نظرية الملحمة في الأدب الملتزم بالإسلام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كان أرسطو يحصر الشعر في المحاكاة التي تعرض أفعال البشر، خيرها وشرها ترتيباً يبرز أهميتها وضرورتها، ويبرز توالد بعضها من بعض. وكان يعتبر\" هوميروس\" اليوناني شاعراً عظيماً، ولم يُقم وزناً للشعر الغنائي ولا لشعرائه.

 لقد أثّرت نظريات أرسطو في أوروبا كثيراً وكذلك الفكر اليوناني الوثني، وبرز هذا التأثير في الأدب الكلاسيكي الأوروبي، ثمّ امتدّ بعد ذلك في ميادين كثيرة.

 إلا أن نظريّة المحاكاة التي اعتمدها أرسطو كقاعدة للشعر لا تنهض كنظرية مقبولة في التصور الإيماني، ولا في اللغة العربية وأدبها. وفكر أرسطو وآراؤه كانت وليدة تجربة وثنية في مجتمع وثني، حملت معها روح الوثنية.

 والملحمة عند أرسطو محاكاة بالقصة الشعريّة، تروي الأحداث رواية يقرؤها القارئ، ولا يشاهدها النظارة كما يشاهدونها في المأساة.

1ـ لمحة عن نشوء\" الأسطورة\" عند اليونانيين:

 اتخذ أرسطو\" هوميروس\" نموذجاً للأسطورة، وعلى أساس ذلك وضع قواعدها وأسماها\" EPIKOS\" وأصبحت في الإنكليزية\" EPIC\"، وتعريفها في المعاجم: هي قصيدة تحتفل بشعر منظوم أعمال الأبطال والآلهة وأنصاف الآلهة. وقد نشأت الأساطير\" EPICS\" من تصوّرات مبكّرة لأُناس وهميين وتجاربهم مع الطبيعة. وكانت تبتدئ هذه الأساطير من الشعب نفسه ثم تنتقل من جيل إلى جيل، وتنمو مع انتقالها بخرافات عن الآلهة ودورها في أحداث تاريخية في حياة الشعب. ثمّ يأتي شاعر أو أكثر يجمع هذه الأساطير ويضع لها الصياغة النهائية التي تعرض الأحداث التاريخية بصورة خرافية، وقد لا تعرضها. هكذا بدأت الأوديسا وهكذا نمت وهي تجمع من خلال ذلك الفكر اليوناني الوثني عن الآلهة والطبيعة والإنسان.

 والأساطير الهندية خرجت بنفس الأسلوب الوثني، مثل أسطورة \" ماهابهاراتا\" والأسطورة البابلية: \" أسطورة الخلق\"، وأسطورة الرومان وضعها شاعرهم فيرجيل: \" أسطورة الاينيادا\". وحذا حذو هذه الأساطير الوثنية ميلتون الإنجليزي في\" الفردوس المفقود\"، ثم أخذ الغرب الأوربي يتنازل عن خصائص هذه الأساطير ويقدّم بدلاً منها قصائد اجتماعية مثل قصيدة الشاعر الإنجليزي\" بوب\": \" Rape of The Lock\".

2ـ خطأ في الترجمة يجب أن نتحرّر منه ومن التبعيّة للوثنيّة اليونانيّة:

 لقد تُرجمت كلمة\" epikos\"، و\" epic\" خطأً إلى\" الملحمة\". والترجمة الأقرب للصحة هي\" الأسطورة\"، فكلمة الملحمة في اللغة العربية وفي المعاجم وفي أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحمل معاني أجلّ وأرقى من معاني الأسطورة.

 من هنا أصبح واجبنا، مع انطلاقة الأدب الملتزم بالإسلام، أن نقدّم تصوّراً جديداً للملحمة في أدبنا ينبع من الكتاب والسنّة واللغة العربيّة وتاريخ الإسلام، بعيداً عن الخرافات والأساطير، وبعيداً عن التبعيّة العمياء للأساطير الوثنيّة.

 ومعاني كلمة الملحمة في اللغة العربيّة كما هي في المعاجم: الوقعة العظيمة في الفتنة، الحرب ذات القتل الشديـد، ومنها لحم القوم، وألحمت القوم، ونبيّ الملحمة. وفي كل هذه المعاني ابتعاد عن الخرافات والأساطير.

 وفي أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"....فعندئذ تغدر الروم وتجمع للملحمة.... \"، وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عمران بيت المقدس خراب يثرب وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتـح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال) ثم ضرب بيده على فخذ محدّثه أو منكبه وقال: (إنّ هذا لحقّ كما أنك هاهنا).

 وأحاديث أخرى جمعها أبو داود في سننه في كتاب أسماه\" الملاحم\".

 فمن هنا نرى أن كلمة الملحمة تمثّل قتالاً حقيقياً لا خرافة فيه ولا وهم، وترتبط بأرض القتال، وبالنبوة، وبتأليف الأمة وإصلاحها، وهي مرتبطة بالتوحيد ورسالته، وبمعارك الإسلام الحقيقية.

3ـ التصور الذي نطرحه للملحمة في الأدب الإسلامي لمفارقة التصوّر الوثني:

 أ ـ الطول: لا حاجة لأن تلتزم الملحمة آلاف الأبيات الشعريّة أو عشرات الآلاف، فهذا متعب للقارئ وللشاعر دون أي فائدة توازي ذلك التعب والملل، يكفي أن يتّفق على الحد الأدنى لأبيات الملحمة، ويترك الطول دون فرض وإلزام.

 ب ـ الموضوع: ينحصر في قضايا الأمة المسلمة وتاريخها ورسالتها وواقعها، خالية من الخرافات والأساطير. ففي الواقع أحداث أهم من الأساطير وأجدى وأكثر متعة وفائدة.

 ج ـ الزمن: الفترة الزمنية للملحمة يجب أن تكون فترة تترابط فيها الأحداث.

 د ـ الأجزاء: المقدّمة أو الافتتاح، الموضوع أو القضية، ثم الخاتمة.

 هـ ـ الهدف: لا بد من هدف واضح حتى لا يضيع هذا الجهد الكبير في متعة تائهة. فالهدف يمكن أن يكون مشاركة الأمة في أفراحها وأحزانها، أو إبرازاً لرسالة الأمة ونشراً لها، أو دعماً لجهادها وقوتها، الهدف يجب أن يكون إيمانياً.

 

4 ـ شروط الملحمة في الأدب الملتزم بالإسلام:

أ ـ تطهيرها من الأساطير والخرافات وأفكار الوثنيّة.

ب ـ أن ينبثق تصورها من الإيمان والتوحيد، أو من الكتاب والسنّة، ومن اللغة العربيّة، تحمل الصدق، وتساهم في البناء والإعداد، على طريق النصر.

 ج ـ أن يكون موضوعها ملحميّاً مأخوذاً من تاريخ الإسلام القديم والحديث.

 د ـ أن تقوم على الصدق.

 هـ ـ أن تحمل الخصائص الفنيّة التي ترفعها إلى مستوى الأدب، وأن تحمل الخصائص الإيمانية لتكون أدباً إسلاميّاً.

 

5ـ مواقف مختلفة:

لقد دار حوار حول هذه القضيّة بعد إثارتها في الصحف والمجلاّت والمؤتمرات والندوات. وكانت الآراء مختلفة بين مؤيّد ومعارض. ولكن مع متابعة الموضوع والكتابة فيه أخذت الصورة تزداد وضوحاً والقناعة بها تنمو.

 فلم تجر العادة أن يُقبَل مثل هذا الطرح الجديد فوراً. فلا بد من مؤيّدٍ, ومعارض. إلا أن الحجج المقدّمة من أجل هذا التصوّر لم ينقضها أحد، فهي حجج مبنية على حقائق تاريخية لا افتراء فيها، وعلى قواعد إيمانيّة لا خلاف حولها. ولكن جوهر المشكلة نابعٌ من أنّ أوروبا تأثرت بالفكر اليوناني تأثراً كبيراً قريباً من التقديس، حتى إن الحداثة التي ترفض الماضي كلّه ظلّت متمسِّكة بالخرافة والأساطير والاعتزاز بها. وكذلك فإن كثيراً منّا قد تأثر بأوربا العلمانية تأثراً كبيراً، وزاد من أسباب هذا التأثر الغزو والاحتلال وفرض أدبهم وفكرهم بأسلوب مباشر وغير مباشر. وكانت الملحمة اليونانية وتصورها هي التي تدرَّس في الجامعات على أساس أنّ هذا هو الحقّ.

ولكن مع الإصرار وزيادة الإيضاح نرجو أن ينأى الأُدباء المسلمون عن أيّ تصوّر وثني مهما كان مصدره. إنّ مهمة الأدباء المسلمين اليوم أن يقدّموا للعالم التصورات الإيمانيّة نظريّة وتطبيقاً، حتى نوفي بالأمانة التي نحملها.

لا يُعقل أن نظلّ تبعاً حتى في الأدب وتصوّراته، ونحن نحمل أَجمل تصوّر للأدب وأغناه.

 

6ـ كيف نقدم تصورنا للملحمة؟

إنّنا نقدم نظريّة مفصّلة مع الأدلّة والبيّنة، بوضوح وجلاء، وحسمٍ, وحزمٍ, دون أي تردّد. ونقدم مع النظريّة تطبيقاً عمليّاً لهذا التصوّر في ملاحم تمّ نشرها: ملحمة الغرباء، ملحمة فلسطين، ملحمة الأقصى، ملحمة البوسنة والهرسك، ملحمة الإسلام في الهند، ملحمة القسطنطينية، ملحمة الجهاد الأفغاني، ملحمة أرض الرسالات، ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين، وغيرها.

 فطرح النظريّة والتطبيق لها أقوى حجة وأعدل قضية. وإنّنا نأمل أن يأخذ هذا التحرّر من التبعيّة للوثنيّة اليونانيّة وغيرها منزلته العادلة، وأن يُصبح تصوّر الملحمة وتطبيقها مقارباً أو مطابقاً لما نعرضه، ونعرض التفصيلات في دراسة أوسع من هذا الموجز في كتاب: \"الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته\"، وفي مقدّمة بعض الملاحم الأخرى.

 وندعو الله أن يتقبل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن يمدّنا بعزيمة من عنده، إنه هو السّميع العليم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply