بسم الله الرحمن الرحيم
إن الترف ظاهرة خطيرة مثل أختها الطغيان، كلتاهما ظاهرتان متلازمان وإن ظاهرة الترف كانت القاسم المشترك في الحضارات البائدة والأمم المنقرضة الغابرة، ولما كان المسلمون يتسنمون ذرى المعالي والمجد كانوا بعيدين كل البعد عن الترف وحياة البذخ والدعة والسكون، كان العمل ديدنهم والإخشوشان طينتهم، فتبوأوا قيادة العالم، حتى إن الرسول - عليه السلام - كان يقضى أياماً وليالي وهو جائع رغم أنه أحب الخلق إلى الله، وكل دعوته مستجابة عند الله إذ هو إمام الأنبياء، ولما امتدت رقعة الخلافة الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أفريقيا بأدغالها ومجاهيلها غرباً، إلى أرخبيل اندونيسيا شرقاً، حتى وصل المسلمون إلى جدار الصين لدك حصون بني الأصفر، في مثل تلك الأبهة كان عمر وإخوته الخلفاء الراشدون يلبسون ملابس مرقعة، ولما استسلم المسلمون للدعة وخلدوا إلى الراحة بدءوا يتدحرجون من عليائهم.
إن مما لا شك فيه أن الإنسان جسد وروح، والتوازن بين شقي هذا الإنسان لازمة ضرورية لاستمراره فوق الكوكب، ولاستمرار حياته ولسلامته وسلامة محيطه، فقد دعا الإسلام الإنسان إلى ضرورة إيجاد التوازن بين شقيه الروح والجسد، بحيث لا يطغى جانب على الآخر فيتعطل قوى الجانب الآخر، وتفسد بالتالي حياة الإنسان، ولقد جاء منهج الإسلام منهجاً وسطياً قائماً على الاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط ولا إسراف ولا تقتير، ولا شطط كما تضمنت قواعده الكلية تأكيداً على هذه الوسطية.
ومن هذا المنطق شجب الإسلام الانغماس الكلي في المادية والنظر إلى الإنسان والكون نظرة مادية مطلقة، فالحالة الإنسانية حالة مركبة من شقين: الروح والجسد، وإغفال أحد الجانبين يعود بالوبال والهلاك على الإنسان ومحيطه، ولذلك كله فقد دعا الإسلام الإنسان إلى إشباع حاجاته في وسطية معقولة، وهذا الإشباع المحسوب المعتدل يعمل من ناحية على تدعيم خيرية الإنسان وقواها الفاعلة فيه، ويعمل من ناحية أخرى على قوة وسلامة المجتمع البشري، ويعمل من ناحية ثالثة على ضمان إشباع حاجات كل البشر، وعلى هذا النحو لا تقتصر الثروة على قلة قليلة من البشر ولا يتداولها الأغنياء والمترفون بل تدور بين الجميع ليأخذ كل واحد منها نصيبه.
فالثروة منحة من قبل الخالق جل وعلا للجميع، ولذلك جاء الخطاب الخاص بها بصيغة الجمع، والإنسان أياً كان موقعه وأياً كان ثراؤه له منها ما يشبع حاجاته دون إسراف، وعليه أن يحافظ على هذه النعم والثروات التي مكنه الله منها لتؤول إلى غيره وهي صالحة وجيدة إن كانت من السلع المعمرة، وعليه أن يبذل عنايته وحرصه بالطبع دون أن يضمن النتائج، فالأعمال دائما بالنيات، وقد لا يرقى العمل إلى مستوى النية، وهكذا فإن الإسلام يحرص على أن يلتزم المسلم بمنهج إشباع الحاجات دون زيارة أو نقصان ليضمن للجميع نصيباً عادلاً من الخيرات والثروات.
وقد شجب الإسلام الترف والمترفينº لأن الترف يقوم في الأساس على التبذير والإسراف وتبديد المال وحرمان الآخرين من إشباع حاجاتهم، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتعداه إلى تفشي الأمراض الاجتماعية في أوساط المترفين، فحاجات المترفين حاجات كمالية وتطلعية لا تعطى قدراً كبيراً من المنافع الحقيقية بل تتوجه توجها تبديدياً ومظهرياً باختلاس ثمن إشباع حاجات الآخرين الضرورية وتوجيهها كوسائل إشباع كمالية وترفيهية، هذا الاختلال في توزيع واستهلاك الثروات هو الذي دفع المترفين عبر العصور والتاريخ لمعارضة كل الدعوات السماوية التي نزلت من السماء لإقرار العدل والسلام في الأرض، وهو الذي يدفع اليوم القوى الكبرى للنهب وشن الحروب على دول العالم الثالث الفقيرة، ليزداد الأغنياء والمترفون غنى، ويزداد الفقراء والمحرومون فقراً، والقرآن صوّر هذه الظاهرة في صورة رائعة في قول الله عز وجل: \"وَكَذَلِكَ مَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ فِي قَريَةٍ, مِّن نَّذِيرٍ, إِلَّا إِنَّا وَجَدنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ, وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مٌّقتَدُونَ\" (الزخرف الآية 23).
والمترفون يتميزون بالأثرة، حيث حب الذات مركز التفكير والسعي، وعلى هذا النحو فإن غاية النشاط الإنساني عندهم ليس إلا تكديس الثروات وجلب المنافع، فالأثرة لا تعرف القيم والمثل العليا المتصلة بحياة بقية أفراد المجتمع، وحياة وهموم المجتمعات الأخرى، وإنما يتركز اهتمامها على الربح وتكديس الثروات والاستمتاع غير المشروع بالحاجات، فالمترفون يحبون كل ما يمتعهم إمتاعاً حسياً ومادياً بغض النظر عما إذا كان متفقاً مع الأديان والقيم والمثل أو كان مخالفاً لها.
وقد سيطر المترفون على المجتمعات القديمة مما أدى إلى غلبة الاتجاهات المادية فيها، ويتضح ذلك من خلال سلوك المترفين الذين أترفوا في الحياة الدنيا، ولم يحل بينهم وبين الاستمتاع بما أترفوا فيه أي حائل، متجاوزين بذلك أنفسهم وغيرهم، ظلموا أنفسهم باتباع شهواتهم وظلموا غيرهم بحرمانهم من الثروة، وبارتكاب الجرائم الاجتماعية وممارسة الشذوذ والتعرض للغير.
وتكون النتيجة انتشار الاتجاه المادي وطغيانه وتفسخ المجتمع وانحلال قيمه، وظهور الأمراض الاجتماعية، وتضاؤل عناصر الخير، تصدع بنية المجتمع، فالترف يؤدي حتماً إلى فساد المجتمع وهلاكه على المدى الطويل، ووجود الترف في مجتمع ما معناه سقوطه وتصدعه، وتوالي نزول المصائب والكوارث عليه حتى ينتهي وتندثر حضارته، قال الله تعالى: \"وَإِذَا أَرَدنَا أَن نٌّهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا\" [الآية 16 سورة الأحزاب]، ومراجعة حركة التاريخ تؤكد حتمية هذا القانون، صحيح أن الظاهرة الاجتماعية تنمو خلال حركتها عبر التاريخ، وبالتالي فهي لا تتكرر ولكن ملاحظة تطور المجتمعات الإنسانية ورصد حركتها واستخلاص قوانين تلك الحركة من إيقاعها المطرد، يمكن من الاستعانة بهذه القوانين في تحديد المستقبل، فالتاريخ ممارسة بشرية متراكمة يصلح محكاً لاختبار مناهج المعرفة والنظريات، ولقد سقطت إمبراطوريات وممالك ودول بسبب طغيان الاتجاه المادي بعدما تفشت فيها الأمراض الاجتماعية والجريمة والظلم والفساد من نحو الكذب والحسد والرشوة والمحسوبية والغش والسرقة والفجور، فيلحق بذلك أفدح الأضرار بالإنسان كفرد والمجتمع والدولة أيضا، لأن الدولة في نهاية المطاف ليست إلا مجموعة من الأفراد وما صح للفرد صح للمجتمع الذي يتكون منه، أو الدولة التي تستند إليه، وتفشي هذه الأمراض بين الأفراد ينعكس سلباً على أداء الدولة وتوجهاتها، وقد رأينا كيف انهارت دول وحضارات قديمة بسبب الترف، فإذا أضفنا إلى ذلك أمراض الترف البدنية كأمراض الجهاز الهضمي، والبدانة وتصلب الشرايين وغيرها أمكننا أن نعلم مدى خطورة الترف على الفرد والمجتمع على السواء.
ثمة حاجة أخرى ينبغي الإشارة إليها، وهو طبيعة حاجات المترفين، ولقد سبق وأن ذكرنا أنها حاجات تطلعية كمالية لا حدود لها، وكلما أشبع المترفون طائفة من دوافعهم وميولهم وحاجاتهم تولدت لديهم حاجات ودوافع أخرىº لأن الانغماس في المادية يرتب بالضرورة إنساناً استهلاكياً يسعى دائماً نحو إيجاد حاجات ودوافع وميول ليتسنى له إشباعها وإرضاؤها بكل الوسائل المتاحة، فإنه قد تأتي على الإنسان أوقات لا يتمكن معها من إشباع هذه الحاجات والدوافع بسبب مرض أو هرم، وقد يأتي على هذا الإنسان وقت لا يجد فيه حاجات ودوافع جديدة، فتتكرر حاجاته وتتكرر وسائل الإشباع فيشعر بالسأم والضجر، ويقدم على الانتحار.
والمؤشرات الإحصائية تشير إلى الارتفاع المطرد في نسبة الانتحار في دول الغرب الغنية، ومثل هذه الظاهرة لا توجد في المجتمع الإسلامي، إن الإنسان المسلم يعلم أن رحلته في الدنيا عبثاً وهو يتوخى من خلالها الفوز برضا الله وأن وسيلته إلى ذلك عمله، لذلك فإنه يعمل ويجاهد ليحقق هذه الغاية وهو راضٍ, وسعيد، وهو يعلم كذلك أن خير الناس من طال عمره وحسن عمله، فحياة المسلم في رحلته من المهد إلى اللحد هي لله، وهي محكومة ومنضبطة بمنهج الإسلام وأخيراً فإن سوء توزيع الثروات في العالم اليوم قد أدى إلى اتساع الفجوة والهوة بين الفقراء والأغنياء، حيث شن الأغنياء الأقوياء الحروب ضد الفقراء والمستضعفين ليزداد المترفون ترفاً، في الوقت الذي انتشرت فيه أمراض الجوع وفقر الدم ونقص البروتينات والفيتامينات وأمراض التلوث البيئي بين فقراء العالم، ولقد أشارت إحصائيات موثقة أن الطعام القابل للأكل الذي يستهلكه سكان مدينة دبي وحدها يكفي لإطعام الصوماليين الذين يموتون جوعاً، فإلى الله المشتكى وهو المستعان.
ولقد أصدر برنامج الأمم المتحدة للتنمية تقريراً خطيراً في عام 2000م أوضح فيه بلغة الأرقام كيف اتسعت الفجوة بين الفقراء والأغنياء بصورة هائلة وخطيرة وبشكل لا يبشر بالخير إزاء المستقبل بالنسبة للدول الفقيرة، ويضيف التقرير: \"إن الفارق في الدخل بين الـ5% الأكثر ثراء من سكان العالم والـ5% الأشد فقراً ارتفع إلى نسبة 74 إلى واحد في عام 1960م كما انخفضت نسبة دخل الفرد في أكثر من 80% دولة في العالم عما كانت عليه قبل عشر سنوات\" للتفصيل يرجى مراجعة تقرير الأمم المتحدة، برنامج التنمية البشرية، الصادر في شهر يناير عام 1999م.
وربما دفع هذا التقرير البعض إلى الشعور باليأس والإحباط والإحساس بالشفقة لمصير الدول الضعيفة ولكن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد