لم نسمع صرخاتك يا جنين، كأن في آذاننا وقرٌ، ولم تهزنا دماؤك، فقد يبست عروقنا، ولم تحركنا ثيابك الممزقة بين أيدي الإسرائيليين، فما عدنا بحاجة إلى ثياب المقاومة، ولا نحن للمواجهة مستعدون، فنحن منشغلون بترتيب البيت الداخلي، والتزين بتيجان الانتصار والفخار، فلا تفسدي علينا فرحة التحرير، ومباهج التعمير، ولا توقعيننا في شر أعمالك يا جنين، فأنت مدينة ما زلت محتلة ونحن أصبحنا محررين.
ما عاد يؤرقنا أنينك يا جنين، ولم ننتبه لتأوهاتك، ولا اهتزت ضمائرنا لارتجافك تحت السكين، فما عاد الدم بين المدن الفلسطينية مشترك، ولا عاد الهم واحد، ولا الحزن مختلط، فكل مدينة تقلع شوكها على طريقتها، وكل شاهٍ, معلقةٌ من عرقوبها، ولا مبرر لتؤخذ غزة المحررة بجريرة نابلس المحتلة أو جنين، فمن يأكل على ضرسه سينفع نفسه، ونحن أكلنا بكر الثمر الذي أنتم له تنتظرون، وصار شعارنا بعد التحرير: أنج زيد فقد هلك سعيد، وصار الهدوء غايتنا، وصارت السكينة أمنيتنا، ولا شأن يعنينا بالآخرين، لقد حاربنا معركتنا، وانتصرنا، وتحررنا، وليس علينا واجب تصدير الدم الفائض إلى مدن محتلة أخرى، فلم يبق مشترك بيننا سوى اسم فلسطين، ولذلك سنحرص على أن نستأثر بهذا الاسم، وفتشوا لكم عن اسم آخر، نحن الآن أصبحنا دولة فلسطين المؤقتة في غزة هاشم، ينطبق علينا القانون الذي يطبق على دول الطوق العربي، وأصبح علينا التزامات دولية بتوفير الأمن الهدوء والسلام والسلامة لجيراننا الإسرائيليين، ولا يصح أن نفشل في ذلك، أو نفشل حسابات المسئولين الدوليين، أو أن نظهر عكس رغبة الممولين، الذين يطالبوننا بتوفير الأمن، وعدم التعرض للحدود الدولية مع إسرائيل، لقد عرفنا حدودنا، ومحيط دولتنا، وبحر قدراتنا، ومستوى ثورتنا، ومدى أحلامنا، ومحال استقلالنا.
فابتعدي بشرك عنا يا جنين، اصفعي على خديك، وتشكي كما تشائين، فكم اشتكينا مثلك من صمت العرب والمسلمين، وكم عبنا على الدول العربية المجاورة عدم نخوتها، وفزعتها، وضعفها أمام عدوك وعدونا، اليوم صار من حقك أن تبكين يا جنين، لقد خروج أهلك في غزة من دائرة الصراع، وتركوك وحدك للغزاة ينهشون لحمك، ومع ذلك، فلن ننساك يا جنين، لك من أهل غزة الأناشيد الوطنية التي ما زال يرسلها لك جيراننا العرب، وسنقطع مؤقتاً لأجلك برامجنا الإذاعية لبث أخبارك على عجل، ولك من غزة ـ إن اشتد وطيس الذبح ـ لك علينا مظاهرات سلمية، وإشعال إطارات السيارات لمدة ساعة، ولك علينا الدعاء ما دام مسموحاً دولياً، وإن أصبح الدعاء لك محرماً فلن نتأخر بالدعاء عليك، وعلى أهل نابلس وعلى سكان رام الله وأريحا.
لكم دموعكم وحدكم، أو موتوا في قهركم، فنحن محررون، اغرقوا مدنكم في دمائكم أنتم، وقاتلوا عدوكم وحدكم، فقد انقسمت قطرات الدم الذي كانت مشتركة بيننا، وما عاد يحق لنا أن نهز فراش الطفل في رفح لصرخة المظلومة في جنين، لقد طبقت علينا إسرائيل خطة الفصل، فانفصل جرحنا الذي نزف بالهم سوياً، ولا يسمح لنا بفتح ظلف الباب لعودة الإسرائيليين، فنحن أصبحنا محررين.
لقد صار واجب أهل غزة بالإضافة إلى ضبط الأمن، وحفظ الحدود، البحث عن السلامة في بطاقة الإعاشة، أو الوظيفة، أو المساعدات الدولية، أو انتظار المشاريع التطويرية، ولا شأن لنا بما يجري سياسياً خارج حدود الدولة المؤقتة، وما عاد تفتيت لحم القدس يحرقنا، ولا عاد حريق قلب الخليل يشغلنا، وما عاد لحجر جبل النار صدى على شواطئنا، ولا لظمأ قلقيلة جفاف في حلوقنا، أنتن يا مدناً محتلة ومهانة على أيدي الطغاة، امسحن بأيديكن دمعة تنحدر على خد الجبال، واتركن أهل غزة الأحرار، اتركونا ناعسين، نتهيأ للنوم هانئين بهدوء وسلام، ونحلم بغد يرفرف على جناح اليمام، فنحن في غزة لا نحب الانزعاج، ولا الزحام، نسترخي للغد ولا نحب من يذكرنا بماض الزمان، نحن الآن نيام خلف أسوار الأمن وتحت أقواس الانتصار.
اتركينا ننعم بالنوم الهانئ يا مدينة جنين
وتصبحين على مزيد من الشهداء!!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد