العي هو عجز المتكلم عن التعبير عما في نفسه والإفصاح بمقصده ومرماه حين لا تسعفه قدرته الكلامية المحدودة بإيصال الرسالة سليمة إلى إذن المتلقي وذهنه، وللعي أمارات وعلامات قد تأخذ أحيانا صورة السعال والنحنحة ليداري المتكلم عجزه وتأخره في الرد، ومن أماراته استعمال كلمة (يعني) بكثرة في مواضع لا تعني (يعني) فيها شيئا غير الدلالة على حبسة المتكلم وضعف أدائه اللغوي، ويماثلها في ذلك الهمزات الممدوة المتكررة التي تكثر عادة في التصريحات الرسمية وغير الرسمية حيث ينشغل المتكلم بتقليب دكانه اللغوي الفقير للبحث عن العبارات والألفاظ المناسبة ليخرج التصريح بعد العصر والقصر على هذا النحو: (أأأ,,, اللجنة اجتمعت ثم,, أأأ,,, قررت أن,, أأأ,,, تؤجل بحث الموضوع!) وإن كنت تظن أنني أبالغ في تصوير الأمر فما عليك إلا أن تشنف سمعك بشيء من اللقاءات الحوارية المبثوثة في التلفاز والمذياع لتستيقن من فداحة المأساة!.
ولعل من اشهر من عرف بظاهرة ( اليعننة) - مع الاعتذار للسادة الصرفيين - الزعيم البعثي الهالك ميشيل عفلق والذي كان من المفترض بحسب زعامته الحزبية أن يكون خطيبا مصقعا يلهب حماسة الجماهير ويأسر البابهم ببيانه وفصاحته غير ان مستواه اللغوي لم يكن ببعيد عن مستواه الأيدلوجي، وقد كانت تلك الحبسة محل سخرية الزعيم المصري عبد الناصر منه حيث قال عنه في احدى خطبه اللاذعة: «هو يقول يعني ويعني,, وهو في الحقيقة ما يعنيش حاجة!».
هذه المشكلة يلمس المتابع أثارها المبكرة لدى الأطفال منذ الصغر فهم يعانون من فوبيا (خوف) المواجهة الحوارية المباشرة فتجد من تسوقه الظروف إلى محاورتهم يجهد نفسه في انتزاع الكلام من أفواههم انتزاعا على الرغم من انه يحاول تيسير الأسئلة وصياغتها بطريقة تجعلها تحمل الجواب بين جنباتها، والذي لا يتطلب في أكثر الأحيان غير النطق بلا أو نعم، ومع هذا فان الأطفال يصومون عن الكلام، وربما اضطر مذيع برامج الأطفال - في ظل هذه الاستجابة المحبطة - إلى الضغط خلسة بطرف قدمه على رجل الصغير ليخرجها (آها) مدوية يفسرها المذيع (الداهية) بأنها إجابة بـ(نعم) عن السؤال الموجه إليه! بل في كثير من الأحيان يخيل إليك ان المحاور يقوم بدور الترجمان حينما يتلفظ الطفل بهمهمات غير مفهومة ليصوغ المحاور العبارة بنفسه مدعيا ان الطفل يقصد بذلك كيت وكيت!
فنحن في الحقيقة نواجه مشكلة خطيرة لها جذورها المتغلغلة وأثارها المزعجة، وهي مشكلة تكاد تعصف برأس مال تفوقنا الثقافي وابرز خصائصنا الحضارية، فنحن العرب كنا ولا نزال نتفاخر بأننا أرباب الفصاحة والبيان ومالكو زمام البلاغة المتفنون في اختراع أفانين القول وابتداع ضروب الكلام، وإذا بنا نكتشف اثنا قد بتنا مهددين بفقد ذلك كله، وان أجيالنا القادمة ستعاني مزيدا من العي والعجز والاحتباس، ولا يظن ظان ان القضية تمثل جانبا لسانيا لغويا فقط، فيكون ذلك مدعاة للتهوين من عقابيلها وعواقبها وسببا إلى إهمالها وإغفالها، فمن ينحو هذا النحو يجهل - أو يتجاهل - ان الكلام هو نشاط عقلي بالدرجة الأولى قبل ان يكون أداء لسانيا صرفا، فالعي في الحقيقة يمثل قمة الجبل الجليدي الطافية على السطح الذي تختفي تحته تسعة أعشار المشكلة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالقدرة على التفكير السليم وتوليد المعاني وترتيب خطوات الأداء اللغوي، وما العي إلا شاهد كاشف عن حجم ما
يعانيه صاحبه من عجز وخلل على تلك المستويات كافة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد