بسم الله الرحمن الرحيم
حاول مدير المدرسة بشتى الطرق أن يعفيني من وكالة المدرسة إلا أنه أقنعني بأن المدة لا تتجاوز بضعة أشهر وذلك ريثما يعود الوكيل الرسمي من دورته التدريبية فأعود لمنصبي السابق مرشدًا طلابيًا فقبلت المهمة على مضض.
كان اليوم الأول يومًا عاديًا بالنسبة لي فقد كنت متوقعًا تقاطر المعلمين (لاسيما الذين لم يتسن لهم النقل) لتهنئتي على هذا التكليف والتشريف، إلا أنه (على حد علمي) لم يدع لي أحد منهم بالبركة على هذا المنصب! اكتشفت فيما بعد (وما أكثر اكتشافاتي المتأخرة!) أن الفترة المؤقتة التي سأقضيها وأرحل بعدها لها دور في ذلك.
كانت الابتسامات الصفراء التي أتلقاها من ثغورهم توحي بأني غير مرغوب فّي، لاسيما أنني كنت قبل عدة أسابيع أعد من زملائهم وليس لديّ أي نفوذ، فيما كنت أبادل تلك البسمات بأخرى تحمل نفس الألوان والسمات ولسان حالي يقول: «ماكو فكه ما فيه غيري».
لزوم ما لا يلزم:
وقفت شامخًا بقامتي الطويلة بعد تقلد المنصب الجديد أمام الطلاب وفي مقدمة الصفوف ـ طبعًا صفوف المعلمين وليست صفوف الحرب ـ وكان الشماغ مشبعًا بالنشاء حتى بدا لي في حركة سادية مقيتة كأنه رأس رمح!! وكانت أطرافه تتدلى عن يميني وعن شمالي وكأنها تنتقدني على ذلك الشموخ. وبدوت راسيًا أمام الجميع حتى ظننت نفسي ما أنا إلا كطود عظيم. وبينما أنا كذلك سرت قليلاً بين الجموع حتى شعرت بتثاقل عجيب في أطرافي السفلى، لم أفكر حينها أو أسأل نفسي هل كان ذلك التثاقل هو رهبة من الموقف الذي أقف فيه بعد توزيري المنصب، أم أنه زهد بما آل إليه حالي، أو أنه ضمن ما يندرج تحت بند «لزوم المنصب»؟
قائمة التحذيرات:
حينما دلفت إلى مكتب المدير في ذلك الصباح الصيفي الحار فاجأني بسرد قائمة طويلة وعريضة من الممنوعات والتحذيرات زادت هي الأخرى من حرارة جسمي المثخن (مسبقًا)!! كانت القائمة تتحدث بشأن التعامل مع الزملاء والطلاب في المدرسة، إضافة إلى العاملين بها. لم ألحظ أي بند من هذه القائمة لشيء مسموح البتة، وقفت مشدوهًا ولا يزال يستطرد في قراءة هذه القائمة الذهنية، وكان جادًا فيما يقول ويأمر به. كنت أهز رأسي مع نهاية كل تحذير معلنًا السمع والطاعة، وكان يتخلل كل هزة رأسية وأخرى إحدى هذه الموافقات (طيب، أبشر، حاضر) البسيطة لفظًا والثقيلة تطبيقًا.
بعد أن انتهى من تحذيراته وانتهيت أنا من موافقاتي العشوائية التي لم أقاطعها بأي استفسار آملًا في الخلاص منها - بدأ سعادة المدير يقلب بعض السجلات ويعرضها عليّ لأقوم بالتقيد بها وتنفيذها وعمل ما يلزم. شعرت بدوار في رأسي وهو يرفع سجلاً ويعرض آخر لم أعد أفرق بين سجل الوارد وسجل الصادر، وتهت بين سجل استئذان الطلاب وسجل إجازات المعلمين، وتلاشى تركيزي وهو يعرض سجل توديع المعاملات ويمسك باليد الأخرى سجل التعاميم!! لم أفق جيدًا إلا على صوت آخر سجل يقذف به على سطح مكتبه. لم يسألني إن كان ذلك مفهومًا أم لا، لكنني أجبت ببلادة باهتة: «مفهوم يا أستاذ مفهوم».
حملت دفاتري وسجلاتي إلى حيث مكتبي في الدور الثاني ووضعت بعضها عن يميني والبعض الآخر عن شمالي، هكذا بدون ترتيب وقد تولد لدي شعور بعد ذلك بأن هذا التصرف يشعرني بأهمية عملي هذا، بل يوهمني أني غارق ومنهمك في العمل.
أنا الزعيم
فاجأني المدير في منتصف الأسبوع الأول بالاستئذان مني في الخروج من المدرسة لإنهاء بعض الأعمال المتعلقة بالمدرسة وكان ذلك حوالي الساعة التاسعة صباحًا، لم يدر بخلدي كيف ستسير المدرسة بعد خروجه منها، بل أحسست بنشوة عارمة تنتابني وأنا أرجع بظهري إلى الوراء قليلاً لأسمح له غير آسف على المغادرة. لكن ما نغص عليّ هذه الفرحة هو إعادة سرد «الينبغيات» من قبل المدير. كان منهمكًا في تحذيراته، بينما كنت أتجول بفكري في شؤون المدرسة بعد خروجه، وكيف أني المسيطر الوحيد هنا. هل يعقل أن أكون أنا ربان السفينة فقط لا غير؟! وحينما انتهى كنت قد قفلت راجعًا بتفكيري أيضًا ولم أكن محتاجًا إلى تذكر القائمة إياها لأنني حفظتها عن ظهر قلب.
بدا لي أن الوقت يمر سريعًا من بين يدي، وكأنه لم يكن شيئًا مذكورًا، وهو الذي لم يكن شيء أثقل منه دمًا خاصة في أوقات الدوام المعتادة، عرفت السبب فبطل العجب!
جاز لي أن أتجول بين ردهات المبنى وأن ألفت الأنظار، جميع الأنظار الحية والجامدة، حاولت أن أحدث تغييرًا وذلك مخالفة للمدير! ولأعطي انطباعًا للزملاء والطلاب أني لست صورة كربونية من الوكيل السابق أو حتى أغير النظرة الخاطئة التي مفادها أن الوكيل هو الرجل الآلي للمدير أو كاتبه. كنت أحاول جاهدًا الخروج من هذه البوتقة الإدارية إلا أنه لم يلفت انتباهي أي شيء. فقد بدا لي كل شيء عاديًا جدًا، المعلمون في فصولهم والطلاب على مقاعدهم والعاملون في أعمالهم تمنيت أن أجد خلاف ذلك لحاجة في نفسي لن أتورع عن الإفصاح عنها، فقد كنت أريد أن أضع بصمة خاصة بي تميزني عن الآخرين. والحمد لله فقد تكون الأقدار جاءت لصالحي، وإلا ما يدريني ماذا كنت سأفعل لو رفض معلم دخول حصته، أو رفض عامل المدرسة الانصياع لأوامري الباردة. بصراحة لا أدري ماذا كنت سأفعل!
توقعت وقتذاك أنني كنت متأثرًا بالزيارات المفاجئة التي يقوم بها وزراء الصحة التي يقصون فيها عددًا من القيادات الطبية بسبب تهاونها. أصبت بحمى هذه المفاجئة واشتعلت الفكرة في رأسي وآليت على نفسي أن أقوم بها متى ما سنحت الفرصة المناسبة وأصبح القرار في يدي. أعتى ما عملته ذلك اليوم (لأشعر أنني المسيطر الوحيد بالمدرسة) هو صرف الطلاب قبل نهاية الحصة الأخيرة بثلاث دقائق!
فزعة خطيرة:
في ذلك اليوم الذي خرج فيه المدير مبكرًا من المدرسة مستأذنًا حضر إليّ أحد المسنين من قرية تبعد حوالي 50 كيلاً عن مقر المدرسة طالبًا مني قبول ابنه في مدرستنا، ولذا فهو يريد ورقة قبول توضح للمدرسة المنقول منها أنه لا مانع من قبوله لدينا. وحيث إن هناك نماذج معدة لهذا الغرض فقد كانت في مكتب المدير مع أوراق رسمية أخرى لم أفهم حتى الآن لِم لم يزودني بها هل هو نسيان أم...؟! سؤال ينضح بلادة.
لم أكن مخولاً بإصدار مثل هذه الموافقات، في ظل غياب المدير وعدم وجود النماذج في مكتبي، لكنني تخطيت كل ذلك وأصدرت له موافقة بقبول ابنه في المدرسة دون الرجوع إلى أحد وكتبت موافقتي الكريمة على ورقة غير رسمية ممهورة بتوقيعي الموقر هكذا «الوكيل المكلف».
لم أكن أود الدخول في هذه المعمعة من تجاوز حدود عملي بالرغم من عدم إيماني بهذا الروتين القاتل، لكن إلحاح الرجل العجوز بأنه لا يستطيع الحضور في اليوم التالي لبعد قريته أيقظ عاطفة داخلية كانت نائمة منذ زمن، بل كانت كفيلة بأن أذهب لمساعدة الرجل على الفور والوقوف معه في هذا الظرف الحالك.
أحسست بندم شديد على هذه «اللقافة» حينما قفلت راجعًا إلى المنزل، توجست خيفة من إبلاغ المدير لكنني تماسكت قليلاً وداهمته مباشرة عقب صلاة مغرب ذلك اليوم في المسجد وهو لم يفرغ بعد من تسبيحه وتهليله (حتى يكون ذلك أدعى لانشغاله عن الموضوع)، تفاجأ بالأمر وازدادت حدقة إحدى عينيه اتساعًا ليزداد قلبي خفقانًا أيضًا. صمت فجأة ليتوقف قلبي برهة أيضًا، فقال: بسيطة يا رجل.. سأحل الموضوع.
في اليوم التالي حمدت الله كثيرًا وأنا أرى ذلك المسن يحمل ورقتي التي لم تقبلها المدرسة الأخرى. أخذتها منه ثم شققتها وأعطاه المدير ورقة رسمية أخرى. وهكذا تعلمت درسًا جديدًا.
وكلاء مساعدون:
لا يظن أحد أن هؤلاء الوكلاء المساعدين برتبة وكلاء وزارة، بل هم مساعدون لسعادة الوكيل المبجل الذي نأى بنفسه عن بعض الأعمال الهامشية، إما لجهل منه فيها لم يفصح عنه، وإما لعدم اتساع وقته الثمين لمثل تلك البدائيات.
آليت على نفسي مهمة اختيار هؤلاء الوكلاء المساعدين وتعيينهم كل في موقعه، فالأستاذ «عبد السميع» الوكيل المساعد للشؤون التعليمية، والأستاذ «محمود» الوكيل المساعد لشؤون الطلاب والتعاميم. والتعاميم هذه مهمة في ترويسة الوكيل الأخير لأنه لا يشغل أي وكيل مدرسة شيئًا كالتعاميم سواء كانت الداخلية منها أو الخارجية. فيوميًا يدلف البريد عشرات التعاميم المهمة وغير المهمة.
كانت الحصص القليلة التي يتمتعون بها إبان فترة وكالتي للمدرسة هي الحافز الوحيد لهم لاكتساب خبرة جيدة عليهم (ليست بالضرورة نقلها عني)، إضافة إلى التقرب من حضرة الوكيل، حيث لم تكن هناك زيادات مالية تحرضهم على المساعدة المجانية!
لم ألتزم بتلك التسميات التي أطلقتها على المناصب الجديدة، ولم أعرها اهتمامًا وتطبيقًا، فغالبًا ما استخدم وكيل الشؤون التعليمية في قرع جرس الحصة وتوزيع الكتب الدراسية على الطلاب. وهذا ينطبق أيضًا مع الوكيل الآخر، وكنت علاوة على ذلك أمارس جميع هذه المهام التي تسنم قيادتها الوكيلان المساعدان إيغالاً في المركزية التي كنت من أوائل المنادين في المدرسة بشطبها، ليس في الحياة الإدارية فقط، وإنما من الحياة كلها، ومع ذلك فقد مارستها حتى يعلم الجميع بأنه ليس الشعراء وحدهم فقط من «يقولون مالا يفعلون» بل الإداريون أيضًا!
العامل الكاتب:
لم أتوقع أن أكون محظوظًا إلى هذه الدرجة بهذا المنصب، فلم يكد يمر أسبوعان من بدء الدراسة حتى قام تعليم الليث بحركة نقل تأديبية بحق بعض الموظفين والعمال المتهاونين كان نصيب مدرستنا أحد هؤلاء المنقولين بمرتبة عامل فئة (أ).
ظللت أسبوعًا كاملاً أناديه وأنعته بالأستاذية لاسيما بعد أن خصص المدير مكتبًا له جوار مكتبي. جهلت أو تجاهلت وظيفته لم أدر أيهما صنعت، لكن ما أعلمه جيدًا أني استعنت به في جميع الأعمال المكتبية.
بعد فترة من الوقت ليست بالكثيرة، عقبت على بعض أعماله لأتأكد من جودة عمله، فهالني ما رأيت، أخطاء إملائية لا تحصى، وفوضى عارمة لا تضبط و(عك)بالمعاملات، و(لخبطة) بالخطابات، حمدت الله أني كشفت عن هذا الورم مبكرًا وإلا استحال (خبيثًا) لا برأ منه.
الصفعة المدوية التي هزتني بالفعل هي أن صاحبي هذا لم يتجاوز في تعليمه الابتدائية. وكيف أرجو من حامل هذه الشهادة غير ما اجتهد به؟! حري بي القول إن هذا الزميل لم يستمر معنا أكثر من شهرين وتم طي قيده نهائيًا من التعليم بسبب تكرر غيابه.
سقوط الرمز:
ما إن جلست على كرسي المنصب في أول يوم عمل حتى انهالت عليّ الاقتراحات والتوصيات من المعلمين كل فيما يخصه، راجين في العبد الضعيف تحقيق هذه الأمنيات.
توقعت في البدء أن لهذا المنصب إلى جانب بريقه صلاحيات وتجاوزات يستطيع الوكيل فعلها متى شاء، وهذا التوقع ظل يلازمني طيلة فترة ليست بالقصيرة من بداية عملي، وبذلك صدقت هذه الاقتراحات التي ما فتئ الزملاء يطرحونها عليّ صباح مساء، حتى إنهم استغلوا تجمعاتنا خارج أوقات الدوام ليمطروني بتوجيهاتهم التي تصب حقًا في مصلحة العمل وذلك ظنًا منهم أنني أسعد بمثل هذه التوصيات خارج العمل.
هم يظنون خيرًا بي وأن القرار بيدي وكنت أسايرهم في ذلك لأوهمهم أنني أملك صلاحية إصدار تلك التوصيات على شكل قرارات نافذة وكان الواقع يكذب ذلك.
كنت أعلم يقينًا بعد خوضي لتجربة الوكالة بأنني لا أملك حتى صلاحية الاحتفاظ بالختم، فضلاً عن استخدامه، ولكنني لم أشأ وضع نهاية مأساوية مبكرة لحلم عدد من الزملاء الذين توسموا فيَّ الخير والصلاح، ولذلك لم أعترف لهم البتة، لم أشأ فعلاً أن يسقط الرمز «الوكيل».
عرفت حدود عملي فلزمت ـ وكان منحصرًا هذا العمل في الكتابة لا غير ـ كتابة تقرير، كتابة قبول طالب، كتابة أسماء الطلاب والمعلمين الغائبين ولا يمنع أن أرفقها بأسماء الفراشين!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد