لم يبق من البيت إلا إطار الباب وجزء من جداره عندما هرع أحمد إلى الأنقاض يتفحص ما بينها وما حولها، هنا وفي هذه اللحظة تكمن مشكلته ومأساته، هنا وفي هذا الزمن تنقض عليه المواجع تذبح نياط قلبه، هنا استفاق من حلم له عويل، أخذ يقاوم ويقاوم راكضا حتى استنفر كل قواه،
لقد نزل الصاروخ الأعمى من الطائرة دون رحمة واتجه نحو المنزل الواقع في الشارع المقابل، سمع أحمد الانفجار فخاف واختبأ هنيهة ثم خرج وقد لمح الدخان يتصاعد من محطة قلبه ومهوى فؤاده، إنه منزلها، منزل عائشة، هدأت الدنيا إلا من أصداء دوي يخرق السكون العالمي ويطبق على القلوب النائمة، تسارعت النبضات والتهمت الأفكار خلايا الدماغ الحاضر والباطن، ثم توقفت الأفكار عند منزل عائشة بل عند عائشة بالذات، وتجمدت الأحداث جميعها بين هموم العيش وبين الاحتلال والقضايا الإقليمية والعالمية عند عائشة،
أخذ يهذي ويصرخ باسمها وهو يركض مادا عقله وأفكاره قبل يديه لانتشالها وهي تزحف ببطء نحو إطار الباب المهدم، قضى الصاروخ على أبويها وإخوتها الثلاثة ومزق أجسادهم، وهي ترمي بما تبقى لها من قوة بجسدها نحو الباب تجر خلفها ذيلا من الدم يتقاطر من ساقيها المهشمتين، وصور خراب الدنيا تتراءى أمام عينيها ويتداعى تاريخ العراق أمام بصيرتها...لا لبلاد الرافدين مع الاحتلال البغيض، لا لكل متآمر جبان، لا للحياة تحت جنح اغتصاب الشعوب ومصادرة حق الحياة..
هي في عيني أحمد العراق كله والمستقبل كله وكل شيء عنده، لا حياة له إلا بها وهي تمد يدها نحوه عله ينقذها لأول مرة ولآخر مرة وفي إنقاذها يحيا العراق كله وفي حياتها يتشكل رحم الحياة من جديد لبلاد جثم الظلم عليها سنين متعاقبة، هي في عيني أحمد الحياة كلها ببؤسها وشقائها ثم بزينتها القليلة في أحياء تلك المدينة الراقدة على شط فرات العرب،
لأول مرة يلمس أحمد يدها فقد رآها منذ يومين تشير إليه وتداعبه ببراءتها المعهودة، تبسم وأومأ برأسه علامة القبول وقد آن الأوان ليأتي بأبيه وأمه لخطبتها، وهل يستطيع العيش بغير ذكرها أو من دون حسها حوله وقد ملأت عليه سكون الليل وضوضاء النهار وأعملت فيه التفكير، وهي من أوقد في نفسه معالم الطريق لحياة الشراكة الزوجية... وهو من رفض العمل والحياة في بغداد وعاد إلى الفلوجة كي ينعم برؤيتها وهي تنضج على نار هادئة في فرن الحياة تحت أجنحة أبويها، كانت قرة عين لهما وهما يحترمان أحمد ويقدران نواياه الحميدة..
قفز أحمد فوق الطوب المتكسر وأعجاز الأخشاب المبعثرة ثم أمسك بحافة الإطار بيد ومد الأخرى نحو عائشة وعائشة تمد يدها المرتعشة بإعياء ووهن، ها هو يلمس يدها المغبرة الناعمة لأول مرة في حياته وهي تصارع الحياة والموت معا، ارتفعت اللهفة ولامست القلوب القلوب، ما إن لمست يده يدها أحاط بمعصمها متلهفا ومتوجسا ومتهافتا، صرخت متأوهة بصوت تعب مكتوم: أحمد أحمد. ثم فجأة مال شعرها وتبعه رأسها مرتطما بالأرض تحت قوس إطار الباب وهذا ذيل من الدم ينسلٌّ إلى داخل المنزل المتهدم، ترك يدها ووقف ينظر إلى الجثة تحت قوس الباب، يد غالية حانية ممدودة نحو الأمام خارج المنزل المهدم، وقف يتأمل المنظر بخشوع ويندد بنقم الحياة، قال إنا لله وإنا إليه راجعون ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين، أتته من خلفه أمه بشرشف غطى به شعرها وجسدها، وقف على كتل أحر من الجمر، وقف على عتبات جحيم المحتل ينظر إلى الرافدين وهما يتهاديان نحو شط كل الصدور، وقف يمزج الدم بالكرامة والإباء وهو ينبس كلمة الحق فوق جثث الغاصبين، اقتنى السلاح ثم اختفى عن الأنظار رويدا رويدا، وراح إلى حيث يدري.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد