صخب مجلسهـن النسائي.. يصلها بهيئة طعنات سامّة تتوجه إلى قلبها القلق المنهك, ضحكاتهن العالية وحديثهن يستفزها ويشعرها بالتعب.. ربما لم تتقن العربية بشكل جيد.. لكن عباراتهن المغموسة في مستنقع الميوعة والابتذال تجعلها تعي تمامًا أي نوع من السخف ينطقن به.. وأي حديث هو ذاك الذي يملؤهن.. أي رغبات يصرِّحن بها.. وأي حالة تفرز تلك الضحكات الحادة فتوصل إليها معاناتها على طبق من دموع..
ليس أمامها إلا تقشير الرمَّان وفرط حباته الحمراء.. كل شيء يجب أن يقشر ويُصَفَّ بعناية.. فالسيدات المخمليات تعودن أن يأكلن كل شيءٍ, مقشرًّا ومصفوفًا.
بعض حبات الرمان تشاكس نظام الطبق. تهرب من بين أصابعها. تسقط أرضًا لتتدحرج على بلاط الأرض الأبيض اللامع.. فتعيش حالة تمرد.
- يا اه!, حتى الجمادات تتمرد.. وأنا كما أنا صامتة تتصارع في داخلي الكلمات.. تسرق العبارات لساني.. ولا تعيده إلا عندما تلزمني تلبية الأوامر\"حاضر سيدتي\".
ولكن, أي تمرد يمكن أن أصوغه.. وأي بشر سأعاقبهم بتمردي.. إن كان هناك سيدات متملقات لا يعرفن إلا الذهب والترف وممارسة الأوامر.. فهناك في بلدي الفقير زوجي المقعد.. وأطفالي السبعة.. من سيطعمهم ليعيشوا.. من؟!
تنهدت ودمعة ساخنة تشق طريقها ببطء على بشرتها السمراء المليئة بالبثور.. ابتلعت ريقها ورمت بحبة رمان صغيرة إلى حلقها , علها تذيب ذلك الشوك الذي نبت فيه.. والذي استفحل في جوفها..
واثقة من أنهم لو فتحوا أحشاءها سيجدون شوكًا مدببًا صغيرًا قد نبت على أورام منتفخة هي من يورثها تلك الآلام والآهات.. وهي من يقض مضجعها ويسهدها طيلة الليل.
خرجت من واقعها المؤلم إلى واقعها الأكثر ألمًا على صوت السيد الصغير\"سامي\"ذي الخمسة أعوام يهز طرف ثوبها:
- أريد شطيرة جبن وعصيرًا\"فريش\".
حاولت أن تصبِّره حتى تنتهي من تقشير الفاكهة, لكن إلحاحه المزعج أجبرها على ترك التقشير.. والاستجابة لطلبه.
دخلت سيدتها المطبخ وبقايا ضحكة حادة ما تزال عالقة بصوتها العالي النبرة.. أوقفت ضحكتها وسددت نظرات قاسية إلى وجه \"صوفي\" ثم قالت بحدة:
- صوفي, ما هذا التأخير؟!.. هيا بسرعة..
- حاضر ماما.. سامي يريد شطيرة..
- بسرعة.. تعلمي أن تكوني أسرع قليلاً.. وإلا سأستغني عنك؟!
خرجت لتدعها تسابق السكين.. حتى بكت معها البرتقالة بدموع حامضة..
السيدات في الخارج يستعرضن شريط الأزياء على التلفاز.. تفننهن في الضحك يشبه صافرات إنذار الحروب.. تذكرها بنكبات بلدها.. تذكرها بالقصف الذي مسح وجه قريتها.. ومسح معها اللون الأخضر منها.. تذكرها بكل شيء خلّف دمارًا.. ولم يترك سوى الركام والذعر.. تفاصيل النكبات كلها تتراءى أمامها إثر كل ضحكة عالية.
انحرفت السكين إلى إصبعها تاركة جرحًا طفيفًا يكفي الشعور به أن يزيد آلامها ألمًا جديدًا.
- صوفي.. بسرعة.
صوت يعود بظلاله الكئيبة يرن في ذاكرتها.. تزداد معه سكينها ثقلاً على ثقل في يدها.. الجمادات تصطف معها لتبدأ المحاكمة.. لكنها لن تهتف إلا بكلمة تطلب فيها الرحمة.. ولو عبر نظرة السيدة.. أو تربيتة يدها..
تمشي بأطباق العشاء إلى الصالة.
المحاكمة لم تنته بعد في داخلها.. القاضي لا يهمس ببنت شفة.. الشهود صرعى أمامها.. وهي لا ترى إلا قضبانا حديدية تحوِّطها.. عالية.. لا نهاية لامتدادها.. صوت مطرقة القاضي يتردد في أذنها.. تتصاعد من رأس القاضي ورأس محامي الدفاع أدخنة احتراق.. عيونهم تشخص إلى حيث تقف هي.. ولا شيء يخبرها: هل هي البراءة.. أم هو حكم الإعدام؟!
في الصالة وقفت تسكب لهن في الأطباق من كل صنف قطعة وقطعتين.. تراقبهن وهي تصطنع ابتسامة عريضة لم تخرج إلا صفراء باهتة.. حرصت أن تؤمِّل روحها الحبيسة في غياهب الأحزان حيث معاناة الزوج وجوع الأولاد بأنها لن تطيل الغيبة عنهم كثيرًا.. مجرد سنتين.. وتعود إليهم بما يكفيهم ألا يتسولوا كسرة خبز لا تخرس نعيق الجوع فيهم.. أو قميصًا في الشتاء لا يشبه دفؤه دفء قصور هؤلاء. ستعود بإذن الله.. وتمطرهم بالمال.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد