أم الصحاب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّ الصِّحاب غدت تراب..

ولا زال طعم حبات البطاطس طهتها لنا بفمي..

كنت يومها صغيرا جد صغير.. كانت وجنتاي غضتين حمراوين كحبتي بندورة.. ورأسي المدحيّ كبندقة.. وعيناي الداكنتان موقدتين كجمرتين تتميزان أملاً وحماسا.. لا يكبلهما سوي تلك الثياب الناضحة بالرقة والفكاهة.. وفيها -أي ثيابي- من ألوان الفاكهة الشيء الكثير..

كنت وصغرى أختيّ نغشى هذي الدار كل خميس.. وكأن زماننا كله مجموع بالخميس.. تراه في فمي الضان بالضحك يسيل ضحكاً وأنا أتأبط ذراع أختي الطفلة.. بل كفها.. فقد كنت دون ذراعها بمسافات.. والأرض من تحتي تغازل قدميّ المحتذيتين تدقانها.. والسماء فوقي تستضحك الزهر في الحقول.. والدنيا كلها.. محالها ودورها.. مساجدها وملاعبها.. والخلق جميعا.. إنسهم ونعمهم.. شيوخهم وصغارهم.. الخيول الدهم والكمت تجر العربات حولي.. زجاجات الزيت وعبوات السمن في حوانيت البقالين جواري.. كل هذا يضحك للقاء بالصحاب وأمهم الحنون..

ويطوينا الدار بصحابنا.. ويتسع بنا الدار فكأنه دنيا اللامبتدأ واللامنتهي -إن صح للدنيا هذا-.. فلم يكن لقلبي الصغير يومها أن يعقل زوال كل هذه الأوجه الضاحكة.. أو ذهاب الأسرّة المشعثة تحت أرجلنا القافزة.. أو هذي الكتب والصحف دجِّجت بها الخزانة دوننا.. طوابعي البريدية وعملاتي المعدنية والورقية.. حذائي الرياضي.. والصورة تزين الجدار بغرفة الجلوس.. إخوتي.. نظارة أختي.. وبـــِــيان أخي.. ودفاترنا وحقائبنا المدرسية..

أين ذهبت كل هذي الدنيا بأحلامها الضخام وهمومها الجسام؟!..

أين هي (أم الصحاب) وقد غيّبها التراب فلا أقع حتى على جدثها القزم الشامّ!.. القزم بقامته الضامرة وسط الصحراء.. الشامّ بمن سكنته..

أحقا سكن لسانها العذب، القاسي ينهرنا إذ أخطأنا؟!.. أحقا انطفأت عيونها المعتبة الطاوية سراً لا يني يزيده غموضه جمالاً؟!.. أحقا حالت هذي الأنامل صانعة أجمل حبات بطاطس في الدنيا إلى رفات جاف؟!..

أحقاً..

أمّ الصحاب غدت سراب؟!

سقياً لها ولقبرها..ماء السما ودم العيون

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply