بسم الله الرحمن الرحيم
وسائل إنجاب النسل المستمدة من الهندسة الوراثية.
1. ماهية الهندسة الوراثية.
من فروع البيولوجيا (علم الأحياء)º علم الأجنة، والهندسة الوراثية. ففي علم الأجنة ظهر التلقيح الاصطناعي بنوعيه الداخلي والخارجي، والاستنساخ الحيوي، أي أن هذا الفرع يبحث في حياة الأجنة ومراحل تكوينها.
أما الهندسة الوراثية فهي مجموعة التجارب العلمية على المورثات في الكائن الحي، مثل تجارب التحكم في المورثات، وإعادة تركيب الحمض النووي DNA[1]، مما يؤثر في الصفات الوراثية للجنين، وقبل ذلك فمثل هذه التجارب ستقع على الجنين. فهل يجوز هذا الفعل بإجراء التجارب على كائن حي؟ وهل تعتبر مثل هذه التجارب تدخلا في إرادة الله وشؤون الخَلق؟ وما هي الأطر الشرعية التي يجب أن تسير عليها الأبحاث العلمية؟ وكيف توجه هذه الأبحاث حتى تخضع للمقاصد العامة للشريعة؟ فلا نواجه مآزق أخلاقية تعود بالضرر على المجتمع عموما، ومؤسسة \"الأسرة والزواج\" خصوصا. هذه الأسئلة هي محور المناقشة في هذا المبحث في ضوء القواعد والضوابط الأصولية المقاصدية.
فمن المعطيات العلمية:
في تقنيات التلقيح الاصطناعي الداخلي والخارجي، ومن نجاح تلقيح البويضة بالحيوان المنوي خارج الرحم، أمكن ملاحظة ومتابعة التطورات التي تساير البويضة الملقحة في صيرورتها جنيناº هذه التقنية أوحت للعلماء بـما يلي:
1- فصل الحيوان المنوي المؤنث عن المذكر، والتحكم في جنس الجنين.
2- ملاحظة تركيب الحمض النووي (D N A) عند التحام النواتين الأنثوية والذكرية، ومعرفة التركيبة الصحيحة الطبيعية لهº مما أمكن من معرفة مواطن الخلل والقصور التي تسبب بعضا من الأمراض الوراثية، والتشوهات الجسدية، الأمر الذي جعل العلماء يحاولون إعادة التركيب الحمضي إلى طبيعته، بالاختبار الجينيº للحصول على جنين غير مشوه ولا مريض.
3- وبدل أن تبدأ النواة الأنثوية الذكرية في البويضة الملقحة بالانقسام، يتم نزع نواتها، واستبدالها بنواة خلية عادية بالغة متخصصة من الجسم نفسه، حيث تبدأ البويضة الملقحة بالانقسام العادي لتنتج في النهاية كائنا شبيها بصاحب النواة المنقسمة، من دون تدخل حيوان مذكر في عملية التلقيح ومن ثمة الانقسام، وهذه العملية تعرف بـ\"الاستنساخ\".
ومما ينبغي الإشارة إليه أن هذه التجارب تقام على الأجنة الحية. وهذا ما يقود إلى التساؤل عن مدى مشروعية هذا العمل؟
وفي سياق هذا البحث لا يهم كثيرا الخوض في تفاصيل التجارب العلمية، بل إن مجال الدراسة يبحث في مآل الاستمرار فيها، بالموازنة بين فوائدها ومضارها ارتباطا بمقاصد الشريعة عموما، ومقصد النسل خصوصاº فالأمر يتعلق بإيجاد نسل من غير الطريق الطبيعي (الزواج) الذي شُرِع له في الشريعة الإسلامية أركان وشروط تحقق مقاصده على أتم وجه. ولذا فإن سؤالاً آخر يطرح نفسهº فهذه التجارب \"التي حطمت المفهوم الراسخ عن العلاقات الجنسية كوسيلة وحيدة للإنجاب\"[2]، هل يمكن أن تقوم مقام \"الزواج\"، أم أنها مجرد وسائل مساعدة في تحقيق مقاصد الزواج الأصلية في إيجاد النسل الثابت النسب؟
2. التحكم في جنس الجنين.
فتحت عمليات التلقيح الاصطناعي الخارجي الباب للأطباء سبيل اختيار جنس الجنين الذي يرغب فيه الآباء. فمن المعلوم أن الطب في السنوات الماضية أثبت أن النطفة الذكرية تحوي حيوانات مذكرة وأخرى أنثوية، ومعنى هذا أن ماء الرجل هو الذي يحدد جنس الجنين. لذلك يلجأ الأطباء في عمليات التلقيح الاصطناعي إلى فصل الحيوانات الذكرية عن الأنثوية، وذلك عند رغبة الزوجين في إنجاب جنس معين، وقد \"أمكن فصل الحيوانات المنوية المذكرة عن المؤنثة فصلا غير تام وذلك بناء على معرفة خصائص الحيوان المنوي المذكر التي تختلف عن الحيوان المنوي المؤنث… في الكتلة والقدرة على اختراق المخاط اللزج في قناة الرحم… والبقاء في سائل قاعدي… \"[3]. كما أوضح الدكتور البار أيضاً مجموعة من الطرق التي تؤدي إلى الفصل (غير التام) بين الحيوانات المنوية المذكرة والمؤنثة[4]. وهي وإن كانت عملية ناجحة في رفع نسبة الذكور إلى 70% بدلا عن 53%º إلا أن نسبة النجاح في أحسن المعامل بلغت 55%، ومعنى هذا أنهم لم يبلغوا مرحلة النجاح التام[5]º لأن الأمر ليس مجرد اختبار معملي، فلقد ثبت للأطباء بعد أن قاموا \"بفصل مني الرجل المؤنث وهو الذي يساعد على إنجاب الإناث، واستبقوا المذكر وهو الذي ينجب الذكور إذا اتحد مع البويضة. فكانت أول المفاجأة وهي أنهم عندما قاموا بإعدام كل الحيوانات المنوية المنتجة للذكور واستبقاء الإناث، لم يتم الإخصاب على الإطلاق، فقاموا بتكرار العملية عن طريق إعدام الحيوانات المذكرة واستبقاء المؤنثة منها، فلم يتم الإخصاب أيضا. واتضح أنه يجب أن تلقح بويضة المرأة بالحيوانات المنوية جميعه.. لأن الاختبار أوضح أنه راجع إلى (مورثة) في التركيب الكروموزومي للخلية موجود في بويضة المرأة، وهذا المورث هو الذي يجتذب النوع المتناسق معه\"[6]. ومع جديد الطب تبقى إرادة العلي القدير هي الحاكمة في التنوع الحيوي البشري بما تقتضيه حكمته - سبحانه وتعالى -، ناهيك لما لهذه العمليات من مفعول سيئ على الجنين في إصابته ببعض التشوهات والعيوب الخلقية، مما يؤدي إلى إجهاضه. ولذلك فإن الدكتور علي المحمدي- أستاذ الفقه وأصوله وعميد كلية الشريعة بقطر- اعتبر \"أن التحكم في جنس الجنين عن طريق التلقيح الصناعي حرام…إذا كان يتخذ وسيلة للإبقاء على الجنين أو التخلص منه، فإن الأمر يعتبر حراما وسدا للذريعة، فما يؤدي للحرام فهو حرام\"[7]. أما أن يعتمد الأطباء هذه الطريقة لأجل اختبارهم أي جنس حامل للمرض الوراثي، فهذه مسألة أخرى تأتي معالجتها في العنصر اللاحق بحول الله - تعالى -.
3. الاستشارة الوراثية والاختبار الجيني.
تعرف الكثير من الأُسر أمراضا وراثية تنتشر بين ذريتها جيلا بعد جيل، منها ما يصيب الذكور دون الإناث، ومنها ما يصيب الإناث فقط، وفي كلتا الحالتين يكون كل فرد في العائلة حاملا لجين المرض سواء ظهر فيه مباشرة، أم سيظهر في أولاده مستقبلاº الأمر الذي يرجع على الأولاد بالسوء في رفض العائلات تزويج أبنائها وبناتها منهم خوفا من إنجاب نسل حامل للمرض المدمر والقاتل، وهو ما يحكيه الواقع، وما عايشته بنفسي.
ومن أهم الأمراض الوراثية وأوسعها انتشارا: \"مرض الكولسترول العائلي القاتل، مرض الخرف المبكر (الزهايمر)، ومرض الشلل الرعاشي، والسكري، ومرض \"رقص هنتنكتون\"، والضمور العقلي. أما التشوهات الخلقية الجسدية، فمنها العمى، والمنغولية\"[8].
وفي العصر الحالي وبعدما اكتشف العلماء عام 1953م الصبغيات (الكروموسومات)، وهي التي تحمل المادة الوراثية على أجسام صغيرة تعرف بالجينات (المورثات)، حيث يحتوي تركيب كل صبغي على مادة أساسية هي الحمض النووي DNA، هو المسئول عن نقل المادة الوراثية[9]، بعدما تم هذا الاكتشاف أمكن للعلماء من دراسته وتحليل تركيبتهº وأمكن التعرف على هوية كل مورثة فيه والوظيفة التي تؤديها في الصورة الطبيعية، وإذا حدث أن تحركت أي مورثة من مكانها، معنى هذا سيحدث خلل في وظيفتها المنوطة بهاº ومن هنا تأتي دعوة العلماء الملحة للسماح لهم بإجراء اختبارات وراثية على الأجنة في العائلات التي تنتشر عندها بعض الأمراض الوراثية، وذلك لملاحظة مواقع الشذوذ في الصبغيات، وفي الحمض النووي، وتعديله على الصورة الصحيحة، لتصحيح العيب الحادث في تطور \"المورثة\"º ومن ثم محاولة تخليص النسل من أي تشوه مستقبلي. فقد اكتشف العلماء الكثير من المورثات المسببة لبعض الأمراض، مثلما ذكر باحثون بريطانيون بأنهم \"اكتشفوا وجود مورثة تسبب فقدان السمع الحاد الذي يصاب به واحد بين كل ألف طفل… وقال الباحثان دافيد كيسلر وإيرين ليج بمستشفى سانت بارثولوميو في لندن، أنهما وجدا جينا يتسبب بفقدان السمع الكامل ولا يؤدي لأي إصابات أخرى\"[10].
كما أن باحثين أمريكيين قد اخترعوا طريقة اختبارية جديدة لإيصال الأنسولين لمعالجة السكري، باستخدام مورثة أنسولين مزروعة [11]. أما الباحث المصري أحمد محمد جاب الله فقد تمكن من تحديد نسبة سرطان الثدي عن طريق تحليل الحامض النووي[12].
الموازنة بين مصالح ومفاسد الاستشارة الوراثية:
تظهر أهمية الاستشارة الوراثية في معرفة أسباب العديد من الأمراض، خاصة الوراثية منها، وعن طريق الاختبار يتمكن العلماء مستقبلا من التحكم في المورثات المريضة والمشوهة عند الأجنة خصوصاº بدل أن تتجه الأم إلى إجراء تعقيم جراحي مؤقت أو دائم في محاولة منها لتوقيف إنجاب هذه الذرية المشوهة، أو تحاول إجهاضه متى علمت أنها حامل، أو تدع الجنين يكبر فتلده مشوها ثم تترجى الفقهاء والأطباء أن يسمحوا لها بقتل ابنها رأفة به، بما يسمى (قتل الرحمة)، أو (حقنة الهواء المريحة)؟ فهذه مبررات تستباح لحفظ النسل أصالةº من أجل عدم إنجاب نسل مشوه مريض ينقل مرضه من جيل إلى آخر، فلا يندثر المرض إلا إذا اكتشف له علاج يقطع دابره. ولإصابة الغرض المنشود نحاول إجراء وعقد موازنة بين الاختيارات السابقة لنصل إلى أصلحها وأوفقها في جلب المصالح ودرء ما يُقدر على درئه من المفاسد. ففي الموازنة بين مصالح ومضار كل وسيلة يتضح أيها أسلم في إفضائها المباشر والقطعي لحفظ النسل، فأينما تترجح كفة المصالح وتندفع المضار فثم شرع الله.
فالموازنة بين التعقيم الدائم، والتعقيم المؤقت، وإجهاض الجنين، وقتل الرحمة، وأخيرا الاستشارة الوراثية وإعادة تركيب الحمض النووي.
1- فأما التعقيم الدائم فهو مما يدخل في محظور تحديد النسل، لأنه أحد أهم وسائل تحديد النسل. وهو ما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نهيه عن التبتل والإخصاء[13]، والبديل له هو التعقيم المؤقت الذي يمكن إزالته بزوال الضررº \"فإن تعقيم الإنسان محرم شرعا إذا لم تدع إليه الضرورة، وذلك لما فيه من تعطيل الإنسال المؤدي إلى إهدار ضرورة المحافظة على النسل…أما إذا وجدت الضرورة، كما إذا كان بالإنسان مرض عقلي أو جسدي أو نفسي، ينتقل إلى الذرية عن طريق الوراثة…جاز أن يلجأ إلى التعقيم الموقوت الذي يمكن رفعه واستمرار الصلاحية للإنجاب متى زال المرض، عملا بقاعدة (ما جاز لعذر بطل بزواله)\"[14].
وخلافا لفتوى دار الإفتاء المصرية فإن الشيخ مصطفى السباعي أفتى بجواز التعقيم الدائم، إجابة على سؤال أحد الأطباء، وكان السؤال الذي وجه إليه كالآتي: \"ما رأيكم في جواز تعقيم الأشخاص المصابين بأمراض وراثية خطيرة ثبت انتقالها من السلف إلى الخلف، وذلك بإجراء عملية جراحية بسيطة؟ \"[15].
وكانت خلاصة رد الأستاذ بالجواز استنادا إلى القواعد الشرعية التي تقضي بوجوب حصر الضرر مهما كان نوعه ومنع انتقاله والعمل على إزالته، شريطة توفر الشروط الثلاثة الآتية: \" أن يكون انتقال هذه الأمراض إلى الورثة أمرا محققا أو غالبا، وأن لا يكون هنالك أمل بشفاء المصاب بهذه الأمراض عن طريق المعالجة الطبية، وأن لا يكون هنالك وسيلة لمنع انتقال هذه الأمراض إلى الورثة إلا عن تعقيم الشخص المصاب\"[16].
لكن الطبيب أحمد طه ناقل هذه الفتوى لا يرى صحة فتوى الأستاذ السباعي، ليس لخطأ فيما استند إليه، ولكن لأن السؤال أغفل كثيرا من الجوانب الفنية في الأمراض الوراثية، وهي تخفى على من ليس له إلمام بعلم الوراثة. حيث أن \"الصفات الوراثية مرضية وغير مرضية، إما سائدة أو متنحية أو محمولة على أمشاج الجنس (الذكورة أو الأنوثة)…\"[17] ويقرر الطبيب أخيرا بطرح سؤال\" لِـمَ نعقمهم؟ والمعروف أن الذين يصابون بأمراض وراثية يموتون قبل أن يصلوا إلى سن الزواج، وإذا وصلوها قلما تساعدهم حالتهم الصحية على الإنجاب\"[18].
مما سبق يتبين أنه بالموازنة بين التعقيم الدائم والمؤقت حال مرض أحد الزوجين بمرض ينتقل لأولادهما، وفي ظل حرمة الأول فإن التعقيم المؤقت هو الحل في هذه الحالةº لإمكانية إزالته جراحيا متى شاء الزوجان، واستطاع الأطباء الوصول لعلاج للأمراض الوراثية.
2- وأما إجهاض الجنين المشوه فإن المتفق عليه حرمة هذا الفعل بعد نفخ الروح في الجنين، وأما قبل نفخ الروح ففي المسألة تفصيلات بحسب نوع التشوه ودرجته مما يجب أن يحدده الأطباء، ومنه يأتي تحديد نوع التشوه الذي يبيح الإجهاض. وفي هذا الأمر يؤكد الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر السابق عليه -رحمة الله- أنه \"بهذا الاعتبار ومتى أخذ الجنين خصائص الإنسان وصار نفسا من الأنفس التي حرم الله قتلها، حرم قتله بالإجهاض بأية وسيلة من الوسائل المؤدية إلى نزوله من بطن أمه، … فلم تكن العيوب التي تكتشف بالجنين مبررا شرعيا لإجهاضه أيا كانت درجة هذه العيوب\"[19] غير أن الأمر فيه تفصيل كما ذكرت ذلك سابقا، حيث أن \"الإجهاض قبل استكمال الجنين مائة وعشرين يوما رحميا يجوز عند الضرورة التي عبر عنها الفقهاء بالعذر… والمعيار هنا أن يثبت علميا وواقعيا خطورة ما بالجنين من عيوب وراثية، وأن هذه العيوب تدخل في النطاق المرضي الذي لا شفاء منه، وأنها تنتقل منه إلى الذرية.. أما العيوب الجسدية والتي من الممكن أن تتلاءم معها الحياة العادية، فلا تعتبر عذرا شرعيا مبيحا للإجهاض \"[20].
3- أما المسمى \"قتل الرحمة\"[21] فمما استنكره الفقهاء المسلمون، فهو شبيه تمام الشبه بإجهاض الجنين مكتمل النمو، فبين المريض الميؤوس من حياته، وبين الجنين حامل المرض القاتل شبه كبيرº فكلاهما كائن حيّ، له إنسانيته التي يجب أن تحترم، وليس للإنسان \" الحق في أن يموت متى شاء\"، قياساً على حقه الكامل في الحياة، لأن الموت بيد الله، يقضي به متى شاء. ولا يوجد فرق كذلك بين قتل الرحمة والقتل العمد\" فمن يقتل غيره رحمة به، وقد يدعي ذلك، يجب أن يعامل معاملة القاتل عمدا\"[22].
4- تبقى الموازنة بين الاستشارة الوراثية وما عداها:
تقدم أن المسمى \"قتل الرحمة\" مما استنكره الفقهاء، وأما التعقيم الدائم والإجهاض و التعقيم المؤقت ففيه تفصيلات ترجع لمبرر الفعل نفسه، ولدرجة الإعاقة أو التشوه في الجنين على وجه الأخص إذ أنه المبرر الذي لأجله أباح بعض الفقهاء المسائل الثلاثة الأخيرة في \"حالة الحمل بجنين مشوه لمرض وراثي\"[23]، فهل يمكن قياس جواز القيام بالاستشارة الوراثية على تجويز الفقهاء للتعقيم المؤقت ولتنظيم النسلº للمبررات نفسها؟
فإذا كانت الإجابة نعمº فهل نسمح بإجراء هذا الاختبار على كل زوجين، أليس هذا من الترف الطبي؟ أم الأفضل أن يسمح بها للراغبين في الزواج، ليتنبأ لهم الأطباء مقدما بأن هناك احتمالا كبيراً لإصابة أولادهما مستقبلا ببعض التشوهات أو الأمراض الوراثية؟
وكيف سنُعمل القاعدة المقاصدية (الاحتياط في جلب المصالح ودرء المفاسد)؟ ثم كيف يمكن للاستشارة الوراثية أن تعالج الأمراض الوراثية في حال اكتشاف أن بعض الأجنة مريضة؟ وهل لهذا الاختبار، وهذا النصح مفاسد من حيث تعريض المستشيرين وطالبي النصح للإحباط، حيث لا علاج سوى التنبؤ بمرض قادم؟
أليس من الأولى أن يسمح به في العائلات التي تنتشر بها أمراض وراثية فقط لما لهذه الاستشارة من فوائد جمة، في العائلات حاملة المرضº لمعرفة أسبابه، ومحاولة الكشف عن الطرق الكفيلة بعلاجه في المقارنة بين تركيب الحمض النووي السليم، وتركيب الحمض النووي المريض، \"وتسهيل الزرع الانتقائي لمضغة أثبتت سلامتها من المرض\"[24]، ولا يترك الأمر على إطلاقه احتياطا، استنادا للقاعدة المقاصدية (بحسب عظم المفسدة يكون الاتساع والتشدد في سدّ ذريعتها)[25].
و يذكر أن من الإيجابيات العامة للتجارب القائمة على الحمض النووي، ما يظهر في عمليات زرع ونقل الأعضاء الحيوانية للإنسان عن طريق حقن الحمض النووي (D N A) ومواد جينية بشرية داخل بويضات حيوانية حيت يتم ارتباط المورثة البشرية بالحمض النووي للحيوان، لنضمن إنتاج جيل حيواني كامل لديه أعضاء تصلح زراعتها بالإنسان، ولا يرفضها. حيث يدعو الأطباء للاستعانة بالحيوانات في الوقت الذي يشكو فيه المرضى من قلة المتبرعين بأعضائهم.
وفي هذا المجال حاول البعض \"الخلط بين برنامج وراثي لإنسان وبرنامج لأنواع من البكتيريا، لعلهم يصلون إلى اكتشاف أنواع من الدواء أو الإنزيمات التي يمكن أن تفيد البشرية\"[26].
و في المقابل ظهرت دعوات بعض الأطباء إلى عدم إباحة هذه الاستشارة وهذا الاختبار لما له من سلبيات على الجنين نفسه حين الاختبار، مما يؤدي إلى إصابته ببعض التشوهات. كما يؤكد البعض الآخر من الأطباء أن الجنين إذا كان به شذوذ صبغي (كروموزومي) فإنه سيسقط من تلقاء نفسه، أي يحدث له إجهاض تلقائي، فلا فائدة ترجى من هذا الاختبار، إضافة إلى أنه \"سيسمح باختيار جنس الجنين، وهكذا يكون وسيلة مستحدثة في طب الرفاهية\"[27].
كما أن \"نظرية المورثات\" أصبحت تحتل مكان \"نظريات فرويد\" في تفسير الظواهر الطبية والنفسية. وهنا سيطرح سؤال مهم: \"هل يستحق المدمن والمجرم الشفقة باعتبارهما ضحايا المورثات؟ بعد أن أشارت البحوث أن الإدمان مثلا مجرد نتيجة لتأثير أحد المورثات الموجودة في الحمض النووي، وليس نتيجة ضعف الإرادة البشرية كما هو سائد الآن\"[28].
وحقيقة الاستشارة الوراثية أنها تطرح مجموعة من التساؤلات الأخلاقية في مقابل مجموع المصالح المفترضة له، والتي لم تتحقق إلا جوانب منها.
1- الاستنساخ الحيوي.
الاستنساخ الحيوي معناه محاولات العلماء للتوصل لإيجاد نسل للكائنات الحية، من دون حاجة لوجود الحيوان المنوي المذكر أو البويضة الأنثوية عند التلقيحº أي أن يتم الإنجاب عن طريق ما يعرف عند بعض الكائنات \"التكاثر العذري\"[29]، أو \"التكاثر اللاجنسي\" [30]، حيث يتم إلغاء دور الحيوان المنوي والبويضة. وأول ما ظهرت هذه التجارب ظهرت في النباتات، وبتمام نجاحها انتقلت التجارب إلى الحيوان، وتم تحقيق أول نجاح على مستوى الحيوان مع التجربة على النعجة \"دوللي\" في بريطانيا عام 1997م.
وخلاصة استنساخ النعجة \"دوللي\" أنه: \"أخذت خلية جسدية من ضرع نعجة حامل، ولمنع انقسام هذه الخلية قام العلماء بتجويعها (أي تجويع الخلية) لمدة أسبوع، واستجابة لمنع كافة المغذيات عنها، أصبحت بحالة خمول، وكانت بمثابة سبات عميق، وأخذت منها النواة التي تحتوي على الصبغيات (الكروموزومات) الكاملة، ثم زرعوا هذه النواة الساكنة في بويضة غير مخصبة، وإبعاد نواتها، وباستعمال ذبذبات كهربائية مخفضة دفعت البويضة لتقبل النواة الجديدة، مع أنها لم تكن نواتها الأصلية… وأصبحت البويضة بمثابة بيئة لتنمية الجنين. وبذلك تقبلت البويضة النواة الجديدة بكل ما تحتويه من أحماض أمينيةD N A، وبدأ الجنين بالتكوين حيث أتى مطابقا تماما للنعجة التي أخذت الخلية الجسدية من ضرعها\"[31]، فتأتي النتيجة إنجاب جنين لا أب له، وبتركيب وراثي مماثل للأم.
لكن ينبغي الإشارة إلى أن تجارب الاستنساخ ليست تجارب حديثة، فمن قبل تركزت جهود الباحثين على استنساخ الأحياء عن طريق استخدام الخلايا الأولية في المرحلة الجنينية قبل التخصص، وكانت النتيجة التي توصلوا إليها تكاثر المادة الوراثية للخلية الأولية المستنسخة مكونة جنينا تخصصت خلاياه. فانحصرت تجارب الاستنساخ في المرحلة الجنينية الأولى، ولحيوانات مختلفة، قبل أن تبدأ الخلايا العامة في التخصص. لكن مع النعجة \"دوللي\" كان الأمر مختلفا جدا، حيث كان جديد البحث هو رجوع نواة خلية الضرع لمرحلتها الجنينية، وبدئها الانقسام بكامل مورثاتها وكأنها لم تكن خلية متخصصة، فأصبحت تتصرف كخلية أولية. وإن كانت العملية تبدو سهلة بدائيةº إلا أنها في الحقيقة كلّفت الفريق الاسكتلندي ملايين الدولارات (92 مليون دولار)، ناهيك عن (277) محاولة في زرع الأجنة، والتي عاش منها (29) جنينا مدة ستة أيام فقط، فلم يكتمل نمو أي منها حتى الولادة سوى \"دوللي\"[32]!
وكما يبدو فإن التقنية الجديدة سهلة وغير مركبة، ويمكن اختصار محاولات النجاح إلى أقل عدد ممكن في المستقبل بعمل الباحثين الحثيثº لكن التجربة لن تبقى مجرد إنجاز علمي بحت، بل تتعدى ذلك إلى النذير بوجود خطر قادم يحوم حول الهندسة التناسلية في إلغاء دور الحيوان المذكر، ومن ثم إلغاء دور الرجل في المستقبل القريب (في حال نجاح التجربة على الإنسان)، فهي نذير شؤم على البناء الأسري، وتهديد مؤسسة \"الزواج\" بسقوطها، وانهيار مفاهيم \"الزوج\" و\"الزوجة\"، و\"الأسرة\"، و\"الأمومة\"، و\"الأبوة\"، إلى غيرها من المفاهيم الحيوية التي تعد اللبنات الأساس في بناء المجتمع.
فبإلغاء دور الرجل في إيجاد النسل، سوف يلغى دوره وتنعدم فائدة وجوده إلى جنب المرأة القادرة وحدها على إيجاد الأولاد. فلا فائدة من إقامة مؤسسة \"الزواج\" بعدما أمكن فصل مفهوم \"الجنس\" عن مفهوم \"الإنجاب\"، وخاصة في ظل الإباحية، وإباحة \"الشذوذ الجنسي\"، و\"الزواج المثلي\" الذي سيكون أتباعه من أشهر مناصري فكرة \"الاستنساخ البشري\". ناهيك عن إمكانية إنشاء مصانع خاصة لتوليد أطفال حسب الطلب وبمميزات خارقة للعادة، مما يؤدي إلى تكوين جيل يفتقد في الحقيقة كل معاني الإنسانية.
الإيجابيات المفترضة للاستنساخ:
الحديث عن إيجابيات أي إنجاز علمي دائما يكون في مقدمة الحديث عن الإنجاز نفسه، ولذا فإن فوائد \"الاستنساخ\" التي يرجو العلماء الوصول إليها كثيرة حسب رأيهم، ومن أهمها:
- إنهاء مشكلة العقم بلا رجعة لدى النساء والرجال، حيث هنالك بعض الرجال الذين لا توجد لديهم حيوانات منوية، فيمكن أخذ بويضة من الزوجة وإفراغها من النواة وتنشيطها، وبعد ذلك تحقن بنواة مستخلصة من خلية جسدية من الزوج، وبهذه الطريقة سيكون الجنين ذكرا وحاملا للصفات الوراثية للأب فقط[33].
- فهم كثير من أساسيات الحياة، حيث يقدم الاستنساخ فهما عميقا لمعضلات مثل توقف انقسام خلايا المخ والنخاع الشوكي وعضلات القلب عند مرحلة بعينها من النمو.
ومن قبيل عودة الخلية السرطانية في أي عضو من الأعضاء إلى المرحلة الجنينية، وانخراطها في الانقسام العاصف على نحو غير منضبط.
- التخلص من الأمراض والعاهات الوراثية والعيوب الخلقية، بانتقاء الخلايا السليمة وإتاحة الفرصة لها بالتكاثر.
- حماية أنواع كثيرة من الحيوانات من الانقراض.
- إنتاج الأعضاء البديلة، والأدوية التي يحتاجها الإنسان في أجساد الحيوانات[34]º حيث يتطلع الأطباء إلى إمكانية التحكم في بعض صفات الحيوانات، بحيث يتم تخليق حيوانات فيها أعضاء لا يرفضها الجسم البشري عندما تنتقل إليه[35].
المطلب الخامس: آراء الفقهاء في الاستنساخ البشري.
لم يتردد العلماء والفقهاء المسلمون في الإدلاء برأيهم، وبيان موقفهم من قضية \"الاستنساخ البشري\"، حيث تباينت آراءهم بين محرم، ومجيز بشروط، وبين متوقف عن إعطاء حكم على طريقة مدرسة الحديث حتى تتبين صحة مزاعم الاستنساخ البشري.
فهذا الشيخ ابن باز - رحمه الله - في رده على سؤال لـ\" المسلمون\"، حول موقف المسلم من مستجدات هذا العصر، كما هو الحال مع الاستنساخ، يقول: \" أما الاستنساخ فهو باطل لا أساس له، بل باطل ولا يجوز استعماله\"[36]، مع العلم أن الشيخ - رحمه الله - وهو رئيس مجمع الفقه الإسلامي قد توقف عن إبداء رأيه في التلقيح الاصطناعي، في صوره الجائزة والتي أباحها العلماء للضرورة القصوى.
واعتبر الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، رئيس لجنة البحث العلمي بجمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت، أن \"الاستنساخ ليس خلقا جديدا، وإنما هو تدخل في عمل الخالق - سبحانه وتعالى -، وهو نوع من الإفساد… في إيجاد بشر بلا هوية دون أب أو أم\"[37].
أما الشيخ نصر فريد واصل مفتي مصر- فقد قال عن حكم الاستنساخ البشري: \"نظرا لأن الاستنساخ من الناحية العلمية لم يقع بعد، ولم يظهر إلى حيز الوجود فكان مقتضى الحال أن لا نبحث عن حكمه، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولأن الحكم الشرعي دائما يتعلق بأفعال المكلفين المحسوسة… وهنا يجب أن ننتظر بيان الحكم الشرعي أو الفقهي حتى تخرج التجربة إلى حيز الوجود، ونتأكد من نجاحها… وعن حكم استنساخ الإنسان بطريقة إدماج خلية بشرية عادية من جسمه مع بويضة لإعطاء جنين فمن الناحية الشرعية لا يصح أن يكون الإنسان محلا للتجارب العلمية… فمن المخاطر الشرعية أهمها التغيير في منهج الخلق والتكوين الجيني الوراثي…\"[38].
بينما يتجه علماء آخرون إلى إجازته إذا كان وفق الضوابط الشرعيةº فهذا القاضي برئاسة محاكم الأحساء بالسعودية ناصر بن زيد داود يرى جواز الاستنساخ بشروط خمسة: هي1 أن تكون البويضة من الزوجة.
2- أن تكون الخلية مأخوذة من الزوج، فلا يجوز التلقيح بخلية من غيره، ولو من الزوجة نفسها.
3- أن يكون التلقيح حال بقاء الزوجة في عصمة زوجها.
4- أن يكون التلقيح والحقن في رحم الزوجة حال حياة الزوج.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد