بسم الله الرحمن الرحيم
مدراء بلا حدود!
مدراء بلا حدود نوع خاص من المدراء، عشقوا السلطة فصرفتهم عن الأهداف، وأحبوا النفوذ فجعلوا من توقيعاتهم فرض عين على كل ما هو ضروري أو غير ضروري، ورغبوا في السيطرة فجعلوا من الموظفين خدماً، وعاشوا لأنفسهم فحولوا المؤسسات العامة إلى شركات خاصة، وحاربوا الرأي الآخر فكان فرعون لهم قدوة ومعلماً كما يقول الله - عز وجل – \"ما أريكم إلا ما أرى\" (غافر:29).
لا تكاد مؤسسة من مؤسساتنا الحكومية أو الخاصة تخلو من هذا النموذج من المدراء، الذين كان لهم أسوأ الأثر على صعيد الرقي بالعمل وزيادة الإنجازات.
إن ما يعانيه العمل الإداري من تخبط في مؤسساتنا اليوم بسبب مدراء بلا حدود، لهو نسخة طبق الأصل من واقع البيئة التي نعيشها، ابتداء ًمن قمة الهرم والحكم، ونزولاً إلى ما نراه بأم أعيننا في كل دائرة ووزارة.
والحقيقة أنه لم تر البشرية نموذجاً أسوأ من مدراء بلا حدود في حربهم للإبداع وأهله، وطمسهم للمواهب والطاقات، دون أي وخز للضمير، أو تذكر لعظم الأمانة أمام الله - سبحانه و تعالى – \"وقفوهم إنهم مسئولون 24 \" (الصافات).
عندما يعتقد المدير أو المسؤول هنا أو هناك أن له اليد الطولى في موقعه ومؤسسته ويتصرف على أساس ذلك، يبدأ الفساد والانحراف، أي من طبيعة التفكير السلبي وغير المنطقي.
والسؤال الأهم هنا هو: كيف وُجدت ظاهرة مدراء بلا حدود، وكيف يمكن التخلص منها، لفتح آفاق الحركة والإبداع لكل صغير وكبير من الموظفين؟ النقطة الأساسية تكمن في كيفية وصول أمثال هؤلاء المدراء المليئة قلوبهم بالأمراض النفسية إلى حد يصعب علاجه وعلى رأسها حب السلطة والرئاسة إلى هذه المناصب.
أمير المؤمنين عمر.. يكافح الظاهرة:
أسر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ذات يوم في نفسه اختيار أحد أصحابه ليجعله والياً على أحد الأقاليم، ولو صبر الصحابي بضع ساعات، لاستدعاه عمر ليقلده المنصب الذي رشحه له، ولكنه - رضي الله عنه - بادر الأمور التي لم يكن يعرف عنها شيئاً، وذهب إلى أمير المؤمنين سأله أن يوليه إمارة. وابتسم عمر لحكمة المقادير وفكر قليلاً ثم قال لصاحبه: \"قد كنا أردناك لذلك، ولكن من يطلب هذا الأمر لا يُعَن عليه ولا يُجَب إليه\"، ثم صرفه وولى غيره. (من كتاب: الخلفاء الراشدون لخالد محمد خالد).
نعم إلى هذا الحد تابع الخليفة عمر بن الخطاب مكافحة ظاهرة مدراء بلا حدود، لما لها من مآسٍ, عظيمة. فمن يحمل شهوة الحكم والإمارة يحمل في نفسه شهوة التحكم، وهذا ما يقر به علم النفس، وهنا يكمن البلاء الذي يفسد أمور البلاد وحياة العباد على حد سواء.
إذاً تقع قضية اختيار المدير أو المسؤول الأول على رأس قائمة الأولويات، أو كما يقال وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ومما يذكر هنا أن عملية اختيار المسؤول من الدرجة العليا في اليابان قد تأخذ أسابيع ابتداءً من المقابلات المتكررة، ومروراً بالفحوص النفسية والجسدية، ووصولا ًإلى إخضاعه للتجربة العملية، ولقد أوجز الفاروق عمر عملية الاختيار بكلمات موجزة سجلها التاريخ بماء من ذهب قال فيها:\"أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميرهم، بدا وكأنه أميرهم.. وإذا كان فيهم وهو أميرهم، بدا وكأنه واحد منهم\".
ثم إن الغبش الذي يسيطر على مفهوم الصلاحيات ويجعل منها حلقة مفتوحة عند مدراء بلا حدود يساهم أيضاً في تعقيد الحالة:
أراد عمر بن الخطاب أن يأخذ جزءاً من بيت العباس عم الرسول ليوسع مسجد رسول الله ص، وكان بيت العباس مجاوراً للمسجد فرفض العباس، وتم الاتفاق على تحكيم حذيفة بن اليمان في الأمر، العباس من جهته همّ بأن يرسل في طلب حذيفة، إلا أن الخليفة عمر رفض وأخبر العباس بأن علينا أن نتوجه نحن إليه فهو الآن بمنزلة القاضي، وبمعنى آخر برهن عمر القائد الإداري أن: لا للصلاحيات المفتوحة، ونعم لاحترام صلاحيات الآخرين.
.. ويؤدب والي حمص
درج مدراء بلا حدود على العيش لأنفسهم، وتقديم مصالحهم الخاصة على أهداف العمل، فضيعوا العمل والرعية معاً:
سأل عمر بن الخطاب وفداً زاره من أهل حمص عن واليهم عبد الله بن قرط، فقالوا: على خير يا أمير المؤمنين، لولا أنه قد بنى لنفسه داراً فارهة... ويردد عمر: داراً فارهة.. يتشامخ بها على الناس!! بخ بخ لابن قرط، ثم يوفد إليه رسولاً يقول له: ابدأ بالدار فاحرق بابها.. ثم ائت به إلي. ويسافر الرسول إلى حمص، ويعود بواليها فيمتنع الخليفة عمر عن لقائه حتى اليوم الرابع، ثم يستقبله في \"الحرة\" حيث تعيش إبل الصدقة وأغنامها.
ولا يكاد الرجل يقبل، حتى يأمره عمر أن يخلع حلته، ويلبس مكانها لباس الرعاة ويقول له: \"هذا خير مما كان يلبس أبوك\"، ثم يناوله عصا، ويقول له: \"وهذه خير من العصا التي كان أبوك يهش بها على غنمه\"، ثم يشير بيده إلى الإبل ويقول له: \"اتبعها وارعها يا عبد الله\"، ثم بعد حين يستدعيه ويقول له معاتباً: \"هل أرسلتك لتشيد وتبني؟، ارجع إلى عملك ولا تعد لما فعلت أبداً\".!!
صندوق الشكاوي
فتح باب الحوار والمراسلة بين القيادة العليا والقاعدة في أي مؤسسة، يعمل على الوقوف على هفوات مدراء بلا حدود عند البداية وقبل استفحالها:
الفاروق عمر كان من سياسته في إدارة أمر الخلافة تفعيل البريد القادم من مختلف الأمصار، بحيث يمكن لأي إنسان أن يرسل للخليفة شكواه بكل حرية، دون أن تمر على والي ذلك الإقليم، وبهذا يكون الخليفة عمر أول من أسس صندوق الشكاوي الفاعل، الذي جعل الولاة في عهده يمشون على سيرته ويحاولون تتبع خطاه، قدر ما يستطيعون.
إن ترك الحبل على الغارب لمدراء بلا حدود هو الذي يضاعف من حجم المشكلة ويوصلنا إلى مرحلة الاحتقان:
قال عمر بن الخطاب يوماً لمن حوله:\"أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما علي؟ قالوا نعم، قال: لا، حتى أنظر في عمله أعمل بما أمرته أم لا\".
وكان من شأنه - رضي الله عنه - استدعاء جميع الولاة في موسم الحج من كل عام، ليحاسبهم ويسمع ما يقولون وما يقال فيهم.
هكذا سلك الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - طريق النجاح في إدارة الخلافة الإسلامية، وكيف لا يكون له هذا وهو مؤسس علم الإدارة الإسلامي، عبر عشر سنوات كانت هي مدة خلافته الراشدة، والتي أمدتنا بكوكبة من المبادئ والنظريات الإدارية الإسلامية الخالدة.
ويبقى السؤال: أما آن لمدراء بلا حدود أن يقفوا عند حدودهم..؟!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد