يعتبر النقد الجديد الأدب شكلاً متفرداً قيمته في شكله وحسب، وهو يغرق لذلك في دراسة شكل الأدب وبنائه دون أن تستوقفه دراسة معانيه، مكثر هو حتى الانتفاخ في تناول معنى البناء، لكنه مقل إلى حد الضمور في تناول بناء المعنى.
وقد يبدو الأمران شبيهين أول وهلة، لكنهما عند التمحيص يفترقان ذلك أن معنى البناء يمكن اكتناهه حتى في الشعر الذي لا يحمل أي معنى ذهني ولا حتى عند قائله، كالشعر السريالي مثلاً، بخلاف بناء المعنى فإن تناوله لا يتأتى إلا بعد وجود معنى أولي يُفهم من النص.
ويمكن توضيح الفرق بمقياس الوحدة العضوية، حيث لا يحكم لها بالوجود أو عليها بالعدم إلا بعد الظفر بمعان شتى من النص يمكن من خلالها الحكمُ بالترابط أو التخلخل، أما حينما يغدو النص غامضاً مطلسماً يتأبى على التشكل الذهني فلا يمكن فعل ذلك، وعلى هذا فمقياس الوحدة العضوية يبحث في بناء المعاني من جهة تلاحمها وتماسكها، وشدة اقتضاء كل وحدة للأخرى، ولا يمكن أن يحقق الشعر الدرجات العلى من السموق والسمو إلا بتوافر الأمرين معاً: بناء المعنى ومعنى البناء.
على أن هناك من يتذرع لفقدان الدلالة وغياب المعنى بأن ذلك إشارة إلى أن القصيدة تعنى أكثر مما يقوى الكلام على نقله [1] هكذا يقرر أدونيس أو أن الأدب يقوم على حالات الغياب وليس على حالات الحضور [2]، وهو ما يعني أن الجانب المعمى في النص هو ما يجب علينا أن نبحث عنه في التجربة الأدبية [3] كما يقرر د.عبد الله الغذامي.
هذا الغياب أو التعمية في جانب المعنى هو ما يخشى أن ينزلق إليه الشعر، وهو ما سينعكس بالضرورة على النقد، فبالنظر إلى غالب الإبداع والنقد الحداثي كما يعترف أدونيس مؤخراً يبدو تضخم في النتاج الكتابي، كل يدعي الكتابة الأدبية الفنية، وكل يدعي النقد والتقويم، والنتيجة هي فوضى وتخبط في الإنتاج الكلامي يؤديان إلى أن تتساوى النصوص كلها، وأن يغيب التمييز بين الجيد والرديء، وبين المتفرد والمبتذل [4]، إلى هنا يمكن أن يوصلنا التفريط في جنب المعنى، وإلى هذا يؤدي بنا التحيز ضد المدلول (المعنى) في صف الدال (اللفظ).
بل قد يطال ضررُ الغموض المظاهر الشعرية الحديثة، كالتضمين الأسطوري أو التناص (تداخل النصوص) أو حتى الصورة، في هذه المظاهر يتم اجتذاب الخارج المعاين إلى الداخل الشعري، استدعاء هو للدلالة الناجزة لتساهم في دفع الحركة الشعرية إلى الأمام، وفي مثل هذه المظاهر الفنية لا يمكن أن يحكم لأي منها بالجودة وبالأخص التضمين الأسطوري إلا عندما لا يصبح ظاهرة مردها تدخل الشاعر في نصه من خارجه، وإجبار الأسطورة على الحلول فيه قهراً وعنوة، بل إن الكلام الشعري هو الذي يستدعيها بعد أن يكون قد هيأ الأديم الذي عليه ستغرس والأبعاد التي معها ستتماهى [5] أي أن تتواشج الدلالة الأسطورية مع المعنى الكلي للقصيدة تشده إليها ويجذبها إليه، وحينها يمكن الحكم لها بالتواصل والترابط مع البؤرة الدلالية التي تشع منها القصيدة، وهو ما لن يحدث إلا حينما لا يستعصى النص المؤسطر على الفهم ولا يستغلق فيه المعنى.
ولا يمكن للأسطورة أن تحقق ذلك التواشج في روع المتلقي إلا إذا كانت من صادرات سياقه الثقافي الذي يشكل ذهنيته، أي أن تتجافى جنوبها عن الاقتراض المعرفي من سياق ثقافي آخر، وإلا فهي غموض جديد لا يختلف عن غموض مَن يستدني المعاجم والقواميس ليضمن كلماته الجافية قصائده الشعرية، يجب على الشعر أن يكون نائياً عن أي نتوءات ناشزة تخدش ملاسة السطح الشعري، وهو ما يفعله استدعاء الآخر الأسطوري في الأنا الشعري.
بيد أن هذا لا يعني رفض الغموض جملة وتفصيلاً، فقد يكون في الغموض الذي يغيّب ملابسات القصيدة شيء من جمال، وقد يكون في غياب الغرض الشعري جمال آخر، كما لا يُرفض الغموض الذي يأتي في النص المفتوح، ذلك أن العمل الأدبي يتجلى في نفس متلقيه بمقدار ما يكون مفتوحاً، بحيث يعطي كل قارئ للعمل بعداً يتفق مع مستوى قدراته الثقافية والنفسية [6] حيث النص مفتوح، ومطلق للخروج، والقارئ ينتج النص في تفاعل متجاوب، لا في تقبل استهلاكي [7]، وهنا الفارق بين النص المغلق والنص المفتوح، هما كلوحين من زجاج، يشف الأول عما تحته ويصفه، تستطيع رؤية باطنه وكشف غوره بلا كثير عناء، والآخر زجاج عاكس ترى فيه صورتك أنت، مشاعرك وانفعالاتك، حركاتك وسكناتك، هو أنت وأنت هو.
ومثل هذا النص لا تتكشف دلالاته من القراءة الأولى للنص، إنما ينطبق عليه الغموض الذي يدعو إليه عبد القاهر الجرجاني، الغموض حيث يزيدك الطلب فرحاً بالمعنى، وأنساً به، وسروراً بالوقوف عليه [8]، ذلك أن لو كانت المعاني جميعاً مما لا يحوجك إلى الفكر ولا يحرك من حرصك على طلبه.. لسقط تفاضل السامعين في الفهم والتصور والتبين، وكان كل من روى الشعر عالماً به، وكل من حفظه..ناقداً في تمييز جيده من رديئه [9].
وغموضه غموض رمزي يستبطن دلالة ما، وهو ما يُحوِج إلى طلعة استكشافية لمقاربة ذاك الأفق الرمزي، بشرط أن لا ترمز القصيدة إلى ما هو شخصي، وإنما تتجاوز ذلك إلى الرمز الذي يؤدي وظيفة نفطن إليها ونعترف بها.
يُشَخّص خبرة عامة يتردد صداها من ضمير إلى ضمير في أزمان متطاولة [10]، إنه ليس في وسع الرمز الشخصي أن ينقل عاماً كونياً، لأنه لا يرتبط بتقاليد وثقافة وروح مشتركة.
بل على العكس يأسر الشاعر الجزئيُ المحدد ويتغلب عليه، فيعود لا يغني للناس، وإنما يغني لنفسه وأذنه [11].
إن مثل هذا الغموض المدروس هو ما يمكن أن تتقبله الأذواق السوية التي تنأى بأوقاتها عن القراءة في كتابات عبثية لا تحمل أي فكرة أو هدف.
إن الشعر يجب أن يحافظ على أبرز خصائصه الفنية التي تعتمد على الإيحاء والإيماء والغموض الدال، مع عدم فقدانه للمعطيات الفكرية التي تكون روحاً خفية تسري بين أوصال النص.
------------------------
(1) زمن الشعر ص 21 دار العودة بيروت 1983م.
(2) الخطيئة والتكفير ص 121 ط/ نادي جدة الأدبي 1405/1985.
(3) السابق نفس الصفحة.
(4) النص القرآني وآفاق الكتابة ص 92 دار الآداب بيروت 1993.
(5) كتاب المتاهات والتلاشي في الشعر والنقد ص 181 د محمد لطفي اليوسفي دار سيراس تونس 1992م.
(6) الخطيئة والتكفير د عبد الله الغذامي ص 123.
(7) السابق ص 63.
(8) أسرار البلاغة تحقيق: محمود شاكر ص 142 دار المدني جدة 1412/ 1991م.
(9) السابق ص 146.
(10) الصورة الأدبية ص 183 د مصطفى ناصف دار الأندلس بيروت دون تاريخ.
(11) السابق ص 184.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد