قبل عدة شهور..
كنت أتنزه على شاطئ البحر
حيث تهب الرياح القادمة من الساحل متناغمة مع موج البحر الدافئ..
كنت حينها منغمسا في همومي وأحزاني..
فقد بلغ بي الحنين لطفلي الصغيرين معاذ وحنان وأمهما..
اللذان يبعدان عني آلاف الأميال.. مبلغا عظيما..
لقد كان القهر والغيظ يكوياني لعجزي عن الوصول إليهم..
وزاد الأمر سؤا فقدي لعزيز على قلبي..
إنه والدي عليه سحائب الرحمة والغفران..
الذي قتل في حادث مأساوي.. بين.. مكة والطائف
ألا ما أضعف الإنسان..
لو شق صدري في ذلك اليوم لما وسع الناس ما فيه من أسقام وأوجاع..
هذا ما كنت أظن طبعا!!
كنت في تلك اللحظة وأنا أراقب غياب الشمس..
أتأمل البحر..
خطرت لي حينها فكرة غريبة:
ياترى لو ألقيت نفسي في هذا البحر المخيف..
المليء بالظلمات والمهالك..
وسبحت عددا من الأميال..
حتى أجد سفينة تحملني للبلاد التي يعيش فيها أبنائي.. !!
هل سأنجو؟
كم من القصص الخيالية قرأت!!
والتي ينجو فيها البطل بمغامرة جنونية.. !!
لا تلوموني فقد كدت أجن بل جننت فعلا!!!
لقد بلغ بي التيه و الاشتياق أن فكرت في الأمر جديا.. !!!
وما منعني من ذلك والاستغراق في نسج الخطة سوى أن لمعت لي في تلك اللحظة...
قارورة تخفق في الماء علوا وهبوطا...
كنت أراها من بعيد..
لم أبالي بها كثيرا في أول الأمر..
لكن وفي أقل من لمحة، شاهدت شيئا مميزا في هذه القارورة..
حمسني ذلك وألهاني عن جنوني!!!
لمحت أنها مغلقة بإحكام.. !!!
ولفت بشريط حريري جميل.. !!
وطويت بشكل بديع في قماش جميل للغاية يبهر النظر..
يميل إلى البياض المشرب بحمرة..
لفتت نظري وألهبت مشاعري وظننت في تلك القارورة الظنون.. !!!
فلربما حوت كنزا.. !!
أو أي شيء يدور في مخيلة شخص مثلي..
سرت بمحاذاة الشاطئ محاولا الإمساك بها
اقتربت منها، لكن لم أجرؤ أن أمد يدي لسحبها فالماء عميق ومخيف..
استمرت المطاردة برهة من الزمن..
وأخيرا أمسكت بها وقد حشرت في جدار صخري..
رفعتها وكان الظلام قد هبط تقريبا..
سمعت إقامة الصلاة للمغرب..
ذهبت للمسجد وصليت المغرب مع الجماعة..
كنت في صلاتي أفكر في تلك القارورة وقد فعل في عقلي خنزب الأفاعيل.. !!!
بعد سلام الإمام وانصراف الناس..
خطرت في رأسي خاطره...
ماذا لو كانت هذه الزجاجة عقدة سحر!!
ماذا لو كان في القارورة شرا ينتظرني!!
..
أصابتني هذه الفكرة برهبة حقيقية..
وما يدريني ما هي النتائج إن كانت هذه القارورة تحوي عفريتا أو شيطانا مريدا أو!!!
وبعد تفكير بسيط عزمت على اكتشاف سر هذه القارورة السحرية وليكن ما يكن..
لقد بلغ بي اليأس حدا جعلني لا أبالي بأي شيء..
وهكذا الإنسان إذا مسه الشر يؤسا..
انتظرت قليلا حتى يخرج المصلون من المسجد..
وحين اطمأننت..
فتلت الشريط..
نزعت القماش الحريري..
يا الله...
ما أبرد ملمسه وأنعمه..
أدرت الغطاء..
فاحت من القارورة رائحة زكية..
لم أشم عطرا كهذا في الدنيا أبدا..
لا والله ما هذه الرائحة برائحة دنيا!!
عجيب!!
ما هذه الخزعبلات!!
أخاطب نفسي.. !!!
من شدة شوقي لما في داخل القارورة هممت بتكسيرها استعجالا لما قد يكون فيها..
هززتها مقلوبة..
بالكاد تستطيع النظر لما في داخلها..
ويا لخيبة أملي..
لقد كانت شبه فارغة..
سوى من صحائف رقيقة طويت بإحكام.. وحشيت بطريقة لطيفة بداخل القنينة..
أصبت بخيبة أمل لأني بلغ بي الطمع البشري حدوده..
وما عساني أن أحلم بغير الدرهم والدينار.. !!!
عانيت في استخراج الأوراق المطوية...
استعنت بقلمي لأخرجها..
آه.. !!
كانت الرائحة الزكية تصدر من تلك الأوراق.. إذا!!
ذكرتني تلك الرائحة بريح المسك والكافور الذي يوضع على الميت..
سبحان الله.. !!
إن ذكرياتي في تلك الأيام لا تنقطع عن الموت وما يتعلق به. !!
والظاهر أن ذلك من نتائج الفجيعة بفقد والدي العزيز....
فهي مرحلة تصيب المكلومين..
ومن ذا يعز علي أكثر من والدي - رحمه الله -
ووالدتي أطال الله عمرها على الطاعة ورزقني برها..
لقد قام المغسل كما هي السنة بإحضار الكافور والسدر المدقوق..
ليخلطهما بالماء الذي يغسل به الميت..
كنت حينها واقفا على رأس أبي عليه رحمة الله..
أساعد المغسل في تغسيل والدي..
كانت الغرفة مليئة برائحة الموت الزكية!!!
وحدث أن صارت كلما فاحت رائحة عطر من أي كان..
تذكرني بتلك العطور التي وضعت على أبي..
دعونا من الموت الآن.. !!
ما سر هذه الأوراق.. ؟؟
وما سر هذه القارورة.. ؟؟
حين استخرجت لفافة الأوراق..
اتكأت على جدار المسجد وفتحتها..
لم يبد عليها أنها مكثت كثيرا بداخل القارورة..
ولم يظهر عليها أثر رطوبة أبدا.. !!
واضح أنها ألقيت في البحر قبل زمن قريب..
في أعلى الصفحة الأولى.. وبعبارة واضحة كالشمس!!!
وأنا أحملق فيها!!
لقد بهت وصدمت حينما رأيت المكتوب..:
تسلم هذه الصحيفة لأبنائي..
صالح وعبد المحسن ومازن ووليد ومحمد وأم شهد وأم هشام وأم باسل ورباب.. !!!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... !!!!!
قفزت من شدة الهول.. !!!!
ارتعبت.. !!!
وقفت الدماء في عروقي.. !!!
غلا دماغي خوفا ورعبا!!!
صعقت صرخت ياالهي..
.. بسم الله الرحمن الرحيم..
ما هذا الذي أرى؟؟
هذه أسماء إخوتي وأخواتي!!!!
رميت تلك الأوراق من يدي..
زحفت للخلف وأنا التفت يمينا وشمالا..
يا ترى هل يراني من أحد فيظنني مختلا في داخل المسجد.. !!!
أصابتني رجفة وارتعاد..
بقيت شارد الذهن لفترة من الزمن..
ماذا سأفعل..
هل أنا أحلم..
رفعت يدي نظرت إليها نفخت فيها..
بصقت على يساري ثلاث
بعثرت شعر رأسي..
كل شيء حولي يدل على الحقيقة.. !!!
ياللهول ما هذه الرسالة؟؟
من كتبها؟؟
ولماذا وجدتها أنا في البحر؟؟
ولماذا كتب تسلم لأبنائي؟؟؟
أبي قد مات من شهر..
وأمي بالكاد تكتب..
وجدي قد خرف..
من هو.. ؟؟
من كاتب هذه الرسالة؟؟
آلاف التساؤلات مرت كلمح البصر على ذهني..
رقرقت عيناي.. بالدموع..
بكيت...
تذكرت والدي..
ما أصعب أن يفقد الإنسان عزيزا فجأة بلا مقدمات..
لم أحزن على فقد أحد كما حزنت عليه..
لقد خطفت المنية والدي أحمد من بيننا.. خطفا..
كما تسرق الحدأة فريستها من على مائدة الطعام..
هكذا.. بلا مقدمات..
ولا إنذار..
حينما نقل إلي خبر الحادث ظننت أنه لم يمت..
حيث لم يشأ الناقل أن يفجعني..
قلت في نفسي..
سألقى والدي وأقول له.. بصدق..
لا طعم للحياة من بعدك يا بو محمد..
اقتربت بحذر من تلك الأوراق.. المبعثرة..
عزمت على اكتشاف السر الغامض..
استجمعت قواي..
وقلت في نفسي.. هه..
وما ضرني!!!
فأنا منذ شهور وأنا أتلقى الأخبار المحزنة والكوارث حتى..
أصبح قلبي حجرا لا مكان للحزن فيه..
حزنت وحزنت حتى لم يعد للحزن معنى!!!
يقول كاتب تلك الأوراق..
إلى أبنائي الأعزاء..
أنا والدكم أحمد بن محمد الغامدي..
قد توفاني الله - تعالى -في الثالث من شهر ذي الحجة..
وذلك بعد غروب الشمس يوم الجمعة..
بعد أن صليت صلاة المغرب والعشاء قصرا وجمعا..
وذلك في جبل الهدا في الطائف..
برفقة ابنتي الحبيبة رباب..
اكتب لكم هذه الرسالة أيها الأبناء وأنا بعيد عنكم..
بعيد عنكم بعدا لا يوصفه مقياس..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد