العواطف في أدب علي أحمد باكثير نموذجاً:
قبل الحديث عن تصوير العواطف في أدب علي أحمد باكثير يحسن أن نقول كلمه إنصاف في هذا الرجل الذي ظُلم مرتين. مرة لأنه لم يُعطَ حقه في ميدان الإبـداع لدى الأدباء والنقاد العرب، ومرة ثانية لأنه لم يعرف دوره الريادي في ميدان الأدب الإسلامي لدى الإسلاميين، فقد أوتي موهبة أدبية فذة وقدرة متميزة على تمثل التصور الإسلامي. ويزيد من أهمية هذا الرجل أنه غطى ثغرة مهمة لم تغط بعده حتى الآن، ألا وهي الأدب المسرحي الذي تعاظمت أهميته مع انتشار السينما والتلفزيون والمسرح.
يحتل التاريخ في أدب باكثير المرتبة الأولى، وعواطف الشخصيات التاريخية مرسومة محددة، فأي فضل لباكثير فيها? خذ مثلاً سلسلة مسرحياته وأروعها (ملحمة عمر)، ومعظم شخصياتها من الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، فهل يجوز لباكثير أن يتدخل قليلاً أو كثيراً في تصوير عواطفهم؟! إن الجمع بين الأمانة التاريخية-وهذا ما فعله باكثير دوماً - وبين إحياء الشخصية فنياً وهذا ما استطاع أن يفعله غالباً، أمر عسير جداً، لا يستطيعه إلا العباقرة المسلمون أمثال باكثير، وهو أصعب من اختراع الشخصيات واللعب بأهوائها وعواطفها كيفما يشاء المؤلف. ومن إحياء الشخصية التاريخية فنياً جمع الجزئيات المتفرقة، وملء الفجوات، وانسجام ذلك كله مع التصور الإسلامي والمقتضيات الفنية. وإذا كان في المرويات التاريخية تناقض أو غموض أو نقص ازداد دور المؤلف، وهذا ما حصل مثلاً في مسرحية باكثير (سر الحاكم بأمر الله) فقد شاع عن هذه الخليفة الفاطمي قديماً وحديثاً أنه مجنون، بينما هو في مسرحية باكثير من أبعد الناس عن الجنون، وإنما كان رجلاً أمعن في التصوف والتعلق بالحب الإلهي، حتى نازعته نفسه إلى الانسلاخ من بشريته ليصل إلى مرتبة الكمال الإلهي حتى يكون -وهو في جسده- روحاً.. شفافة متصلة بالروح الأكبر الساري في الكون كله وهو الله(17). ولعلك تضيف فتقول: إن باكثير استطاع أن يعالج بنجاح في هذه المسرحية التاريخية أهم قضية في التصور الإسلامي للعواطف والنفس الإنسانية، ألا وهي بشرية الإنسان، وعدم قدرته على الانسلاخ من هذه البشرية.
إذن ليست المشكلة المادة التاريخية أو غير التاريخية، وإنما مشكلة صياغتها من جديد، والتعبير وطرق الأداء أو التناول. وإلا ما الفرق بين وليم شكسبير وبين المؤرخ الإيطالي الذي استمد منه شكسبير موضوعات معظم مسرحياته?!
وقبل أن نغادر الحديث عن بشرية العواطف لدى الحاكم بأمر الله، الذي قام برياضة نفسية فعمد إلى جميع مظاهر الضعف في الإنسان، من خوف وعجز وكسل وحرص وبخل وشهوة وكبر ورحمة، فحاول قلعها بعزيمة جبارة لا تعرف التردد حتى انتهى إلى الإخفاق.. قبل ذلك نشير إلى صورة مقابلة ومكملة لهذا التصور، ألا وهي محاولة الملائكة أن يصيروا بشراً ويواجهوا الابتلاء الذي كتب على الإنسان في مصارعة الشهوات والارتفاع عن ثقلة الطين، وذلك في مسرحية (هاروت وماروت) فأخفقت محاولتهم أيضاً. وسبب محاولتهم أنهم سمعوا بتكريم الإنسان على الملائكة حين يستطيع أن ينجح في الامتحان، وتنتصر نفسه اللوامة على نفسه الأمارة، لكن حين وضع الله - تعالى - فيهم العواطف البشرية زلت القدم، فكان العقاب الصارم. فلا الإنسان بقادر على أن يخرج من جلده، ولا الملاك بقادر على أن يصير إنساناً.
في مسرحية (سرّ شهرزاد) لم يسقط الملك شهريار في الامتحان، لأنه ملاك، أو أراد أن يصير ملاكاً، على العكس كان سقوطه بسبب انطلاقه وراء أهوائه وشهواته من معاشرة النساء ومعاقرة الخمرة ولديه الزوجة الطيبة الطاهرة (ست بدور). لقد انتهى به فجوره إلى (العنّة) أو العجز الجنسي، الذي يخجله أمام زوجته التي تغار عليه، فقتلها ظلماً، وأصيب بعقدة نفسية، وصار يغطي عجزه بزفاف زوجة جديدة كل ليلة وقتلها في الصباح. ما كان علاجه النفسي والجسدي إلا بأدوية طبيبه الحكيم رضوان، وبأحاديث شهرزاد التي تصرفه عن الممارسة الجنسية بالتراضي، ثم بمواجهته أخيراً بحقيقة أخطائه السابقة وبضرورة الاستقامة والنظافة.
هل في التصور الإسلامي أن سقوط الإنسان في حمأة العواطف الهابطة ضربة لازب سواء استمر هذا الهبوط - كما هو عند فرويد- أو انتهى بالتوبة? الجواب: لا. بالتأكيد. ففي قصة امرأة العزيز مع يوسف لم يسقط يوسف، ولم يهبط إلى النسوة اللواتي: ?قطعن أيديهن وقلن: حاش لله ما هذا بشراً. إن هذا إلا ملك كريم?. وفي رواية (سلامة القس) ومسرحية (قصر الهودج) مثل رفيع لمغالبة النفس الأمارة بالسوء وانتصار النفس اللوامة عليها.
(القسّ) هو عبد الرحمن بن أبي عمار. شاب في الخامسة والعشرين، عاش في أوائل حكم بني أمية، نشأ في طاعة الله عابداً زاهداً وعالماً فقيهاً حتى لقبه أهل مكة بالقس. (وسلامة) جارية جميلة ذات صوت عذب، أحبها عبد الرحمن حباً عظيماً، وصار يختلف إليها ليسمع غناءها، ويستمتع بجمالها حتى شهر أمرهما ولقب بها (سلامة القس)، وبادلته هي الحب، وفي خلوة قالت له: أشتهي أن أضع فمي على فمك، فقال لها: وأنا كذلك. فقالت ما يمنعك والمكان خال? قال: أنسيتِ الله يا سلامة? وكان جمالها وعذوبة صوتها سبباً في غلاء ثمنها، وانتقالها من تاجر إلى تاجر ثم إلى قصر الخليفة يزيد، ولا يستطيع عبد الرحمن الفوز بها، لكنه ظفر منها بوعد أن تتقي الله في حياتها حتى تكون من نصيبه في الدار الآخرة.
أما ((قصر الهودج) فهو القصر الذي بناه الخليفة الفاطمي (الآمر بأحكام الله) لزوجته البدوية المعشوقة (سلمى) في جزيرة الفسطاط على نهر النيل. وحين يفاجئها حبيبها وابن عمها البدوي (ابن مياح) تستقبله على حرج، ويطلب منها بعد حوار غزلي عفيف أن تسمح له بتقبيل يدها - والخليفة خلف الباب يسمع ويرى خفية - فترفض طلبه اعتصاماً بدينها وخلقها، ثم ينتهي الأمر برجوع الخليفة عن زواجه بسلمى، ويردها إلى ابن عمها وحبيبها.
الصراع العاطفي أو النفسي في أدب باكثير حافل، سواء في النفس الواحدة كما حدث للقس عبد الرحمن بن أبي عمار في رواية (سلامة القس)، أم بين نفسين كما وقع بين الحاكم بأمر الله الفاطمي وأخته العاقلة المدبرة ست الملك.
لكن هناك صوراً من الصراع تحتل حجماً أكبر في أدبه، ألا وهو صراع فرد مع جماعة أو صراع بين جماعتين. ونخص بالذكر مسرحياته السياسية التي وقفها مناهضة للصهيونية والكيان الصهيوني مثل: (إله إسرائيل) و(شيلوك الجديد) و (شعب الله المختار) و(التوراة الضائعة) و(على مسرح السياسة).
أما مسرحية (مسمار جحا) فترمز للقضية المصرية، وما تنطوي عليه من عواطف الاستنكار والإدانة للاستعمار الإنكليزي، ومن حب الوطن، وحب الشعب والعدل والحرية.
في هذه المسرحية فكرتان أساسيتان أو خطان أساسيان. أحدهما: هو الخط السياسي الذي يتمثل في الصراع بين جحا وبين الحاكم الدخيل حتى انتهى بثورة الشعب على الدخيل وتحرر البلاد من نيره. والثاني هو الخط الاجتماعي الذي يتمثل في الصراع بين جحا في مثاليته وبين زوجته (أم الغصن) في ماديتها الصارخة. ويتركز هذا الصراع بصفة خاصة حول تزويج ابنتهما (ميمونة). فجحا يريد أن يزوجها لابن أخيه الفلاح (حماد) حتى بعدما حسن حال جحا، وارتفع مقامه حين صار (قاضي قضاة) البلاد، وأمٌّ الغصن تأبى إلا أن تزوج ابنتها لغني من الأغنياء. وانتصر رأي جحا في النهاية. فزوجت ميمونة لحماد، وبذلك يسدل الستار.
أما في مسرحية (الدودة والثعبان) - واسمها الحقيقي: جيش الشعب - فنجد ثلاثة أشكال من الصراع: هناك صراع حربي بين المماليك بقيادة إبراهيم بك ومراد بك وبين جيش الحملة الفرنسية على مصر. أما الشكل الثاني من أشكال الصراع فيتمثل بين المقاومة الشعبية التي كان عمر مكرم يقودها في القاهرة وبين الغزاة. ولم يبرز باكثير هذين الشكلين من الصراع إلا لكي يؤكد قيمة الشكل الثالث، الذي كان يتزعمه الشيخ الضرير سليمان الجوسقي، وهذا الصراع المسلح والمنظم والخاضع للتخطيط والتدبير ضد كل القوى الأجنبية. هذا الشكل من الصراع هو الذي نجده يمتد في قوة وعنف حتى يبلغ ذروته في ثورة القاهرة الأولى. وقد استطاع الكاتب أن يبرز لنا مواقف هذا الصراع على المستويين الفردي والجماعي; على مستوى الجمهور والقيادة على السواء.
مما يؤشر على تمثل باكثير للتصور الإسلامي في فهم النفس الإنسانية والعواطف البشرية أمور نذكر منها: إدراكه العميق لوحدة النفس، ثم اهتمامه بعرض نفسية بني إسرائيل وتحليلها. ومثلما أفرد القرآن الكريم مساحة واسعة لعرض نفسيات بني إسرائيل وعواطفهم مع موسى - عليه السلام - وغيره، نجد باكثير يتفرغ لهذا الغرض في عدد ضخم من مسرحياته الطويلة والقصيرة. وإذا كانت المساحة القرآنية قد اتسعت بسبب تنوع أهواء بني إسرائيل وتعددها، فان الأمر نفسه في أدب باكثير أيضاً. على أن هذا الجانب يستحق دراسة مستقلة تملأ كتاباً، ننتدب له أصحاب الهمم والقلم.
بالنسبة إلى وحدة النفس البشرية -إذا اختل جانب منها تأثرت الجوانب الأخرى - نضرب مثلاً نفسية الملك شهريار في مسرحية (سر شهرزاد). هذا الملك حين انساق وراء شهواته وعواطفه الهابطة انعكس الهبوط والضرر على صحته الجسدية والنفسية أولاً، ثم على أوضاع مملكته ثانياً، حيث عم الفساد والظلم والاضطراب. وحين سلمت نفسه، واتزنت عواطفه عوفي جسمه، واستعاد الحكم هيبته، وانتشر العدل وشاع الأمن والاطمئنان.
وفي رواية (وا إسلاماه) التاريخية نموذج خصب لتعامل أديب مسلم مع العواطف البشرية. ففي هذه الرواية حشد وافر من عواطف الرجال والنساء والأطفال، والملوك والعلماء والرعية، في أحوال الضعف والقوة، والتذبذب والتقلب. في أحوال الرغبة والرهبة، وفي الأمانة والخيانة، وفي الصداقة والعداوة. كل ذلك من خلال المنظور الإسلامي الشامل الحي.
العاطفة السائدة في هذه الرواية عاطفتان متوازيتان متكاملتان، بمعنى أن إحداهما جزء من الأخرى. هما العاطفة الدينية الإسلامية، وعاطفة الحب العذري أو الحب (الجنسي) العفيف.
ومن خلال هاتين العاطفتين وحولهما تتفرع وتتشقق عواطف مماثلة ومقابلة ومعادية. وفضلاً عن أهمية هاتين العاطفتين في النفس البشرية، تأتي أهمية أخرى، وهي أن الأديب باكثير يعرضهما ويدرسهما في مرحلة حرجة جداً من تاريخ العرب والمسلمين: نهاية الخلافة العباسية وبداية حكم المماليك لمصر والشام، أو ما اصطلح على تسميته (عهد الانحطاط): أي عهود انحطاط نفوس المسلمين، وانحطاط عواطفهم بالتالي.
رواية (وا إسلاماه) تروي قصة حياة الطفلين (محمود) وابنة خاله (جهاد) حفيدي الملك المسلم خوارزم شاه، واختطافهما من ابنه الملك جلال الدين في جبال الأكراد، وبيعهما لتاجر رقيق حلبي بعد تسميتهما (قطز) و(جلنار)، ثم بيعهما ثانية للوجيه الدمشقي غانم المقدسي أحد أتباع الشيخ المجاهد ابن عبد السلام. وبعد بلوغهما سن الرشد - وهما في حب ووئام- كتب عليهما الفراق بموت سيدهما، وبيع جلنار من جديد، حيث صارت أخيراً إلى قصر شجر الدر في مصر. ثم اجتماع شملهما وزواجهما مع زواج شجر الدر بالملك عز الدين أيبك. أخيراً تستشهد جلنار، وهي تحامي عن زوجها الحبيب في معركة جالوت، التي انتصر فيها المسلمون على التتار بقيادة الملك المظفر قطز. ولم يعمر بعدها طويلاً، فقد ارتاب به قائده بيبرس، فأسهم في اغتياله، لكنه ندم لما تبين أن الملك المظفر كان ينوي تعيينه ملكاً بعده.
إن المسيرة العاطفية لمحمود (قطز) وجهاد (جلنار) بدأت منذ مرحلة الطفولة المبكرة، ومرت بمرحلة المراهقة - حيث وقع يوم فصل بين عالمين - واستمرت حتى نهاية العمر.
بعد سنوات الفراق اهتدى قطز إلى مكانها برسائل غرامية طريفة: وردة أولى ثم ثانية ثم ثالثة ثم رابعة تسقط عليه من مقصورة شجر الدر في قلعة الجبل، حتى يفطن إلى السر، ويتجرأ بالنظر إلى أعلى حيث جلنار.
الأطرف من ذلك أن يتقدم كل من عز الدين أيبك وأقطاي إلى الزواج من شجر الدر بعد وفاة زوجها نجم الدين، وهي ما تزال في شبابها وجمالها، وينتدب عز الدين تلميذه قطزاً، كما ينتدب أقطاي تلميذه بيبرس لذلك، يقف كل واحد منهما بين يديها يسوق الحديث الغزل ووصيفاتها وراء باب المقصورة على أطراف أرجلهن يتطلعن وراء الستائر، ويستمعن إلى الحديث حابسات أنفاسهن، حتى إذا انقضى الحديث عدن إلى أماكنهن وقد انقسمن إلى فريقين: فريق يتشيع لقطز، وفريق أقل منه يتشيع لبيبرس. ومن أسباب نجاح قطز أنه رجل عاشق، على حين كان بيبرس شرساً لا يقيم للعشق وزناً(18).
على الرغم من عمق عاطفة الحب التي جمعت بين قطز وجلنار، إلى درجة اندفعت معها للقتال دفاعاً عنه واستشهادها دونه، فصاح: (وازوجتاه واحبيبتاه). على الرغم من ذلك الحب وبسببه، رفعت الشهيدة طرفها إليه، وقالت له بصوت ضعيف متقطع، وهي تجود بروحها في السياق: (لا تقل واحبيبتاه قل: واسلاماه)(19). وهكذا يتجلى اندغام عاطفة الحب الفردية بعاطفة التدين الكونية، لأنهما عاطفتان ساميتان في نفسين نبيلتين. هذا السمو، وهذا النبل لم يحولا دون وقوع هنات بشرية، مثل النظر إلى المحاسن والمصافحة والعناق والتقبيل قبل الزواج، مما يدخل في باب اللمم(20).
أما العاطفة الدينية -حب الله والرسول والإسلام والمسلمين - فتتجلى أقوى ما تتجلى في الشيخ ابن عبد السلام وتلاميذه، أمثال الوجيهين غانم المقدسي وابن الزعيم، كما تتجلى لدى عدد كبير من ملوك المسلمين وأمرائهم وقادتهم، الذين حاربوا الصليبيين والتتار، أمثال خوارزم شاه وابنه جلال الدين، والملك الصالح نجم الدين أيوب، والملك المظفر قطز وزوجته جلنار.
الشيخ ابن عبد السلام عمل على إصلاح الرعاة والرعية، وجاهر في مناصرته للملوك الصالحين، ومحاربته للخونة والمنافقين. حين سجنه ملك دمشق الخائن عماد الدين إسماعيل طلب الشيخ من أتباعه اغتيال أفراد الفرنجة الذين يدخلون أسواق دمشق لشراء السلاح، حتى سرى ذلك في العامة فاجترأوا على اغتيال الفرنج جهرة في وضح النهار(21).
وحين طلب الملك نجم الدين الاستشفاء في دمشق، وتأخر عن محاربة الصليبيين، كتب إليه الشيخ يقول: (إن الإسلام في خطر، وصحة السلطان في خطر. الإسلام باق، والسلطان فانٍ, في الفانين، فلينظر السلطان أيهما يؤثر)(22).
وحينما انحرف الصاحب معين الدين وزير عز الدين أيبك صديق الشيخ، فابتنى لنفسه غرفة على سطح مسجد ليلقى فيها أصحابه نهاه الشيخ، ثم قام بنفسه وأولاده، فهدمها، ونقلوا أثاثها وأسقط الشيخ شهادة الوزير، وعزل نفسه من القضاء(23). وفتوى الشيخ في أموال المماليك معروفة(24).
في الرواية صور مشرقة لعواطف العامة من المسلمين، فحينما نودي في مصر بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله.. خالط الناس شعور عجيب لم يعهدوا له مثيلاً من قبل، وطغى هذا الشعور على جميع طبقات العامة، حتى كفَّ الفسقة عن ارتكاب معاصيهم، وامتنع المدمنون عن شرب الخمر، وامتلأت المساجد بالمصلين، ولم يبق للناس في البيوت والأندية والمساجد الطرقات من حديث إلا حديث الجهاد(25)، وحينما خطب الملك قطز بعد الانتصار في معركة عين جالوت، ورثى زوجته جلنار أدركته الرقة فبكى وعلا نحيبه، فبكى المسلمون جميعاً وتعالت أصواتهم بالنحيب، وهم يقولون (ي- رحمها الله -! ي- رحمها الله -)(26).
مقابل هذه العواطف الفردية والجماعية المشرقة نصادف في الرواية عواطف هابطة مطموسة لدى الخونة والمنافقين والجبناء، فضلاً عن عواطف التتار والصليبيين المقيمين في عكا أو القادمين مع الحملة الصليبية على مصر. فملك دمشق عماد الدين إسماعيل يكاتب التتار ليعينوه على احتلال مصر، ويرسل إليهم الهدايا مع ابنه العزيز، ثم يقاتل في صفوفهم ضد إخوانه المسلمين حتى يقع في الأسر، ويفتي الشيخ ابن عبد السلام بقتله في سجنه(27).
وهناك المنافقون الذي دلّوا الأعداء الصليبيين على مخائض البحر الصغير، فعبرت منه فصائل الفرنج، وكادت توقع بالمسلمين في معركة المنصورة. ومثل ذلك جمع من أمراء المماليك الذين رفضوا تسليم الأموال المسلوبة من الرعية، ورفضوا الخروج إلى مواجهة التتار حتى حملهم الملك قطز على ذلك(28).
أما الخونة من ملوك الشام وأولادهم الذين لحقوا بالطاغية هولاكو إلى بلاد فارس، حيث بلغه انهزام عسكره في عين جالوت، ومقتل نائبه الكبير كتبغا، فعظم عليه الخطب، ولم يهدأ غضبه، فكان مصيرهم أن قتلهم هولاكو جزاء خيانتهم إلا واحداً منهم عشقته زوجته، فشفعت له عند زوجها، فعاش طليق امرأة كافرة! (29) وهكذا كان للطغاة.. وللأشرار عواطف بشرية، ولكن أي عواطف?!
بين هذين النوعين من العواطف الصالحة والطالحة، المشرقة والمطموسة، نصادف نوعاً ثالثاً يقع بين بين، اختلط فيه الصالح بالطالح، أو تذبذب بينهما، نختار له مثلين: أحدهما عواطف الملكة شجر الدر، والثاني عواطف الظاهر بيبرس. أما شجر الدر فقد جمعت بين عواطف الغريزة الأنثوية المعروفة لدى النساء، وبين عواطف التحكم والسيطرة المعروفة لدى الرجال. كانت وفيه لزوجها الأول الملك نجم الدين، ولزوجها الثاني الملك عز الدين. لكن غيرتها من زوجه الثاني، ومنافسته لها في الاستئثار بالحكم حملتاها على استدراجه واغتياله، مما حمل ضرتها على اغتيالها أيضاً(30) وهي التي استطاعت ضبط عواطفها، وكتمان وفاة زوجها في أوج المعركة حتى تحقق الانتصار على الصليبيين، ثم ضبط عواطفها تجاه الأميرين اللذين يخطبان ودها حتى تغلب أحدهما على الآخر(31).
أما الظاهر بيبرس، ففضلاً عن عواطفه الدينية وشجاعته في محاربة التتار، فنجده يحمل بين جنبيه عاطفتين متصارعتين، إحداهما عاطفة الصداقة التي يكنها للمظفر (قطز) منذ الصغر وثانيتهما عاطفة السيطرة والتحكم التي أورثته الغيرة والحسد والريبة، فتقلب في مواقفه تجاه قطز، لدرجة اشتراكه معه في حروب التتار وفي مؤامرة اغتياله بعد ذلك مباشرة، ثم ندمه الشديد لما اكتشف أن قطز كان ينوي تعيينه ملكاً بعده.
وهكذا في عصور الانحطاط المظلمة التي اجتمع فيها على المسلمين خطر التتار من الشرق وخطر الصليبيين من الغرب.. أشرقت نفوسهم، وتألقت عواطفهم من جديد فكان الانتصار العظيم في معركتي المنصورة وعين جالوت.
وفي رواية (الثائر الأحمر) مختبر فني تاريخي للعواطف البشرية. الشخصية الرئيسة في الرواية هو الثائر الأحمر حمدان بن قرمط الأهوازي. فلاح كان والده يملك إحدى القرى الصغيرة حول الكوفة استولى عليها بالحيلة الثري الحسين بن الحطيم. حمدان في الخامسة والثلاثين من عمره. قوي البنية، جلد على العمل، شرس. لما اختطف عملاء ابن الحطيم أخت حمدان ردّ على ذلك باختطاف أخت ابن الحطيم، وحملها هدية إلى طاغية الزنج في البصرة. أواخر العهد العباسي وفي خلافة المعتمد وابن أخيه المعتضد تحول حمدان من فلاح بائس مضطهد إلى (عيّار) ينتقم لنفسه وللفقراء من الأثرياء الطغاة أمثال ابن الحطيم وابن أبي السباع، حتى تعرف على حسين الأهوازي الذي سلكه في منظمة أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح السرية، وهي حركة واسعة المجال، دقيقة النظام، مركزها آنذاك (سلمية) بالشام، ولها شعب منتشرة في أمهات المدن والأصقاع. أما عبد الله بن ميمون القداح، فهو يهودي دجال من بني الشلعلع. ويتفوق حمدان في الحركة الجديدة، فيصبح نقيب النقباء، وإلى جواره مستشاره الفقهي في المذهب ابن عمه عبدان.
وهكذا نجدنا في هذه الرواية أمام حشد ضخم من العواطف الفردية والجماعية، الهابطة والسامية، الجنسية والفمية والروحية وغير ذلك، كما نجدنا أمام رؤيا متكاملة للإنسان والكون والحياة، وعلاقة ذلك كله بالله - تعالى -، ثم بحركة المجتمعات والتاريخ علواً وانحطاطاً، لدرجة إرهاصها الواعي، وتوقعها بسقوط الماركسية في عصرنا قبل سقوط الكيان الإمبراطوري للمنظومة الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفيتي بنصف قرن.
إن هذه الرواية تحلل بشكل فني الآثار المدمرة لشهوتي الفرج والفم، حين تأخذان شكل عواطف هابطة، لا تقيم وزناً لسنن الله في الكون والمجتمع: من نظافة واستقامة وعدالة حقيقية، فقد استغل حاخامات اليهود وتجارهم حاجة الجماهير الفقيرة للطعام وفساد الحكام والنظام المغالي آنذاك، وألبسوا ذلك ثوباً جذاباً من حب آل البيت والتبشير بفردوس أرضي يلغي كل القيود والسدود، وكان أبرز ضحية لهذا المخطط الجهنمي وأكبر ثائر عليه بعد ذلك.. هو حمدان قرمط.
بعد أن جعل حمدان عاصمة ثورته.. مدينة (مهيما باذ) في البطائح جنوب العراق شرع يطبق على أهله ورعيته تعاليم حركته التي سميت حركة العدل الشامل، مثل اقامة (ليلة الإمام)، ومثل ضريبتي (البلغة) و(الألفة).
أما ليلة الإمام، فهي ليلة احتفالية يجتمع فيها الرجال والنساء للغناء والرقص والشراب، ثم الزنى الشامل بلا مراعاة للمحارم أو الحرمات. فكان أن وقع حمدان نفسه على ابنته، فاشمأزت نفسه، واستيقظ ضميره، فمنعها من حضور هذه الليلة.
أما (الألفة) فهي نظام مالي أمر به حمدان، وهو أن يؤدي كل فلاح أو عامل ما يفضل عن حاجته من الثمار والحبوب حتى يكونوا في ذلك أسوة واحدة، لا يفضل أحد منهم صاحبه وأخاه في ملك يملكه، وكانت نتيجة ذلك أن نشأت طبقة جديدة من الأغنياء هم رجال السلطة والأمن من حول حمدان وكبار قادته، كما انتشر الفقر والجوع في الرعية من جهة، والميل إلى الكسل والإهمال في الإنتاج من جهة ثانية، وقد تحسّس حمدان ذلك كله بنفسه حين انفرد ببعض العمال والفلاحين وأعطاهم الأمان إن هم صارحوه بالحقيقة. بل أن جلندى الرازي رئيس جلاوزة الشرطة السرية لديه أساء استعمال سلطاته الواسعة، فاحتجز أخت حمدان، واغتال زوجها تمهيداً للعدوان عليها.
أما (البلغة) فهي ضريبة للإمام، هي سبعة دنانير يدفعها من شاء أن يذوق طعام أهل الجنة! وقد اكتشف حمدان أن وجود إمام من أهل البيت مجرد خدعة ابتكرها ونفذها اليهودي الدجال عبد الله بن ميمون القداح ومن بعده ابنه أحمد.
وهكذا نشأ انهيار الحركة القرمطية من الداخل بدءاً من قائدها حمدان وانتهاء بقواعدها أو الرعية الكادحة التي قامت على سواعدها، لأنها أسّست على أنماط من العواطف الهابطة والمجافية للقيم العليا والأشواق الروحية السامية، وسنن الله - تعالى - في خلقه. وذلك على الرغم من الدور الفعال الذي نهضت به مصارعة عواطف الأثرة المالية والظلم الاجتماعي وكل ما كان يفرزه التفاوت الطبقي والإقطاع آنذاك، (وما ظالم إلا ويبلى بأظلم).
كيف الخلاص إذاً من عواطف الجشع وعبادة العجل الذهبي التي يرعاها بنو الشلعلع من جهة، ومن عواطف البهيمية المنطلقة من كل نظافة واستقامة تنظمان العواطف والشهوات وتحولان دون استفحال طغيان جديد يحل محل طغيان قديم من جهة ثانية؟
إن الخلاص كان في الاستجابة لدعوة الشيخ أبي البقاء البغدادي، الذي قاوم طغيان السلطة والمال (ممثلَين بالخليفة والتجار)، كما قاوم طغيان الشهوات الهابطة (ممثلة بحركة القرامطة)، لذلك حبسه السلطان ونفاه، كما عملت ضده حركة القرامطة. وأخيراً استجاب الخليفة المعتضد لدعوته، فأفرج عنه، وعمل بتوجيهاته في تطبيق العدالة الاجتماعية الإسلامية، وذلك في الوقت الذي اكتشف فيه حمدان مخاطر الاستمرار في انحراف حركته، فأخذ يوجه أتباعه للالتحاق بحركة أبي البقاء شيئاً فشيئاً.
إن إيجاز رواية (الثائر الأحمر) وتبسيطها، لا يكافئان الإبداع الفني الضخم الذي حققه باكثير في تشريح العواطف البشرية لا سيما العواطف الهابطة، وعلى الأخص حين تتخذ هذه العواطف مصائد وشراكاً، أو حين يدمن عليها بعض الرجال والنساء فلا يستطيعون منها فكاكاً. وهكذا كان شأن (راجية) أخت حمدان و (عبدان الأهوازي) ابن عمه، فكل منهما أستمرأ الفجور وتولى الدعوة له: راجية بشبقها، وعبدان باختصاصه الفقهي. أما جعفر الكرماني فهو الداعية الصياد الذي اتخذ من عشيقته (شهر) مصيدة أوقعت في حبائلها الفقيه عبدان أولاً والقائد حمدان ثانياً وسوغت لكل منهما فعلة حسين الأهوازي بالفتاة (راجية).
على أن البراعة في تصوير العواطف السامية والنوازع الخيّرة لا تقل أهمية وصعوبة عن تصوير العواطف الهابطة.. فضلاً عن اليقظة الوجدانية التي انطلقت من ضمير حمدان وعن عواطف الخير والجهاد والإصلاح التي مثلها الشيخ أبو البقاء البغدادي وحركته.. نجد امرأة فاضلة واجهت الشدائد والمحن بسبب نظافتها واستقامة عواطفها وأخلاقها، وهي (عالية) أخت حمدان التي اختطفها (العيار) المنحرف (ثمامة) لما رفضت الاقتران به، وسلمها لمالك الأرض المتبطل ابن الحطيم ليتخذها بالقوة محظية له، وهي هي التي قاومت ضغوط رئيس الشرطة السرية في دولة \"مهيما باذ\" القرمطية واغتياله لزوجها، وأخيراً وقفت وحيدة أمام سلطة أختها (راجية) وابن عمها (عبدان)، تهاجم الفجور في ليلة الإمام، والمظالم في تلك الدولة القرمطية، واستطاعت أن تكسب أخاها حمداناً، ومن ثم أن تكسب المعركة كلها. فالنساء كالرجال في معترك العواطف البشرية سواء بسواء.
ولا يفوتنا أن نقف عند عواطف الشاب الليث بن حمدان الذي استلطفته عمته (راجية) بعد أن وقع عليها في (ليلة الإمام)، ثم اشمأز وأعرض عنها وعن تحرشها به، ومال إلى توجيهات عمته الأخرى (عالية)، ثم الاقتران بابنتها (مهجورة)، وهي بنت عالية من (ابن الحطيم) التي تتلمذت في مدرسة أمها، ولم يمنعها من نظافة العواطف واستقامة الخلق أنها ابنة زنى، وفي اقتران هذا الشاب بهذه الفتاة دلالة على إمكانية العلو والسمو في العواطف بعد التسفل والانحراف، ودلالة على أن الغلبة والمستقبل للعواطف البشرية الصحيحة السامية.
التصور الإسلامي والأدب الإسلامي كل منهما يقدّر العواطف البشرية حق قدرها، فلا حياة بلا عواطف، ولا أدب بلا عواطف، ولكن أي عواطف? ذلك أن هناك من العواطف ما يرقى بالحياة والأدب ويزيدهما خصباً ونماءً وإنسانية، وهناك من العواطف ما ينسف الأدب والحياة معاً.
ـــــــــــــــ
الهوامش:
(17) المسرحية من خلال تجاربي الشخصية باكثير ط1985م-ص: 46.
(18) وا إسلاماه- علي أحمد باكثير دار الكتاب اللبناني بيروت ص 192 -196.
(19) المصدر السابق. ص: 251.
(20) المصدر السابق. ص: 110.
(21) المصدر السابق. ص: 133.
(22) المصدر السابق. ص: 165.
(23) المصدر السابق. ص: 161.
(24) المصدر السابق. ص: 122.
(25) المصدر السابق. ص: 240.
(26) المصدر السابق. ص: 259.
(27) المصدر السابق. ص: 192.
(28) المصدر السابق. ص: 24.
(29) المصدر السابق. ص: 262.
(30) المصدر السابق. ص: 212.
(31) المصدر السابق. ص: 206.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد