المصداقية

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما تفقد بعض الإمكانيات أو تفشل في أشياء تنظيمية في العمل الإعلامي وتحاول التصحيح فإنه يمكن قبول ذلك.. أما أن تفقد المصداقية والموضوعية فهذا مؤشر على موت الرسالة الإعلامية ويستحيل إعادة الحياة لها مرة أخرى.. هذه المصداقية التي يسعى لها كل إعلام هادف وجاد لا يمكن تحصيلها من شهادة حسن سير وسلوك لأفراد هذه الجهة الإعلامية أو تلك فقط.. وإنما حسن التعامل مع أصول الإعلام وقواعده للوصول إلى هذا الشرف الإعلامي الكبير الذي يستعصي على كثير من الجهات الإعلامية خاصة في العالم العربي.

إن الإعلام لا يكتسب مصداقيته من بث معلومة صحيحة فقط كما يتصور وإنما من حجم المعلومات والآراء التي يتم تجاهلها وتهميشها وفقًا لمصالح محددة وضيقة يتوهم البعض أنها تخدم الحقيقة التي يسعى من أجلها مع أن لدى خبراء فن الإقناع قاعدة تقول أن مما يعيق اقتناع الآخرين برأيك وبمصداقيتك أن يشعر الطرف الآخر بحرصك الشديد على إقناعه وتغيير فكره أو رأيه وتنصح هذه الفئة من الخبراء بأن من الأفضل أن تبدو محايدًا هاديًا في عرض رأيك وتدع الحقيقة تعبر عن نفسها ومن المفيد أن تعطي للرأي الآخر فرصة في إبداء رأيه حتى ولو كان يزعجك وتخشى أن يؤثر على الآخرين.. وهذا الأسلوب من أقوى الأسباب التي تؤدي إلى رسوخ الحقائق.

«إن جرعة من رأي مختلف تظهره الجهة الإعلامية ومساحة لمخالف.. يعني جرعة مصداقية وقوة تأثير للرسالة الإعلامية لدى جمهور واسع.. » هذه القاعدة تمثل قانون «المصداقية الإعلامية» وهي حصيلة استقراء طويل ومتابعة تفوق العقد والنصف لإعلام متنوع ومتناقض في توجهات الأيديولوجية، ولقد أثبتت التجربة الإعلامية أن إعطاء فرصة لرأي مختلف.. لا يخدم صاحب هذا الرأي بقدر ما يخدم الجهة الإعلامية ويرفع سقف المصداقية لديها، وأن أفضل الطرق للقضاء على الآراء الخاطئة وأصحابها هو إتاحة الفرصة لها.

إن الإعلام الموجه للطفل وللمراهق الصغير وللمرأة البسيطة هو الذي لا يحتمل إلا تلك الرسالة الإعلامية النقية لأن الشريحة المتلقية لا تستطيع التمييز بين الحق والباطل ولا مجال لإبراز رأي مخالف وتشويش الأفكار، أما الإعلام الموجه للنخبة وشريحة ذات ثقافة واسعة فإن فرض نوعًا من الوصاية على تلك الشريحة هو في الواقع ليس نقصًا في المصداقية الإعلامية فقط وإنما هو نزع الثقة من الجمهور والتشكيك في قدرته على التفريق بين الرأي الصحيح والرأي الخاطئ.. ولقد شهد العالم كيف انهارت مصداقية الإعلام الاشتراكي.. وقد كان من القواعد العامة للصحافة الاشتراكية الحزبية هي عدم نشر كل ما يتناقض مع أيدلوجية الحزب وسياساته ولا يمكن أن تكون منبر لنشر أراء وموقف معادية للحزب.. ومن المعلوم أن الأحزاب الاشتراكية لا تجوز لأعضائها الكتابة حتى في الصحف المعادية.. وفعلاً كانت الصحافة الاشتراكية مخلصة لمبادئها ومارست وصاية مفرطة ومضحكة في كثير من الأحيان لكنها في النهاية فقدت المصداقية وماتت رسالتها الإعلامية.

إن من السهل أن تنجح الجهة الإعلامية في كسب الشريحة التي تتعاطف معها وتوافق توجها الفكري.. وهذا النجاح المحدود يستطيع تحقيقه أي إعلام حزبي لإرضاء جمهوره الخاص أما أن يمتد تأثيره لكافة التوجهات فهذا هو النجاح الصعب والأهم الذي نفقده في عالمنا العربي..! ومن المعلوم أن جمهور الإعلام قد يعطي الثقة لبعض الجهات الإعلامية حتى وإن كانت تخالفه في التوجهات والمنطلقات الفكرية.. وها هو الجمهور في عالمنا العربي على مدار عقود طويلة لا يزال يفضل الإعلام الغربي ويشعر بمصداقية تفوق إعلامه حتى وإن كان يشتم هذا الغرب لكنه في قرارة نفسه يشعر بالفارق الكبير بين مصداقية إعلامه ومصداقية الإعلام الغربي.