بسم الله الرحمن الرحيم
زود الله - تعالى - أجسامنا بجهاز للمناعة، يساعدها على المحافظة على آلية عملها، وعلى صيانتها من الوافدات الأجنبية التي يمكن لها أن تضرَّ بها، وتقضي على سلامتها. وجهاز المناعة لدى الإنسان قوي إلى حد مدهش، فالجسد بسبب ذلك الجهاز يظل يقظاً حيال ما يدخل في نسيجه مهما طال الزمان، فالذي تُزرع له كلية مثلاً يظل في حاجة إلى أن يأخذ أدوية لتثبيط المناعة في الجسم مدى الحياة!.
نحن على المستوى الفكري في حاجة إلى جهاز مناعة مماثل من أجل حماية فكر الأمة من التدمير، ومن أجل إبقائه في حالة من النشاط المكافئ للتحديات التي تواجهنا. وعلينا أن نسلَّم منذ البداية بأننا لن نحصل على نظام لحماية تفكيرنا وأفكارنا كالنظام الذي زوّد الله - تعالى - به أجسامنا، فهذا هبة تامة كاملة. أما ما سنصل إليه باجتهادنا فإنه جهد بشري فيه كل نقائص البشر وكل أشكال قصورهم. وإنما علينا أن نصل إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه. وإذا تأملنا في هذه القضية وجدنا أننا في حاجة إلى فهم أمور والعمل بها، إلى جانب حذر أمور واجتنابها. ولعلي أتحدث في هذه وتلك بما يقرَّب هذه القضية إلى الأذهان على نحو ملائم.
أولاً: الأمور التي ينبغي استيعابها:
إن الفكر الإسلامي هو عبارة عن مجموعة الرؤى والتحديدات والطروحات والاجتهادات التي توصل إليها العقل المسلم من خلال اشتغاله على النصوص والأحكام والأدبيات الشرعية والإسلامية، وذلك بغية استيعاب الواقع الموضوعي والارتقاء به وحل مشكلاته. والأفكار هي ثمرات تشغيل العقل، وهي أشبه بالزبدة التي يحصل عليها الفلاح حين يقوم بخضّ اللبن. والتفكير هو ذلك الخضّ التي تقوم به عقولنا لمجموعة ما نملك من مبادئ ونعرف من نواميس وسنن ومعلومات ومعطيات معرفية. إنه بعبارة أخرى انطلاق من معلوم من أجل الوصول إلى مجهول. ومن المهم أن ندرك أن إحاطة عقولنا بما نعدّه معلوماً من مبادئ ومعارف... تظل إحاطة ناقصة وقاصرة، كما أن الجهود العقلية التي نبذلها في سبيل التوصل إلى بلورة رؤى ومفاهيم جديدة تظل هي الأخرى نسبية في اكتمالها ونضجهاº مما يعني أن عمليات الاجتهاد يجب أن تظل مستمرةº لأنها لن تبلغ في أي يوم من الأيام المستوى الذي ينقطع عنده الجدل، وتظهر فيه الحقائق على نحو كامل. ويعني هذا أيضاً شيئاً آخر هو تفاوت الآراء والاجتهادات التي سنتوصل إليها. وهذا التفاوت ناتج من تفاوت إدراكنا لجوهر المعطيات التي تشتغل عليها عقولنا، ومن تفاوت عمليات التفكير التي نقوم بها، حيث لا نملك ما يمكن أن يجعلها موحدة ومتجانسة. ومن هنا فإن اتفاق الناس في الفروع و الجزئيات لا يكون أبداً فضيلة أو شيئاً يُطمأن إليه. إنه يدل على أن العقول توقفت عن العمل لتقف على أرضية مشتركة من التلاشي والعدم فالحياة دائماً متنوعة وملوَّنة. أما السكون والموت فهو شيء واحد بإطلاق.
ومن هنا فإن الاختلاف في إطار المبادئ والقواعد الكبرى يعبرّ دائماً عن حيوية فكرية، نحن في أمس الحاجة إليها. ولكن علينا دائماً أن نسعى إلى جعل الخلاف يقوم على أصول عقلية وشرعية معتبرة ومعترف بها.
كما أن علينا أن نشجع الحوار والنقد المؤطر والمحلى بالأدب والخلق الإسلامي الرفيع، بعيداً عن التجريح والاتهام ومحاسبة الناس على نواياهم. ومن المهم في هذا السياق أن نحذر شيئين: الجهل والظلم. كما أن من المهم كذلك أن نفصل بين المعطيات والأمنيات وألا نطلق العبارات الرنانة إذا كنا لا نملك من البراهين ما يوفر لها تغطية منطقية واستدلالية مقبولة. إن هذا يساعد مساعدة كبيرة على بناء جدار المناعة الفكرية الذي علينا جميعاً أن ننهض لتشييده.
إن العقل في الرؤية الإسلامية عبارة عن قوة إدراكية عظمى، امتنّ بها البارئ جل ثناؤه- على بني الإنسان. ومع أنه يملك بفطرته مجموعة من المبادئ التي تساعده في إنجاز بعض المهمات إلا أنه يظل غير قادر على الاستقلال بنفسه في محاكمة الأشياء ورسم طريق المستقبل، بل إنها نفسية يسهل خداعها، واستسلامه أمام الخبرة العريقة مشاهد وملحوظ.
إن العقل لا يستطيع من غير إرشاد من خارجه الوصول إلى معرفة العلل الأولية ولا الغايات النهائية للوجود. وهو لا يملك محكّات جيدة لتحديد المهم من غير المهم، ولا يستطيع الفرز بين النافع والضار والخير والشر وتحديد ما هو نافع حالاً ضار مآلاً في كثير من الأحيان... وقد شبَّه بعض علمائنا القدامى العقل بوصفه آلة الإدراك بالعين بوصفها آلة الإبصار. وكما أن العين مهما كانت سليمة وجيدة لا ترى الأشياء إلا إذا غمرها النور، فإن العقل لا يرى الأشياء إلا إذا غمرتها المعرفة، ولهذا فرؤية المشكلات تحتاج إلى معرفة، ولا مشكلات بدون معرفة كما أن لا حلول لها أيضاً من غير علم. الأشياء لا تُرى إلا إذا وجدت العين ووجد النور، والأمور لا تدرك على النحو المطلوب إلا إذا وجد العقل ووجد العلم. والمعرفة دائماً هي خبز الدماغ الذي يقتات عليه. ومن غير ذلك الخبز تنهار عمليات الدماغ، وتنحط إلى المستوى الأدنى. وحين نفكر في مسألة دينية محضة فإن المعرفة المطلوبة آنذاك تكون معرفة إيمانية شرعية. وحين نفكر في مسألة دنيوية، فإننا نحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى معرفة فنية مهنية متخصصة. وهذه الرؤيا للعقل والتي تمت بلورتها قبل ما يزيد على عشرة قرون هي آخر ما توصل إليه العقل والعلم في العصر الحديث، حيث يجري اليوم تشبيه العقل البشري بالعقل الإلكتروني أو الحاسب الآلي والذي قال فيه أحدهم إنه في آن واحد أذكى وأغبى آلة اخترعها الإنسان. وكما أن الحاسب الآلي لا يعمل من غير برامج نحمّلها عليهº فإن العقل البشري لا يعمل من غير معرفة جيدة نزوده بها.
وقد قال أحد المفكرين بحق-: إن الذكاء لا ينفع الذين لا يملكون سواه شيئاً. وكما أن الحاسب الآلي لا يستطيع إدخال تحسينات جوهرية على البرامج التي نزوده بها ويشتغل عليها، فإن العقل البشري كثيراً ما يقف عاجزاً عن القيام بعمليات نقدية شاملة وعميقة للأصول والمعطيات التي نزوده بها ولهذا شرح طويل، لا يتسع المقام لبسطه.
وقد وقع الخلل لدينا في طبيعة الموقف من العقل من قبل طائفتين كبيرتين: طائفة وثقت بالعقل وثوقاً مطلقاً، فحملته مسؤوليات، لا يستطيع القيام بها، ووصل الوثوق إلى درجة الإعراض عن هدي الشريعة الغراء في بعض الأحيان وكانت النتيجة هي استناد العقل إلى معارف واجتهادات وخبرات بشرية متراكمة وإلى العادات والتقاليد والمألوفات السائدة. ولا يمكن لهذه وتلك أن تؤمَّن للعقل حاجاته الأساسية من المبادئ الكبرى والمعارف الصٌّلبة والحكمة البالغة والرؤى الشاملة.
أما الطائفة الثانية فإنها استهانت بدور العقل، وبخسته حقه، حيث ظنت أنها من خلال معرفتها بالمنتج الرباني الأقوم تستطيع فهم الواقع الموضوعي وتطويره والاستجابة لمتطلباته وابتلاءاته. وهي لا تدرك في غالب الظن- الفارق الجوهري بين المنهج الرباني وفقه الحركة به، وهو فقه يعتمد أساساً على تشغيل العقل بطريقة جيدة وعلى النفاذ إلى الاطلاع على القوى الأساسية التي تشكل الواقع وتدفع به في اتجاه دون اتجاه. كما أن هذه الطائفة ربما كانت لا تدرك أن المبادئ والأحكام التي تشكل رؤيتنا الشرعية والحضارية للحياة، لا تعمل في فراغ وإنما تحتاج إلى بيئة وشروط موضوعية محددة. وتأمين تلك البيئة وهذه الشروط من مهامنا نحن، وليست من مهام المنتج الرباني.
بالعقل الذكي المسلح بالمنهج وبالخبرة والمعرفة الممتازة نستطيع توظيف المنتج وتوفير الأدوات التي تمكنه من ترشيد حركة الحياة.
في المحصلة النهائية لموقف الطائفتين وإن اختلفت على المستوى الشرعي والأخلاقي لكنها على المستوى العملي متقاربة، وهي وجود الانفصام النكد بين أمور الدنيا وأمور الدين، وبين الرؤية النظرية والواقع العملي على ما هو مشاهد في معظم أصقاع عالمنا الإسلامي. وفي حالة كهذه يكون الحديث عن المناعة الفكرية ضرباً من التفاؤل غير المسوَّغ، حيث لا تحصل الأفكار على الصلابة المرجوة إلا من خلال توازن عميق ودقيق بين المعقول وبين المنهج وآليات تطبيقه وتوظيفه.
والله مولانا.وللحديث صلة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد