بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور علي محيي الدين القره داغي خبير في مجال الفقه والاقتصاد الإسلامي في عدد من المجامع الفقهية، ورئيس عدد من الهيئات الشرعية للبنوك الإسلامية، وصاحب رؤية اقتصادية إسلامية متقدمة تواكب متطلبات العصر، وتتصل بالأصل في أحكامه ومقاصده، وله جهود واجتهادات قيمة في إطار الخبرة التنموية الإسلامية التي يرى من خلالها أنه لو جمعت أموال الوقف والزكاة لما بقي فقير واحد في عالمنا الإسلامي، مستدلا بأن الأموال الخليجية المستثمرة في الخارج وحدها تصل إلى تريليون و250 مليون دولار وتبلغ زكاتها 30 مليار دولار.
وعزا الدكتور القره داغي في حوار لـجريدة «الوسط» الكويتية تقدم بعض البلدان العربية والإسلامية ومنها ماليزيا إلى اعتمادها على نظام الاقتصاد الإسلامي الذي يعلي من شأن الاستثمار والإنتاج على حساب الاقتراض الذي تعمل به البنوك التقليدية، مؤكدا أن المجامع الفقهية في العالم الإسلامي حسمت قضية فوائد البنوك التقليدية، وأجمعت على أنها ربا محرم قائم على الظلم وماعدا ذلك مجرد اجتهادات فردية.
فوائد « التقليدية»
*مازالت قضية فوائد البنوك الربوية تشهد سجالا بين الحل والحرمة. بوصفكم فقيها وخبيرا في الاقتصاد الإسلامي..هل من بلورة لرؤية شرعية تخفف حدة الجدل الدائر بشأن هذه القضية بين الحين والآخر؟
- فوائد البنوك التقليدية التي عرفتها بلداننا الإسلامية منذ فترة طويلة بحثها الفقهاء المعاصرون منذ نحو مئة سنة، وانتهوا من خلال مجامع فقهية عدة إلى أن فوائد البنوك الربوية هي الربا المحرم، وأول فتوى صدرت من مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة عام 1964م، وقالت إن فوائد البنوك التقليدية تدخل ضمن الربا المحرم، ثم جاء مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي فأصدر فتوى شبيهة بذلك، ثم جاء مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي وهو يضم عددا كبيرا من العلماء والخبراء والفقهاء والاقتصاديين واصدر قرارا بحرمة فوائد البنوك الربوية، وكذلك توالت بقية المجامع الفقهية مثل المجمع الفقهي الهندي، ومجمع الفقهاء في أميركا والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث وأصدروا الفتوى نفسها، إذن هذه قضية محسومة وأي خوض فيها لبعض الاجتهادات الفردية هو خروج عن إجماع العلماء والمجامع الفقهية والفتوى الجماعية التي ننادي بها.
وفي اعتقادي أنه على أثر حسم هذه المسألة نشأت البنوك الإسلامية وإذا لم تكن قد حسمت في السابق ما كانت هذه البنوك قد رأت النور، وأول بنك إسلامي أنشئ في الإمارات هو بنك دبي الإسلامي الذي أتشرف بالإشراف الشرعي على معاملاته، ثم نشأ بنك بيت التمويل الكويتي وتوالت بعد ذلك البنوك الإسلامية الأخرى، وفي بنك دبي الإسلامي بدأنا في عام 1975م بسبعة ملايين دولار إجمالي رأسمال البنك، واليوم بلغت الأموال المستثمرة في البنوك والمؤسسات الإسلامية أكثر من 400 مليار دولار وتنوعت هذه الاستثمارات بشكل كبير جدا.
فتاوى فردية
* إذا كانت المسألة قد حسمت على هذا النحو القاطع من المجامع الفقهية إذن لماذا التباين الشديد بشأنها بين الحل والحرمة؟
- الآن جمهور العلماء المعاصرين على هذه الفتاوى المجمعية المحرمة للربا، لكن هناك فتاوى فردية تصدر من هنا وهناك، ويجب ألا يكون لها تأثير على نفسية جمهور المسلمين، لأن المسلم عليه أن يسير مع جماهير العلماء وأعتقد جازما أنه لا يمكن لهذه المجامع الفقهية أن تجتمع على ضلال أو على شيء ليس عليه برهان أو دليل من الكتاب الكريم والسنة النبوية.
وأرى أن هذه القضية ستظل مثار جدل وخلاف بين بعض الفقهاء لأنها لم تحسم بعد من جانب الحكومات، فجماهير الفقهاء في جميع أنحاء العالم الإسلامي حسموا هذه المسألة: في الخليج محسومة، وفي إندونيسيا وماليزيا محسومة، البلد الوحيد الذي صدرت فيه فتاوى متضاربة هي مصر بلد الأزهر الشريف الذي صدر منه أول فتوى بالتحريم، ومن المفارقة أن فضيلة شيخ الأزهر الحالي الدكتور محمد سيد طنطاوي الذي يرى أن فوائد البنوك الربوية حلال هو نفسه كان يراها حراما من خلال كتابه وقت أن كان مفتيا، وللعلم دار الإفتاء المصرية لم تصدر عنها فتوى في هذا الشأن حتى الآن.
فلسفة التحريم
*ما فلسفتكم من تحريم فوائد البنوك التقليدية.. هل الهدف مجرد الاتباع أم أن هناك آثارا وتطبيقات إيجابية لهذه الفلسفة تعود بالنفع على الفرد والمجتمع؟
- فلسفة التحريم تقوم على أن البنوك التقليدية أو الربوية تتعامل بالقروض، فعندما نقرأ العقود التي تنظم علاقة البنك التقليدي مع الشخص العميل نجد أنها تقوم على أساس قرض مضمون بفائدة مضمونة، وعندما يأخذ البنك مبلغا من المال للإيداع في حساب ما يسمى بالتوفير أو الودائع فإن العلاقة أيضا تقوم على أساس قرض مضمون بفائدة مضمونة، والقرض المضمون مع فائدة مضمونة هو الربا المحرم الذي نص عليه القرآن الكريم قبل 14 قرنا، والحكمة من ذلك أن النقد لا يلد نقدا وأنه لا بد من تحقيق العدالة، واللـه - سبحانه وتعالى - سمى الربا ظلما، والظلم هنا ليس فرديا، فلو كان الظلم فرديا لكان بالإمكان أن يتنازل الشخص عن حقه، وإنما الظلم يقع على المجتمع بأسره، وذلك أن اللـه - سبحانه وتعالى - نظم العقود والمعاملات على أساس العدالة، بمعنى أنه لا يجوز أن تكون جميع الجوانب الإيجابية لصالح طرف من دون آخر، كما أنه لا يجوز أن تكون كل السلبيات في ميزان واحد.
والعدالة تقتضي أن يتحمل كل طرف جزءا من الإيجابية وجانبا من السلبية، فمثلا حين أعطيك قرضا - فالإسلام نظم هذه المسألة - فالمقرض ماله مضمون وهذا جانب إيجابي لكنه ليس له فائدة بل له ربح، وفي المقابل المقترض يستثمر هذا المال، وهذا جانب ايجابي لكن المال مضمون عليه - وهذا جانب سلبي - حتى لو هلك أو سرق أو تلف.
المضاربة والاستثمار
ومن المضاربة والاستثمار نظم الإسلام العلاقة بهذه الطريقة، فلو أعطيت لك المال مضاربة، ففي كفتي - كصاحب المال - جانب إيجابي وآخر سلبي: جانب إيجابي وهو أنني أشاركك في الربح، وآخر سلبي وهو أن مالي غير مضمون، وبالنسبة إليك الجانب الإيجابي هو أن هذا المال ليس مضمونا عليك حتى لو خسرت إلا إذا قصرت أو خالفت الشروط، والجانب السلبي هو أن الأرباح التي تحققها ستعطي منها جزءا لي، وبهذه الطريقة تستقيم المعادلة، لكن في القرض المصحوب بفائدة فكل الضمانات لصالح المقرض وهو البنك، فحين يقترض العميل مالا، فماله مضمون وفائدته مضمونة والمقترض عليه ضمان رأس المال، وعليه خسر أم ربح أن يعطي 10 في المئة أو 5 في المئة للبنك، وهذا هو الربا بعينه الذي كان موجودا في الجاهلية.
وحتى النظريات الحديثة مثل نظرية «كينز» تقول: النقد لا يلد نقدا، فكيف تعطيني نقدا وتفرض على هذا النقد أن يلد نقدا؟ كأن تعطيني فائدة زيادة، والاقتصاديون الغربيون يقولون إذا زادت نسبة التضخم والبطالة ماذا يفعلون؟ إنهم يقللون من نسبة الفائدة حتى يوجه الناس أموالهم للاستثمار الحقيقي وليس إلى القرض المضمون.
دبي والأبراج
*إلى أي مدى أسهمت هذه المعاملات الاقتصادية الإسلامية في نهضة بعض الدول وتنميتها؟
- من خلال إشرافي الشرعي على بنك دبي، أخبرنا بعض المسئولين الكبار في الإمارات أنه لو لم يكن بنك دبي الإسلامي، لما وجدت هذه الأبراج، لماذا يقولون هذا الكلام؟ لأن البنك لا يعطي قروضا ومن يريد أن يستفيد من أمواله عليه أن يتجه نحو الاستصناع، فالبنوك الإسلامية تفرض أن يكون التعامل عن طريق الملكية وما على العميل إلا أن يبني أو يشتري أو يؤجر أو يستأجر، هذه الفلسفة تدفع بالمستثمرين نحو الانخراط في عملية التنمية التي يترتب عليها أرباح وفوائد للأمة.
ماليزيا والطفرة
* أشرت إلى أن ماليزيا تشهد نهضة شاملة بفعل الاقتصاد الإسلامي كيف حققت هذه الطفرة؟
- قبل 10 سنوات شاركت في صناعة صكوك إسلامية لإحدى الشركات الكبيرة في ماليزيا وهي شركة السكك الحديدية ولا شك أن مثل هذه الجهود تدفع في اتجاه التقدم والتنمية، والمعروف أن ماليزيا تسير بخطوات ثابتة وحثيثة نحو الاقتصاد الإسلامي بكل جوانبه ليس في باب البنوك الإسلامية فقط وإنما في مجالات كثيرة ومنها التكافل والتأمين الإسلامي، وهذا التوجه من الأسباب الرئيسة للنهضة في ماليزيا، لأن البنوك الإسلامية - كما أسلفت - تمتنع عن الاقتراض ومن ثم لا بد أن يفكر الشخص في التنمية والصناعة والبيع والشراء، وأي شيء يتصل بالبيع يشارك فيه أكثر من طرف وهذا يساعد على تشغيل العمالة والتجار والموردين والوكلاء ووسائل النقل وأماكن التخزين، ومن هنا نستطيع القول بأن البنوك الإسلامية والفكر الاقتصادي الإسلامي أسهما بفاعلية في النهضة الماليزية.
البحوث والتشريعات
* وماذا عن المعوقات والتحديات التي تحول دون تنامي معدلات التنمية الإسلامية في مختلف الأقطار العربية والإسلامية؟
- من أهم هذه التحديات أن هذه البنوك الإسلامية لم تدخل في إطار التشريعات والقوانين التي تحميها من خلال الدول الإسلامية، توجد قوانين تحمي البنوك التقليدية وتنظم أعمالها، أما في ما يتعلق بالبنوك الإسلامية هناك مجموعة من المسائل نظمت، لكن هناك جوانب أخرى كثيرة تحتاج إلى تنظيم وصناعة مجموعة من التشريعات المناسبة لهذه البنوك.
التحدي الثاني أن البنوك الإسلامية تتطور باستمرار وهي بحاجة إلى مراكز بحثية وإلى بحوث ودراسات علمية، والسؤال المهم كيف ننفذ هذه البرامج بصورة صحيحة تجمع بين علوم العصر وبين الأصل وهو الكتاب والسنة.
التحدي الثالث أن هناك مجموعة من القوانين الدولية التي تفرض بعض القيود على الصناعة المصرفية الإسلامية كما أن بعض البنوك المركزية تفرض أيضا شروطا على البنوك الإسلامية وهذا التحدي أقل خطورة من التحديات الأخرى لأن معظم البنوك المركزية في البحرين وقطر والكويت والإمارات باتت متفاهمة بل ومتعاطفة مع الصناعة الإسلامية وتحاول أن تسهل عملية الاستثمار من خلال تشريعات مناسبة.
* ننتقل إلى مسألة الزكاة وإسهاماتها من عملية التنمية... البعض ينظر إليها للوهلة الأولى على أنها عملية بسيطة، أموال تؤخذ من الغني وتعطى للفقير... هل من مستجدات على صعد هذه المسألة خصوصا في ما يتصل بعملية التنمية؟
- البعض يظن - خطأ - أن الزكاة للفقراء فقط، والقرآن الكريم ذكر ثمانية مصارف للزكاة قال - تعالى -: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله» مصرف الغارمين يدعو إلى التكافل الاجتماعي أو التأمين بصيغة أخرى، ومصرف... في سبيل الله يدخل في الإطار التنموي، إذن ليس بالضرورة أن نعطي المال للفقراء مباشرة، من الممكن أن نبني لهم مصنعا ونملك أسهمه للفقراء والمساكين، أو نوزع ريعه على الفقراء والمساكين، الخلاصة أن هناك فثاوي مجمعية تجعل هذا المجال واسعا.
*إذن من الممكن أن تستخدم أموال الزكاة في الاستثمار؟
- الاستثمار بالمعنى الاقتصادي لا يجوز لأن هذا شأن الوقف واختصاصه، أما الاستثمار بالمعنى التنموي سالف البيان فالزكاة تشارك في الاستثمارات التنموية، وهذه مشاكل تحتاج إلى تفصيل ولا تكفي هذه العجالة لبيانها.
تطبيقات الزكاة
* بوصفك خبيرا في الاقتصاد الإسلامي.. هل تطبيقات الزكاة الموجودة في العالم العربي والإسلامي تفي بالغرض التنموي؟
- لا شك في أنها خطوات جيدة ومباركة وحتى الآن الأمر اختياري ولم يصدر قرار إلزامي بالزكاة في الدول العربية والإسلامية، وإذا ما صدرت قرارات إلزامية سيكون لها دور كبير في دعم عملية التنمية، وعلى سبيل المثال: إن الأموال الخليجية المستثمرة في الخارج تبلغ تريليونا و250 مليون دولار، زكاة هذه الأموال تبلغ 30 مليار دولار، لو وزعت على الفقراء والمساكين أو وضعت في مشاريع تنموية لحققت رواجا ورخاء كبيرين، فما بالنا إذا ضممنا إليها قائمة أغنياء الدول الإسلامية، حتما ستكون الزكاة في حدود مائتي مليار دولار سنويا، وإذا وضعت هذه الأموال في صندوق.. لننظر كيف سينمو العالم الإسلامي؟
الإرادة السياسية
* نفهم من ذلك أن تطبيقات الزكاة وتفعيل دورها التنموي مرهون بإرادة الأنظمة والحكومات؟
- بالتأكيد القرار السياسي له دور كبير في تفعيل العملية التنموية من خلال الزكاة، وإلا فالزكاة فريضة فردية سواء أمرت الدولة أم لم تأمر وواجب على الإنسان إخراجها، لكن طريقة الإخراج وتفعيلها تحتاج إلى قرار سياسي حتى تؤدي هذه الزكوات دورها الفعال، وحتى لا تظل الجهود الفردية مبعثرة.
*وماذا عن الوقف ودوره في عملية التنمية؟
- الحضارة الإسلامية هبة الوقف، هذه الحضارة العظيمة قامت على أساس الوقف الذي تجاوز أكثر من 30 نوعا شاملا العلوم والمدارس والجامعات والمستشفيات وغيرها بما في ذلك الجوانب الإنسانية والحضارية والتنموية.
وجوهر رسالة الوقف محاربة الفقر خصوصا أن مجال الاستثمار واسع أمام المشاريع الوقفية ولو ضمت أموال الزكاة مع أموال الوقف لما بقي فقير واحد في عالمنا الإسلامي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد