أمي .. والبكاء الحقيقي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد أسبوع متخم بالمشكلات الجديدة والقديمة، انتهزت فرصة الإجازة الأسبوعية لأقرأ في فقه لم يكن يخطر ببالي من قبل، قلت لنفسي \"لابد مما لابد منه\"

طالعت كتاباً وبحثت عن مسألة واستمعت مقاطع من بعض الأشرطة،

رجعت خطوة للوراء،

قرأت فتوى للإمام ابن تيمية عن الطلقات الثلاث... ولم أكملها،

هربت من صمتي إلى ضوضاء الشارع ودون سابق إعداد اتجهت للمتنزه القريب من وسط المدينة، أحسست أن أحداً يتابعني، ولأني لم أتمرس على الفكاك من مثل هذه المواقف من قبل فقد اشتدت خطواتي في حين لم أستطع الالتفات خلفي أحسست أن أمرا ما سيحدث لي لو أسرعت أكثر من ذلك، أكاد أسمع أنفاس من خلفي، حاولت أن أطمئن نفسي ربما تكون هي، وكيف تجرؤ على ذلك، تقترب أكثر يظهر بعض ثيابها، إنها هي، هل أرجع؟ أين أهرب منها؟ لا مفر، تكاد خطواتها توحي للناظر أننا نسير معا، تكاد تلتصق بي، بدت خضرة المتنزه معتمة رغم ضوء النهار الباهر وشمس الأصيل اللامعة أسرعت بصعود درجات المدخل الثلاث، وهي تكاد تسبقني، لم أشعر إلا وأنا في مواجهتها على إحدى الأرائك المستديرة تحت شجرة عتيقة،

جلست وجلست

ويبدو أننا كنا نفكر في طريقة لبدء الكلام،

استرجعت بعض الذكريات السعيدة والبائسة، فاجأتني ذاكرتي بموقف قالت لي فيه:

\"أمك..... ليتها كانت أمي، لقد وجدتها إنسانة رائعة يصعب أن أجد مثلها.... \"

تلفت لأرى من حولي، كانت غيوم الصمت تلف المكان، بكاء متقطع لا ينقصه الافتعال يرتفع قليلاً ليرفع عنا ستائر الصمت، ثم نعود من جديد.

أخذت نفساً عميقاً قلت: أمي... كانت نبراتي تنقل إليها التأكيد والاعتزاز.

ردت بصرامة: أمك.. ؟ وكأنها تتساءل..

لكنها أسرعت بالتعقيب: أمك.. أمك ثم أمك.... ولو أن أحداً كان يستمع إلينا لظنها تعظني بحديث نبوي كريم،

حاولت أن أبتلع كلماتها لم أتمكن فكرت في كثير من الردود، لكنني لم أختر واحداً منها،

جاهدت لكظم غيظي، استرخيت مسنداً ظهري للخلف قدر استطاعتي وضعت أصابعي متشابكة خلف رأسي نظرت إلى أعلى.

كانت أغصان الشجرة تتدلى قريباً جداً من رأسي لامس بعضها شيئا من شعر رأسي تذكرت عندها يداً حانيةً طالما مسحته بحنان بالغ،

عدت لوضعي الأول أخذت نفساً عميقاً

قلت: \" نعم.. إنها أمي.... \"

عاجلتني بلا تفكير: قلت لك ألف مرة أنت لا تحس إلا بأمك أما أنا فـ...

وحولت بعد ذلك شفتيها لتبدوان كفوهة بركان وأخرجت زفيراً تعودت عليه.

تأملتها محاولاً قراءة ما وراء الزفير، تداخلت رموز الخطوط على وجهها وتشابكت التعبيرات ومع الغموض الشديد خرجت حبات دموع واضحة استطعت أن أعد منها ثلاث حبات كبيرة، تخيلتها طلقات رصاص تحاول اختراق جسدي، تنهدت وعدت من جديد أفكر في فتوى الإمام ابن تيمية.

وفي نفس واحد أخرجت طلقات أخرى أضع بها نهاية للحرب الباردة، اتجهت بعدها للبيت في نفس طريق الحضور، لكنها عادت لمسابقتي مرة أخرى، اخترقنا ضجيج الشارع ثانية، ضاع صوتها حين كانت تحاول أن تلقي إلي ببعض الكلمات، كانت تؤكد للجميع أننا نسير معاً، كنت في تفكير عميق استبق به الوقت، جففت قطرات العرق التي استقرت على أطراف حاجبي، لم استفق إلا حينما تعثرت قدماي بابنتي ذات السنوات الثلاث عندما أسرعت في استقبالي لكنها تخطتني وهي تنادي: أمي... أمي

حينها سمعت بكاءً حقيقيا، لم استطع معه أن افتح فمي!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply