صنع القرار فن وعلم في آن واحد..!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله الذي خلق الإنسان، وعلمه الحكمة والبيان، وزينه بالخلق والإيمان، وأمره بالعدل والإحسان، وكلفه بالخلافة والعمران... وبعد..

 

إن حياتنا اليومية مليئة بعشرات بل بمئات القرارات التي تتعلق بكافة شئون الحياة، فبعضها يتعلق بالبيت والزوجة والأولاد، وبعضها بالدراسة والسفر، والبعض الآخر بشئون العمل والتجارة أو شئون السياسة والاقتصاد. وما شابه ذلك، فمادامت هناك مسائل تحتمل الإجابة عليها بنعم أو لا، أو تختلف وجهات النظر في تصريفها أو معالجتها، فإن هناك ما يحتاج الأمر إلى اتخاذ قرار بشأنه.

 

وفي دنيا الأعمال تزداد المشاكل والمسائل عددًا، وتتباين تعقيدًا، فالمدير المسئول يسعى لأن يجعل مرءوسيه يعملون من أجل تحقيق الهدف المرسوم، وجعل المرءوسين يعملون لذلك، يقتضي إصدار قرارات لتوزيع الأدوار والأعمال عليهم، وتحديد مسئولية كل منهم وسلطاته، وتنظيم العلاقات، وتحقيق الانسجام فيما يوكل إليهم من أعمال.

 

القرار الخاطئ..

وتعلق المؤسسات والمنظمات الحكومية والأهلية، أهمية كبيرة على عملية اتخاذ القرارات، بسبب الحقيقة التي تقول: إن القرار الخاطئ له تكلفة باهظة، ولذلك تكتسب هذه العملية، أهمية متزايدة، بسبب التطورات التي أدخلت على طريقة جمع المعلومات، وتحليلها، وتصنيفها، وتخزينها، حتى أنها أصبحت حديث الساعة في قاعة الدرس، والمؤتمرات العلمية، وبرامج التدريب في دول متعددة، كما جذبت هذه العملية اهتمام العديد من الأطراف في ميادين عملية متعددة، كالهندسة، والطب، والمحاسبة، والرياضيات، والإحصاء، والقانون، والقضاء، والتربية والتعليم، والسياسة، والاقتصاد، وكل ينظر إلى اتخاذ القرارات، من زاويته، لاستخدامها في الوصول إلى حلول للمشاكل التي تواجهه.

 

وترتبط عملية اتخاذ القرارات ارتباطًا مباشرًا بعمليات الإدارة ووظائفها كالتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة. فهي عملية تتم في كل مستوى من المستويات التنظيمية، كما تتم في كل نشاط من أنشطة المؤسسات أو المنظمات، فالمدير العام، والمشرف على العمال، ومديرو الإدارات، سواء في الإنتاج أو التسويق أو غيره، يواجهون ظروفًا تتطلب منهم اتخاذ القرارات. وعملية اتخاذ القرارات بهذا الشمول تمثل الأداة الرئيسية التي يستخدمها المديرون في التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة، حتى أن هذا الشمول دفع بعض الكتاب إلى القول إن الإدارة ما هي إلا اتخاذ القرارات.

 

لذا فهي عملية متغلغلة في العملية الإدارية ولا يمكن فصلها عنها. فنحن نحتاج إلى قرارات لتحديد الخطة واختيارها، وإلى قرارات لعمل ورسم الهيكل التنظيمي، وتوزيع المؤسسات، والاختصاصات، وكذلك تحديد الوظائف اللازمة لتشغيله، ونحتاج إلى قرارات لتحديد الحوافز وطرق الاتصال، كما نحتاج في الرقابة إلى قرارات لوضع المعايير، وتصحيح الانحرافات واعتماد النتائج. والحقيقة إن عملية اتخاذ القرارات، هي جوهر العملية الإدارية، وهي النقطة التي تنطلق منها بقية الأعمال والإجراءات ويتوقف عليها نشاط العمل أو تجميده.

 

ودعونا ـ حسب منهجيتنا في هذه الحلقات ـ أن نسلط الضوء على مفهوم القرار، وطرائق صناعته وبعض المفاهيم الأخرى المرتبطة به. بداية نقول: إنه يوجد العديد من المحاولات التي أجريت لتفسير معنى القرار، لكن خلاصتها تقول: إن عملية اتخاذ القرار هي: إصدار حكم معين عما يجب أن يفعله أحدنا في موقف معين، بعد دراسة البدائل المختلفة، وفق معايير محددة سلفًا، وصولاً إلى تحقيق هدف ما, وتتمثل مسئولية صنائع القرار في اختيار الفعل الذي يحقق أكبر قدر من النتائج، بأقل التكاليف، وبأقل السلبيات.

 

إن صنع القرار هو فن وعلم في آن واحد. وإن عملية اتخاذ القرارات هي قلب الإدارة، وإن مفاهيم نظرية الإدارة يجب أن تستند على منطق وسيكولوجية الاختيار الإنساني.

 

معايير اتخاذ القرار:

إن عملية اتخاذ القرارات تتطلب تصورًا شاملاً، واستيعابًا دقيقًا، ووعيًا عميقًا، وحكمة بالغة، مع نظرة موضوعية منطقية، وخبرة عملية ناضجة، يمكن من خلالها تقييم البدائل واختيار الأفضل منها، استنادًا إلى معايير معينة يسترشد بها في عملية اتخاذ القرار: كقاعدة سد الذرائع، وكقاعدة الضرر يدفع بقدر الإمكان، وقاعدة الموازنة بين المصالح المشروعة بعضها وبعض، وقاعدة الموازنة بين المفاسد الممنوعة بعضها وبعض، وقاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد إذا تصادمت وتعارض بعضها ببعض، وقواعد فقه الأولويات ومراتب الأعمال، وقواعد فقه المقاصد ومستويات الأهداف، وغيرها من القواعد والموازين، وينبغي ملاحظة أن اختيار البديل الأفضل ليس بالضرورة أن يكون هو الأمثل، فقد تكون البدائل كلها غير مرضية، ولكن يعتبر أحدهما في حكم الأفضل بالنسبة للحالة التي هي قيد النظر.

 

ولا يخفى على القارئ العزيز، أن القرارات تقسم عادة إلى قرارات ذات طبيعة استراتيجية، وقرارات أخرى ذات طبيعة تكتيكية، فالقرارات الاستراتيجية: هي القرارات التي تعتمد على منهج التفكير المستقبلي للاختيار بين بدائل محتملة، لتحقيق أهداف رئيسية، أو أهداف بعيدة المدى، أو قرارات مصيرية. القرارات الاستراتيجية هي التي تضمن تطور المؤسسة والعمل، وهي من أصعب وأرقى مهام المدير فعليه يتوقف كل شيء في إدارته، وتزداد صعوبة القرار الاستراتيجي نظرًا لما يحيط به من حالات عدم تأكد ومخاطرة باعتباره يخص المستقبل.

 

أما القرارات التكتيكية: فهي القرارات المتعلقة بالأمور الفورية، أو قريبة المدى لحل مشكلة مؤقتة، أو معالجة حالة طارئة، وبالتالي فإن من طبيعتها الإلحاح والاستعجال، وتعتبر هذه القرارات أقل درجة في الخطورة، وأقل درجة في عدم التأكد. والإداريون ـ في العادة ـ يستغرقون في هموم العمل اليومي وفي القرارات التكتيكية.

 

وعلى الرغم من أنه يمكن اكتساب الكثير من المهارات عن طريق التعلم، فإنه ليس من السهل تعلم القدرة على صنع القرارات. وهناك العديد من القياديين مَن يُتقن هذه العملية أكثر من غيره. وفي غياب المعلومات الكافية، فإن العملية تصبح أكثر صعوبة. وكثيرًا ما يتعامل صناع القرار مع أمور يكتنفها الشك والغموض لكنهم ملزمون بالاجتهاد والتحرك في حدود وقت معين, ولو ترتب على ذلك ارتكاب بعض الأخطاء، فعدم اتخاذ القرار هو أسوأ الأخطاء كلها. والمرء مكلف بالاجتهاد بكل ما يملك للتوصل إلى القرار السليم، وإذا لم يكن بين البدائل المطروحة حل مناسب قاطع، فالواجب اختيار أقلها ضررًا. وإذا ما تبين بعد ذلك وجه خطأ في القرار كان الأجر مرة واحدة، وفي حال الصواب كان للمجتهد أجران.

 

سعة الأفق..!

إن سعة الأفق أمر جوهري في صنع القرارات فهي عملية متحركة. وعلى المرء أن يراقب ويتابع نتائج قراراته ليعدلها عند الحاجة وبالكيفية المطلوبة. واتخاذ القرار ـ كما تقدم ـ عبارة عن اختيار من بين بدائل معينة وقد لا يكون الاختيار دائمًا بين الخطأ والصواب أو بين الأبيض والأسود، ولذا لزم الترجيح وتغليب الأصوب والأفضل، أو الأقل ضررًا. كما قد يكون اتخاذ القرار اختيارًا بين مناهج وأساليب عمل لا يمكن بسهولة إثبات صواب أحدها وخطأ غيره.

 

وعملية صنع القرار، تنبثق من جمع المعلومات وتحليلها ومعالجتها بطريقة علمية، الأمر الذي يؤدي إلى تحديد البدائل الممكنة للحل. كما أن اختيار أحد البدائل، غالبًا ما يتطلب أخذ الحس البشري في الحسبان عند تفحص أفضلية ما يترتب على بديل ما من نتائج. فصنع القرار الناجح منهج علمي، يلخصه علماء الإدارة بصور مختلفة، ويمكن للقيادي اختيار الصورة التي تناسبه ما دامت ضمن المنهجية السليمة لاتخاذ القرار. ويظن بعض المديرين أنه لا داعي لاستعمال المنهجية حيث إنه يقوم باتخاذ القرارات المناسبة بصورة طبيعية وخاصة إن كان من أهل الخبرة والتجربة.

 

والمطلوب ـ في نهاية المطاف ـ من عملية صنع القرار، هو تحرك الناس وتجاوبهم سلوكيًا مع القرار. إذ إن جدوى أي قرار تكمن في صحة تنفيذه. والقرار الفعال يتطلب أعمالاً ومناهج سلوك معينة من جميع ما يتعلق بهم القرار قد يستلزم الكف تمامًا عن أعمال معينة. وفي حال الحاجة إلى إجراءات معينة ينبغي التنفيذ بشكل سليم لتحقيق أكبر أثر ممكن من القرار، والتنفيذ هو وضع القرار موضع التطبيق بإلزام شخص أو أشخاص معينين بأداء مهام محددة في وقت معين ولفترة زمنية محددة باستخدام إمكانات مادية محددة.

 

خطوات القرار السليم:

ويظل القرار هدفًا منشودًا حتى يتم تنفيذه عمليًا وتحويله إلى إنجاز ملموس. إن اتخاذ القرار وتنفيذه عمليتان تكمل إحداهما الأخرى، وقد نهى القرآن الكريم عن القول المخالف للفعل وأمر بالجد والحزم في العمل فقال: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ} [الصف:2]، ويقول: {فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ المُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. واتخاذ القرار دليل على التفكير في معطيات القضية والبدائل المختلفة وموازنة المحاسن والمساوئ وتحديد جهات التنفيذ. أي إن اتجاه العمل عند هذه النقطة يكون واضحًا للجميع. ولابد من اتباع الإجراءات التالية لضمان تنفيذ القرار بشكل سليم:

 

1ـ تحديد من سيقوم بتنفيذ القرار وتحديد المسئوليات والسلطات. [من سينفذ؟]

 

2ـ تحديد التوقيت المناسب للتنفيذ [متى سينفذ؟]

 

3ـ وضع أساليب لمتابعة تقدم العمل وللتأكد من حسن سير التنفيذ. [كيف سينفذ؟]

 

4ـ متابعة نتائج التعليمات [إرجاع الأثر] وللتأكد من أنها فهمت وتم استيعابها.

 

5ـ تحديد آجال معينة لتلقي التقارير عن تقدم العمل.

 

6ـ وضع إنذار مبكر للتنبه لأي انحراف قبل حدوثه أو في مرحلة مبكرة من حدوثه.

 

7ـ تحديد الجهة التي ستقوم بتغطية تكاليف تنفيذ القرارات.

 

8ـ التدرب على بعض مهارات الإنجاز السريع.

 

إن صانع القرار الفعال يوازن بين التخطيط والتنفيذ. ومفتاح القرارات الناجحة هو أن تتجنب ترجيح كفة على أخرى. صحيح أن بعض الناس يتقنون التخطيط أكثر من التنفيذ، وأن بعضهم يفضل التنفيذ على التخطيط، ولكن يبقى التخطيط ضرورة لجمع المعلومات والتحليل وتخصيص الموارد، وبدونه يصبح العمل مجرد انشغال لا طائل تحته والتنفيذ ضروري أيضًا، مع أن بعض الناس يحسبون التخطيط تسويفًا.

 

ختامًا:

 إن الإنسان ليس له قدرة نهائية على اتخاذ القرارات، بل قدرته محدودة ورؤيته للمشاكل كثيرًا ما تكون من زاوية واحدة، ومن ثم فإن الضمان لترشيد القرارات هو المشاركة الجماعية فيها. ولهذا فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: [[ما استغنى مستبد برأيه، وما هلك أحد عن مشورة]]، ويقول أيضًا: [ما خاب من استخار ولا ندم من استشار]

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply