بسم الله الرحمن الرحيم
إذا تفكّر الإداري في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة عند الشيخين: ((لا يُلدغ المؤمن من جُحرٍ, واحدٍ, مرّتين))º أدرك أهميّة الفطنة، وعرف قيمة استخلاص الدروس من التجارب المختلفة التي يتلقاها الإنسان في الحياة.
فالمؤمن كما يستفيد من السرّاء والضرّاء على حدٍّ, سواء ((وليس ذلك إلا للمؤمن))، فإنّ له ملَكةً عاليةً يميّز بها بين الأشياء ويفاضل بينها. وهذه هي الفطنة، كما روى مسلم عن أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبا المنذر، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟)) قلتُ: \"الله لا إله إلا هو الحيّ القيّوم\"º فضرب في صدري. وقال: ((لِيَهنِكَ العلم أبا المنذر)).
والفطنة حضورُ البديهة، وإعطاء كل مقامٍ, ما يستحق من المقال. وإنّ لنا في موقف حذيفة - رضي الله عنه - في غزوة الأحزاب مثالاً حسناً على حُسن التصرّف في المواقف التي تستدعي الحِنكة والسرعة في اختيار القرار المناسبº فما إن طلب أبو سفيان من جنوده أن يتأكّدوا من سلامة صفوفهم من الأعداء حتى كان حذيفة مبادراً إلى سؤال مَن بجواره. ومن هذا الباب ما ذكره القرطبي في تفسير قوله - تعالى -: ((ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى بُرهان ربّه)) (1).
قال: \"قال ابن العربي: كان بمدينة السلام إمامٌ من أئمّة الصوفيّة ـ وأيّ إمام ـ يُعرف بابن عطاء. تكلّم يوماً على يوسف وأخباره. حتى ذكر تبرئته مما نُسب إليه من مكروهٍ,º فقام رجلٌ من آخر مجلسه ـ وهو مشحونٌ بالخليقة من كل طائفةٍ, ـ فقال: يا شيخ، يا سيّدناº فإذن يوسف همّ وما تمّ؟ قال: نعمº لأنّ العناية مِن ثَمّ\"º قال القرطبي: \"فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلّم، وانظر إلى فطنة العاميّ في سؤاله، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه\" (2).
والفطنة اللازمة ـ للإدارة الناجحة ـ أن تُوزَنَ الأمور لديها بميزان الاعتدال، وتُقاس المواقف بمقياس المصالح والمفاسد. وليس في الدنيا أمّةٌ لها رصيدٌ معرفيُّ يستمد منه الإداريّون كنوزاً نادرةً مثل هذه الأمة. كما ترجم البخاري في صحيحه أبواباً ناطقةً بذلك في كتاب العلم. منها باب (من ترك بعض الاختيار مخافةَ أن يقصر فهم بعض الناس عنهº فيقعوا في أشدّ منه)، وباب (من خصّ بالعلم قوماً دون قومٍ,º كراهيةَ أن لا يفهموا)(3). ولله درّ ابن عمر - رضي الله عنه - ماº فقد حضر معاوية - رضي الله عنه - يخطب فيقول: \"من كان يريد أن يتكلّم في هذا الأمر فليُطلِع لنا قَرنََهº فلنحنُ أحقٌّ به منه ومن أبيه\" (4). قال حبيب بن مَسلمة: \"فهلا أجبتَه؟\" قال عبد الله: \"فحللتُ حُبوتي، وهممتُ أن أقول: أحقٌّ بهذا الأمر منك مَن قاتلك وأباك على الإسلامº فخشيتُ أن أقول كلمةً تُفرّق بين الجمع، وتسفك الدم، ويُحمَل عنّي غير ذلكº فذكرتُ ما أعدّ الله في الجنان\"، قال حبيب: \"حُفِظتَ وعُصِمتَ\"! (5)
والفطنة توطين النفس على القول السّديد والفعل الرّشيدº وقد رتّب الله - تعالى - صلاح الأعمال على التحلّي بهذه الخصال. فقال جلّ جلاله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم...)الآية (6)، وأثنى - تبارك و تعالى - على عباده المتقين (الذين يُنفقون في السرّاء والضرّاء والكاظمين الغيظَ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين) (7)، وذكر - عز وجل - أحبّ الصفات إليهº فقال جلّ شأنه: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هَوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) (8).
والفطنة كبح العواطف، وتحكيم العقل في أصعب المواقف. وقد قصّ علينا القرآن قصة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وهو يناظر من يدّعي الخلق (قال إبراهيم فإنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب فبُهِت الذي كفر). وأثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على أشجّ عبد قيسº بأنّ فيه ((خصلتين يحبّهما الله ورسوله: الحِلم والأناة))، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة عند الشيخين: ((ليس الشديد بالصٌّرَعةº إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))!
ومن الفطنة والنباهة أن يستحضر المرء على الدوام الجواب الشافي للسائل، والردّ الوافي على المخالف. وقد جاء هذا في صفة السنة النبوية. كما قال ابن المنيّر (9): \"وِردها صافٍ,، وظلّها ضافٍ,، وبيانها وافٍ,، وبرهانها شافٍ,\"! ولعلّ ردّ أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنه - ما على الحجاج من أحسن الأمثلة على الفطنة وحضور البديهةº فقد سألها بعد أن قتل ابنها عبد الله بن الزبير ـ كما في صحيح مسلم ـ: \"ما ترينني فعلتُ بعدوّ الله؟\"º قالت: \"رأيتك أفسدتَ عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك\"!
وما من شكٍّ, أنّ الكياسة، وحسن التعامل مع الناس، وتعظيم كبيرهم، ومداراة لئيمهم، وانتقاء أحسن العبارات ـ لياقةً ولباقةً ـ من ثمرات الفطنة (10). وقد قال شهاب الدين الأبشيهي: \"من أكبر الأشياء شهادةً على عقل الرجل حسن مداراته للناس\" (11). ولله درّ ابن أبي مُلَيكةº فقد روى عنه مسلم في مقدّمة الصحيح قال: \"كتبتُ إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتاباً ويُخفي عنّيº فقال: ولدٌ ناصحٌ أنا أختار له الأمور اختياراً وأُخفي عنه\"! (12)
ومن الفطنة أن يَعِي المرء حقيقة المراد من الخطاب، وأن يغوص إلى المعاني الدقيقة، ويفهم ما دلّت عليه العبارة وما انطوت عليه الإشارة اللّطيفة. وقد روى البخاري في باب (الفهم في العلم) من كتاب العلم عن ابن عمر قال: \"كنّا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأُتي بجُمّارº فقال: إنّ من الشجر شجرةً مثلها كمثل المسلم. فأردتُ أن أقول: هي النخلةº فإذا أنا أصغر القوم فسكتٌّ. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هي النخلة))\". قال ابن حجر: \"مناسبته للترجمة أنّ ابن عمر لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسألة عند إحضار الجمارº فهم أنّ المسؤول عنه النخلةº فالفهم فطنةٌ يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قولٍ, وفعل. وقد أخرج أحمد في حديث أبي سعيد الخدري ـ الآتي في الوفاة النبوية ـ حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّ عبداً خيّره الله...)) (13)º فبكى أبو بكر. وقال: \"فديناك بآبائنا\"º فتعجّب الناس. وكان أبو بكر فهم من المقام أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المخيَّرº فمن ثمّ قال أبو سعيد:\"فكان أبو بكرٍ, أعلمنا به\" (14).
ومن الفطنة كذلك أن يهتم المرء بما لا يُدرك الناس قيمته، ولا يُلقون له بالاًº بل يَعُدّونه تافهاً حقيراً لا يُؤبَه بهº وهذا ـ لعمري ـ شأن النابهين والعظماء. كما قال ابن منظور في مقدّمة كتابه (لسان العرب): \"كتبته في زمنٍ, أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفُلك وقومه منه يسخرون\"! فأولئك الأفذاذ هم الذين يستمدّون العِبَر من الكلمة العابرة، ويستخرجون كنوز العلم من اللفظة الواحدة. كما قال أبو بكرة الثقفي: \"فنفعني الله بكلمةٍ, سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - \" (15). ورحم الله عكرمة مولى ابن عباسº فقد روى الذهبي قوله: \"إني لأخرج إلى السوق، فأسمع الرجل يتكلّم بالكلمةº فيُفتَح لي خمسون باباً من العلم)! (16)
ولا ريب أنّ من الفطنة تقديرَ العواقب، والنظرَ في المآلات، وإعدادَ العُدّة، وتقليبَ الأمر على جميع وجوههº كما قال المنصور لولده: \"خُذ عنّي ثِنتَين: لا تقل من غير تفكير، ولا تعمل بغير تدبير\"! (17) فلا عجبَ أن يقع في الفتنة من خلا قلبه من الفطنةº كما قال الله - تعالى -: (فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يُصيبهم عذابٌ أليم). ورحم الله النوويº فقد ذكر الدنيا في مطلع كتابه العظيم (رياض الصالحين) فقال: \"كان الأيقاظ من أهلها هم العُبّاد، وأعقل الناس فيها هم الزهّاد...ولقد أحسن القائل:
إنّ لله عباداً فُطَناً طلّقوا الدنيا وخافوا iiالفِتَنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيٍّ, iiوطناً
جعلوها لُجّةً واتّخذوا صالح الأعمال فيها سُفُناً! (18)
______________________
(1) سورة يوسف آية 24.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 9/168.
(3) راجع فتح الباري: 1/302 - 304.
(4) قال الحافظ ابن حجر هاهنا: \"كان رأي معاوية في الخلافة تقديم الفاضل في القوة والرأي والمعرفة، على الفاضل في السبق إلى الإسلام والدين والعبادةº فلهذا أطلق أنه أحق. ورأي ابن عمر بخلاف ذلك، وأنه لا يُبايَع المفضول إلا إذا خشي الفتنةº ولهذا بايع بعد ذلك معاوية، ثم ابنه يزيد، ونهى بنيه عن نقض بيعته...\"[فتح الباري 8/163]. وهو كلامٌ نفيسٌ.
(5) رواه البخاري في الأحزاب.
(6) سورة الأحزاب آية 70 - 71.
(7) سورة آل عمران آية 134.
(8) سورة الفرقان آية 63.
(9) في مقدمة كتابه (المتواري على تراجم أبواب البخاري).
(10) راجع الكتاب النافع (فن التعامل مع الناس)، د. عبد الله الخاطر مؤسس المنتدى الإسلامي في لندن - رحمه الله -.
(11) المستطرف في كل فنّ مستظرف، للأبشيهي ص 24.دار الحديث ط 1421هـ.
(12) شرح النووي على مسلم: 1/82.
(13) باقي الحديث: ((.. بين ما عنده وبين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء. فاختار ما عند الله)).
(14) فتح الباري: 1/223.
(15) رواه البخاري.
(16) تذكرة الحفاظ: 1/96.
(17) المستطرف: 25.
(18) رياض الصالحين: 38.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد