الفريضة الغائبة ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن التفكير فريضة غائبة في كثير من جوانب حياة أمتنا، وواقع علاج مشكلاتها وطرق مواجهة أعدائها، ولابد - والحالة هذه - من السعي إلى إعادة التفكير إلى دائرة الضوء، ووضعه في المراتب العليا من سلم الأولويات، والتفكير الذي ننشد إحياءه وشيوعه له مواصفات مهمة منها:

 

التفكير العام:

وهو الذي يعنى بالشأن العام للأمة وليس مقتصراً على التفكير في الشؤون الخاصة للأشخاص أو المؤسسات، فهذا يحظى بعناية أربابه لما يحقق لهم من مصالح، وقد نجد نماذج متميزة تفكر في أمورها الخاصة بكفاءة عالية، ويهمنا كيف نستثمر تفكيرها في الأحوال العامة للأمة.

 

التفكير الشمولي:

وهو الذي يتناول المسائل من جميع جوانبها، ويفكر في جميع ما يتصل بها، فالتداخل في عالم اليوم جعل العلاقات متشابكة، فالاقتصاد يؤثر في السياسة، والسياسة ترتبط بالإعلام،وكل من الاقتصاد والإعلام ينعكس على الاجتماع وهكذا، ومن ثم لابد أن يكون التفكير شاملاً لجميع العلاقات والتداخلات المتصلة بالموضوعات.

 

التفكير المتخصص:

ونحن في عصر التخصص الدقيق فإنه ينبغي أن يعطى التخصص حقه وقدره، وأن تحال كل قضية للمتخصصين لئلا يتصدى لها من لا يحسنها، ولئلا تتكرر مآسي واقعنا في وجود مسئولين على رأس وزارات في غير تخصصاتهم، فالصحة مسئولها متخصص في الجيولوجيا، والصناعة مسئولها متخصص في النحو وهكذا.

التفكير الواقعي:

إذ التفكير يبدأ من معلومات الواقع أساساً، والواقعية تبتعد عن الأحلام والخيالات، وعن المزايدات والمبالغات، ولكنها في الوقت نفسه لا تستسلم للواقع بل هي تهدف إلى تغييره والتغلب على مشكلاته وسلبياته، ومن ثم فإن الواقعية ليست قيداً يحد من التفكير ويحول دون التغيير كما قد يفهم بعض الناس، ويلحق بالواقعية المرونة التي لا تحمل على التصورات والحلول الآحادية بل تضع التوقعات وتحسب حساب ردود الأفعال ومنها إيجاد البدائل وتنويع الحلول والوسائل.

 

التفكير التكاملي:

وهو التفكير الذي تتكامل فيه الجهود وتتظافر فيه الطاقات، ولا يكرر فيه ما سبق التفكير فيه بل يبنى عليه، ولا يكون التكامل إلا إذا وجد مبدأ التعاون، وكان هو روح العمل وأساسه، ثم إن الجوانب التخصصية المختلفة لابد من جمعها والتأليف بينها لأن التداخل والتأثير بين الجوانب المختلفة يوجب ذلك.

 

والحق أن التفكير المنشود هو التفكير المقصود، الذي نقصد إليه قصداً، ونتوجه لإيجاده وتحقيقه، ونفرغ له الطاقات اللازمة، وتوفر له الإمكانيات المناسبة، والوعاء المعروف لتحقيق ذلك هو مراكز الدراسات والبحوث، والأجهزة المركزية للمعلومات والإحصاءات، والدول منفردة والأمة مجتمعة ينبغي أن تعطي لذلك أولوية وتنفق فيه المال وتسخر له الإمكانيات بما يحقق الثمرات، ولابد من اليقظة الواعية بحساسية ودقة الظروف التي تحيط بالأمة، وشدة وضراوة الهجمات الموجهة لها، وقد آن الأوان أن لا تهدر الأموال والإمكانيات الهائلة في الرياضة والفن، وللقائلين بأن الأمم المتقدمة لها عناية فائقة بالرياضة والفن، لهؤلاء أقول إن تلك الأمم قد أنفقت على الجامعات والصناعات ومراكز البحوث أضعافاً مضاعفة، وقد فرغت من وضع القواعد والأسس، وآليات العمل والتمويل التي بها ملكت زمام التقنية وأمسكت بأعنة الصناعة وتفوقت في إنتاج الآلة العسكرية فلا عليها بعد ذلك أن تعنى العناية الفائقة بالفنون أو الرياضات، غير أن أمة ليس لديها الأسس والمنطلقات ولا النتائج والمنجزات في مثل هذه المجالات عليها أن تعيد النظر في ترتيب الأولويات.

 

وحتى يكون التفكير منهجياً صائباً فإنه لابد أن يبنى على اليقين لا الظن، {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}، وعلى التثبت لا الترخص {ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}، ويجب أن يقوم على الحق لا الهوى{قل لا أبع أهواءكم قد ضللت وما أنا من المهتدين} ولا مناص أن يكون أساسه الصدق لا التلون، والصراحة لا المداراة، وبعيداً عن النفعية البراغماتية، والميكافيلية التحايلية، فالغاية لا تبرر الوسيلة{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، ويلزم أن يعتمد التفكير على الدقة والتفصيل لا على الإجمال والتعميم، والمعلومات الدقيقة أساس التفكير والتخطيط، وفي قصة يوسف - عليه السلام -إشارة ودلالة{قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}، وأخيراً لا تتحقق الجدوى الكاملة إلا بأن يكون التفكير عملاً مؤسسياً لا يعتمد كلياً على الأشخاص وإن كان يقدر أدوارهم ويستثمر خبراتهم، فالأصل هو المنهج لا الأشخاص، والقضايا لا الأفراد، والنظام المنهجي لا المزاج الشخصي.

 

ولابد من إدراك أن الطريق إلى إحياء التفكير وجدية العمل ودقة التخطيط وأمانة التنفيذ وكفاءة الأداء كل ذلك طريقه ملئ بالعقبات الداخلية والخارجية، فهناك الروح الانهزامية المستسلمة لتفوق الغير، وهناك العقلية النمطية الرافضة لمبدأ التغيير والتجديد، وهناك مراكز القوى النفعية التي تقوم مصالحها على الارتباط بالأجنبي، وهناك بيروقراطية الأداء في الأجهزة الحكومية بل والخاصة أحياناً، وهناك أرباب النفوذ السياسي في الطبقات الحاكمة التي لا ترى لغيرها حقاً أو إمكانية في الإنتاج والإنجاز، هذا فضلاً عن الإغراق في الملهيات، والإشغال بالتفاهات، ولا ينبغي نسيان استهداف الأعداء لمنع عجلة التطور من الدوران، لأنها أكبر خطر على مصالحهم، ويزعزع نفوذهم، ولكن كل ذلك ينبغي أن يكون - لدى العقلاء والمخلصين - زاداً للتحدي وعوامل للإصرار حتى نتحرك شيئاً فشيئاً في مقاومة تلك العوائق، ونتقدم الخطوات الأولى في مسيرة آلاف الأميال نحو اليقظة والنهضة.

 

وأخيراً أقول لئن كان كل ما سبق على مستوى الأمة، فمثله تماماً ينبغي أن يكون في مؤسسات الدعوة وفي أوساط جيل الصحوة، ولئن كان الرافعون لراية الإسلام المعلنون لشعار ((الإسلام هو الحل)) لا يعطون هذه الفريضة حقها، فهنا لابد من دق ناقوس الخطر، ولهذا حديث آخر.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply