمدارس.. آه! لقد أتت الأتربة المتساقطة عبر المدخنة على كل دفاتري وكتبي.. انظر إلى الطابق العلوي من منزلنا، لقد تهدَّم كلية.. ذهب الثلاثة بأبصارهم إلى حيث الأحجار والأتربة، وقد تحرَّكت لواعج إدريس وصالح للحديث.

إدريس:

أمَّا نحن فكل الأيام التي مرَّت علينا عصيبة، ولكنني لا أنسى أبداً تلك الليلة التي تضاعف فيها صراخ أختي الصغيرة زينب.. في البدء لم أعرف السبب، ولكنِّي بعد ما رأيت أمِّي ترجو من أبي ألاَّ يخرج، علمت حقيقة الأمر، لبس نعليه فتعلقت به أمِّي باكية : لاداعي إلى الخروج، سأحاول أن أعدَّ لها ما تأكله إلى جانب حليبي.

 ألا تسمعي صراخها يا مريم؟ لاداعي إلى الخوف، أنا أعرف المساكن الآمنة، وفوق هذا فأنا لن أتجاوز نهاية الشارع، فهناك صيدلي نقل الأدوية إلى قبو منزله، لا داعي إلى الجزع فكلها دقائق وأعود.

ألا تسمع صوت البنادق والمدافع.. لمن ستتركنا لا قدر الله؟

 ما هذا الكلام يا مريم؟

هم بالخروج.. دارت أمِّي في مكانها، التفتت نحوي باكية: \"إدريس.. أبوك سيخرج، والصواريخ تتساقط، والرصاص يُمطِرُ\" . بادلتُها البكاء، أردت أن أقول شيئاً، لكن الكلمات لم تسعفني.. ولمَّا غاب عن أعيننا ارتميت في حضن أمِّي المتهاوية على الأرض، وقد أطلقت العنان بدوري لدموع غزار.. مرَّت دقائق وفي إثرها دقائق.. صرخت أختي زينب.. نامت والدموع تغمر وجهها بكامله، استيقظت .. صرخت ثم من جديد نامت باكية.. ذرعت أمي القبو.. همهمت.. بكت.. سرت في أثرها.. اقتربت من الباب.. جلست إلى القرب منه فترة من الزمان لم أدر هل قصرت أم طالت، لأستيقظ في الصباح الباكر على صوت أبي، وهو يتحدَّث عن ضراوة المعارك، وعن حالة الشارع، في الوقت الذي كانت فيه أمي تستمع إليه وعيناها الدامعتان مركزتان في وجهه.

صالح:

آه! كم اصطلت أمِّي وأنا معها بنار الانتظار، إذ كان أبي طيلة أيام القتال يتأخر عن المجيء حتى إذا عاد أفسح المجال أمام التحسٌّر، وأحياناً البكاء، على الحالة التي أصبح عليها الأطفال المعوقون الذين يعيشون في الملجأ الذي يعمل به. وكم أرغمنا على البكاء معه وهو يحكي لنا عن الهلع الذي غمر الصغار منذ اندلاع الحرب.. لكن أين ذلك من البكاء الذي بكيناه ونحن ننتظر عودته في ذلك اليوم العصيب الذي استخدمت فيه الصواريخ؟! فقد تأخر عن المجيء بشكل لم يسبق له مثيل.. حاولت أن أنام لكنَّ صوت الرصاص المتقطع، وتساقط الصواريخ بين الحين والآخر.. وتخوفات أمي وصرخاتها وهمهمتها.. لم يسمحن لي بذلك.. طال انتظارنا وبكاؤنا وتخوفاتنا، وبعد منتصف الليل بكثير عاد أبي في حالة لم يسبق لي أن رأيته عليها .. كان أشعث الشعر.. مغبر الجبين.. دامع العينين.. وما إن دخل حتى ارتمى على الأرض وهو يصرخ صراخاً مؤلماً.. سألناه.. ماذا حدث؟ فلم يجبنا.. جلسنا بجانبه .. بكينا لبكائه.. وبعد دقائق سمعناه يقول: ظلم.. ظلم.. سألناه من جديد.. بالله عليك ماذا حدث؟ فأجاب بتشنج: ظلم.. ظلم.. ألم يكفهم أنَّهم معوقون؟! انتفض قائماً.. جلس.. وضع يده اليمنى على جبينه وراح يتكلَّم بهدوء: \" لقد قصفوا الملجأ.. تهدَّمت عدة حجر، وبترت أرجل أربعة أطفال مشلولين!! وجرح مايزيد على عشرة من العمي!! جروحاً متفاوتة الخطورة.. أمَّا الصُمٌّ فلا يمكنكما أن تتصوروا الهلع والفزع الذي تملَّكهم وهم يرون البيوت تتهدم، والملعب الذي يقضون فيه وقتهم الفارغ يتحوَّل إلى أكوام تراب وأحجار.. لايمكنكما.. استلقى على ظهره وانخرط في بكاء شبيه بالعويل، أمَّا أنا فقد ارتميت في حضن أمِّي وأنا أتخيَّل حالة الأطفال المشلولين خالد ونجيب وعبدالصمد وهدى، الذين طالما لاعبتهم أثناء زيارتي للملجأ بصحبة أبي..

نظر الثلاثة بعضهم إلى بعض، وبدون تعليق على الأحداث التي عرفتها أسرة كل واحد منهم، تنقلوا بأبصارهم بين الأنقاض، ولمَّا سمعوا صوت محرك سيارة تفرَّقوا وقد شملهم هلع شديد .. جروا دقائق بعدها علا صوت إدريس مضطرباً: \" لاداعي إلى الخوف فهي سيارة إسعاف وليست سيارة عسكرية.. أقبلا لاداعي إلى الخوف\".. عاد الطفلان وهما يقولان بصوت واحد: \" آه! لقد نسينا أنَّ الحرب قد توقفت حسب ما قالوا بالأمس\".

ما بعد الحديث والأحداث:

عاد صالح وأيوب، جلسا إلى جوار إدريس، وقد بدأت سرائرهم تنشرح.. حرَّك صالح يديه في نشاط، وضرب إدريس على أحد أكياس الرمل بجمع يده، فضحك أيوب ملء فمه وقال: \"أتذكرون ذلك المساء الجميل الذي قضيناه في اللعب؟\". التفت إدريس نحو أيوب وقرفص صالح وهو يقول: \" أتقصد المساء الذي سبق اندلاع الحرب؟\".

 نعم.. نعم أذكره جيِّداً، لقد لعبنا كثيراً حتى ابتلت أجسادنا عرقاً.

ضحك إدريس وقفز صالح قائلاً: \" ما رأيكم إذن في أن نلعب ما لعبناه في ذلك اليوم الجميل؟\".

صالح أيوب: \" لم لا يا صالح؟\" وحينما استوى أيوب وصالح قائمين تساءل إدريس بصوت هادئ:

\" ولكن ذكِّراني باسم اللعبة التي كنا نلعب\"!

ابتسم أيوب وهو يقول: \" اسمها .. اسمها .. اسمها ..\"

كرَّر الكلمة مرات متتابعة ليأخذها صالح من بين شفتيه، ويكررها بدوره أكثر من خمس مرات قبل أن يضع يده على جبينه، ويركِّز بصره في الأرض.. ولمَّا أوشك الصمت أن يلفٌّهم، صاح إدريس بصوته الهادئ:\"دعونا الآن من اسمها، وذكراني بقوانينها\".

ـ قوانينها.. قوانينها.. قوانينها..

كرر أيوب هذه الكلمة من جديد، وهو ينتقل بعينيه بين الخراب، وكأنَّه يبحث عن شيء ضاع منه وسط تلك الأنقاض.. عاد ببصره.. أدام النظر في أكياس الرمل ليقول في حسرة: \"لست أدري.. لقد نسينا حقاً كل شيء عن تلك اللعبة الجميلة التي لعبنا قبل اندلاع الحرب\".. فرد عليه صالح مصدراً زفرة عميقة: \"وأنا كذلك لم أعد أذكر أي شيء عنها\".. اقترب الأصدقاء الثلاثة بعضهم من بعض.. تجهّمت وجوههم.. وتوقَّفت دوامة الحيوية التي دارت بهم قبل لحظات.. همهموا.. عبثوا بالرمل.. مسحوا أعينهم.. ضربوا على جباههم.. أطرقوا.. قام أحدهم.. جلس الآخر.. طافوا بأعينهم بين الأنقاض.. ولمَّا وقعت عينا أيوب على أشعة الشمس وهي تحاول الظهور وسط السحابة السوداء التي تغطي المدينة، صاح: \" إدريس، صالح.. انظرا: الشمس.. نعم الشمس\"!!

قفز الطفلان.. وبصوت عال صاحا: السحابة ستنقشع إذن.. الضوء سيعم المدينة.. طربوا.. ردَّدوا الأناشيد.. جلسوا مبتهجين.. ثبتوا أعينهم في أشعة الشمس المصارعة للسحابة الداكنة، وقد بدأت تفاصيل قوانين اللعبة الضائعة تتوارد عليهم الواحدة إثر الأخرى.

 

 

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply