بسم الله الرحمن الرحيم
كما في الجسم الحي روح يستمد منه الحركة والدفء والحياة، كذلك الوظائف والأعمال، والتي منها العمل الدعوي والتربوي ومختلف أشكال الحركة بالإسلام في مشروعه الكبير، تحتاج إلى رصد ومراقبة الروح السارية فيها، حتى لا تفقد معناها وتذبل مقاصدها، ذلك أن الأجسام الحية في الحياة \"البيولوجية\" تموت مباشرة بعد مفارقة الأرواح لها، بينما الأعمال والوظائف بل وحتى المؤسسات والدول، يحدث فيها فاصل زمني - يطول أو يقصر - بين ذهاب روحها وموتها الفعلي والنهائي.
وإذا كانت فترة التأسيس والبناء الأول للأعمال والوظائف بمثابة نفخ للروح فيها، فإنها بحاجة للتفقد والمراقبة والتجديد والنفخ المتوالي، لضمان الحيوية والاستمرار بل وحتى النمو والزيادة، والنفخ يكون فعالا كلما بدأ من الرأس في تلك الأعمال والوظائف، نأخذ إشارة هذا الأمر من فعل الله - عز وجل - بخلقه، فقد جاء في خلق آدم - عليه السلام - كما ورد في سنن الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح، عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: يرحمك الله) وذكرت رواية صحيح ابن حبان \"الرأس\" صراحة، فعن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لما نفخ في آدم فبلغ الروح رأسه عطس، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له - تبارك وتعالى -: يرحمك الله).
فالحيوية والحماس والالتزام والوفاء بالعهود والنشاط في الإنتاج والإبداع في المبادرات، ينبغي أن يبدأ أول ما يبدأ، في رأس التنظيم والمؤسسة والجهاز سواء كان كبيرا أو صغيرا، لتسري تلك المعاني في باقي الجسم، وإذا كان من هم حقيقي وانشغال صادق بما هنالك من آفات، فلتكن البدايات من هناك أيضا. وليبدأ كل مسؤول في وحدته سواء كانت على مستوى الأمة أو الوطن أو الجهة أو الإقليم أو الحي أو الخلية، وليباشر كل واحد مسؤوليته الأسرية، وذلك في شمولية حركية رائعة، تناسب شمولية المسؤولية في الإسلام، روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، قال: وحسبت أن قد قال: والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته).
فما ترك الهدي النبوي عذرا لأحد، مهما كانت حدود صلاحياته ومهامه من الحاكم إلى الخادم، ويستفاد منه بخصوص ما نحن بصدده، أن يتولى كل واحد نفخ الروح في دائرة اختصاصه، وذلك في قوة وفعالية حتى يطمئن لتجاوز تأثيرها لما دونها من المستويات، فكذلك علمنا الدين، فالأنبياء خير قدوة لما يدعون الناس إليه، كما قال - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِه} ومنهم حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله فيه: {لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}، ومن بعده من كان نبراساً في التقوى والصلاح والهداية كالصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان .. وعلماء الأمة العاملين، و من يصلح الاقتداء به في هذا الزمان من الأخيار، مع الانتباه إلى أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .. وتبقى القاعدة: اعرف الحق تعرف أهله، وأحسن إذا أساء الناس..
فمن أعظم الحلول لشكوى المسئولين في مستوياتهم المختلفة، من السكون واللين والضعف والكسل والتراخي والتباطؤ وقلة الانضباط...، هو البدء بالنفس وبالمحيط القريب ثم النظر في توسيع الدائرة شيئا فشيئا، حتى تسري روح الجد والنشاط من جديد، إنه الدرس الذي علمته أم سلمة للأمة كلها، والتي أنقذ الله بها خيرة الصحابة من الهلاك، فقد جاء في السيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من كتابة بنود صلح الحديبية وما كان في ظاهرها من تنازلات هزت كثيرا من الصحابة قال - عليه الصلاة والسلام -: (قوموا فانحروا)، يقول الرواة: فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله، أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدنَه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا \".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد