بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة السادسة والأخيرة
لفضيلة الشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه وسلم. وبعد:
فقد تحدثنا في العدد السابق عن الإعداد لخطبة الجمعة، وذكرنا ما يجب على الخطيب من تجنب الخوض فيما لا يعلم، ومخاطبة الناس بما يعرفون، ومراعاة أحوالهم، وثقافاتهم. وما يزال حديثنا موصولاً حول المنهج الأمثل لخطبة الجمعة، ونتكلم في هذا العدد - بعون الله- عن: مصادر الخطبة: يتم إعداد الخطب المنبرية وجمع عناصرها من المصادر والمراجع الإسلامية، والكتابات الاجتماعية والتربوية والثقافية، وإليك استعراضًا إجماليًا لبعض هذه المصادر وكيفية الاستفادة منها:
القرآن الكريم وتفسيره:
ويمكن أن تكون الاستفادة في تقديري على طريقين: أحدهما: باستعراض النصوص القرآنية وجمعها وحسن ترتيبها، وهذا يكون في موضوعات الخطب التي عرض لها القرآن بتفصيل واسع، كالإيمان والتوحيد والتقوى وأحوال القيامة واليوم الآخر والجنة والنار وقصص الأنبياء، وأشباه ذلك، فجمع الآيات واستعراضها يعطي تكاملاً وشمولاً وبيانًا لدى السامع، قد لا يدركه لو قرأ الآيات في مواضعها من المصحف.
ويتبع الجمع الاطلاع على تفسير هذه الآيات ألفاظًا وإجمالاً، ومن ثمَّ الربط بين هذه الآيات، ومن المعلوم أن حسن الربط يعطي مزيد إيضاح وبيان حتى كأن السامع لم يقرأ الآيات من قبل.
ثانيها: إذا كان موضوع الخطبة مما لم يرد تفصيله في القرآن الكريم ولكن يستدل له بآيات من القرآن.
فهذه يفيد فيها استعراض المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ليكون الاستيعاب أتم وأوفى، فاللفظة ترد في القرآن الكريم على وجوه وتصريفات متعددة، ومن المفيد جدًا استعراض هذه الوجوه وتدقيق النظر فيها وربطها بنظائرها، ومراجعة أقوال أهل العلم من المفسرين وغيرهم، ولسوف يجد الخطيب إشارات قرآنية بليغة وفهومًا للعلماء دقيقة وأسرارًا من المعاني عميقة تجعل خطبته تحتلٌّ مكانًا مرموقًا لدى سامعيه ومتابعيه.
وغني عن البيان أنَّ كتب التفسير تتنوع في تناولها وطرائق تفسيرها، فمنها ما يهتم بالمأثور ومنها ما يعتني بالرأي وفيها اللغوي والإجمالي وغير ذلك من أنواع التفسير في كتب التفسير قديمه وحديثه.
الحديث الشريف وشروحه:
ما قيل في القرآن الكريم يُقال في الحديث الشريف، فهو المصدر الثاني من مصادر الإسلام، والحديث النبوي أكثر تفصيلاً وسعة من القرآن الكريم، فهو شارح القرآن ومبينه، وقد حوى من التفصيل والبيان ما زخرت به مدونات السنة، يُضمٌّ إلى ذلك شروح أهل العلم وفهومهم واستنباطاتهم، مما يوفر للخطيب معينًا لا ينضب فيما يتوجه إليه من موضوعات.
مصادر إسلامية قديمة:
وهي ما عدا التفسير وشروح السنة من كتب العقائد والأحكام والمواعظ والأخلاق والرقائق وغيرها، يختار منها الخطيب ما يُناسب موضوعه تأصيلاً واستدلالاً وأسلوبًا، ويُذكر على سبيل المثال مدارج السالكين، وزاد المعاد لابن القيم - رحمه الله -، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، والإحياء للغزالي ومختصراته، مع ما ينبغي من الحيطة في بعض ما في الكتاب من ملاحظات، وصيد الخاطر لابن الجوزي، وأدب الدنيا والدين للماوردي، وروضة العقلاء للبستي، وجامع العلوم والحكم لابن رجب.
كتب الأدب القديم والحديث:
وهذه يعتني بها الخطيب من أجل رقيّ الأسلوب، وتخير الألفاظ، وانتقاء الكلمات والعبارات الجزلة الأخاذة ذات الوقع المتميز على السامع، ومن هذه الكتب القديمة البيان والتبيين للجاحظ، وصبح الأعشى للقلقشندي، والخطب المنسوبة لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فأسلوبها متميز والصناعة اللفظية فيها عالية، على ما يتعين على الخطيب من ملاحظة المعاني الصحيحة التي لا تُخالف مقاصد الشرع وأصوله. ومن الكتب الحديثة مؤلفات الرافعي، والخضر حسين، ومحمد محمد حسين، والعقاد، وأحمد حسن الزيات، والسيد أحمد الهاشمي وأمثالها.
الكتب المؤلفة في الإسلام والقضايا المعاصرة
تزخر الساحة العلمية والأدبية بكتب إسلامية معاصرة جيدة، توفر للخطيب ثروة هائلة في إعداد موضوعاته وبخاصة الاجتماعية منها والتربوية وقضايا العصر وأحداث الوقت، فهي تتحدث بلغة معاصرة جيدة وبمعالجات مناسبة يحسن من الخطيب كثرة المطالعة فيها، وبخاصة كتب المعروفين بحسن إسلامهم، وصحة منهجهم، وسلامة قصدهم.
المؤلفات في الخطب:
وهي مؤلفات خاصة تشتمل على خطب الجمعة، ألقاها مؤلفوها في موضوعات متنوعة، والأسواق المكتبية ملأى بهذا النوع من المؤلفات يجدر بالخطيب وبخاصة في بدايات عمله الخطابي أن يطلع عليها، وهذه المؤلفات غالبًا ما تحتوي على موضوعات متشابهة في الطرح من الإيمانيات والمواعظ والقضايا الاجتماعية، مما يُتيح للخطيب المبتدئ فرصة المقارنة بين مناهج الخطباء وطرق عرضهم وأساليب طرحهم مما يعينه على رسم خط متميز لنفسه، ولهذا ينبغي الاطلاع على هذه المؤلفات في بدايات الممارسة الخطابية، حتى إذا اشتد عوده واتسعت مداركه ومعارفه استقل بنفسه، وتوجه إلى المصادر الأصلية، فصار ينشئ الخطب ويرسم لنفسه خطًا خاصًا وطريقًا منفردًا، ومن المؤلفات في هذا الباب خطب المراغي، والبيجاني، والشيخ عبد الله خياط، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ صالح الفوزان، والشيخ محمد بن سبيل، والدكتور أحمد الرياحي، والشيخ محمد الغزالي.
الصحف والمجلات:
يجدر بالخطيب مواكبة الأحداث ومسايرة الوقائع، ويفيده في ذلك الاطلاع على الصحف والمجلات ليتُابع الأحداث المستجدة، ويُمعن النظر في المقالات والتعليقات التي تواكب الحدث، ففيها ثراء وتوسيع لمدارك المتابع، ويعرف بتفسير الأحداث، مما يهدي الخطيب إلى النظرة المتوازنة وبخاصة إذا كثر اطلاعه على الكتابات والتعليقات الصحفية للكُتَّاب المرموقين.
وقد تكون المجلات أكثر إفادة لأنها تعالج بعمق أكبر، فإذا كانت الصحافة تهتم بالحدث اليومي السريع، فإن المجلة تدخل إلى الحدث بعمق أكبر. وهناك مجلات إسلامية وعلمية متخصصة ينبغي مزيد الاعتناء بها لما تحتويه من مادة علمية مؤصلة مدللة تعين الخطيب على غايته، مثل مجلة البحوث الإسلامية، والدعوة، والبيان، والإصلاح، والمجتمع.
خلاصة ونتائج
ويمكن تلخيص مجمل الصفات والخصائص التي ينبغي أن تشتمل عليها الخطبة في النقاط التالية:
1- يحسن الاقتصار على موضوع واحد غير متشعب الأطراف ولا متعدد القضايا، إذ أن ذلك في الغالب يُشتت الأذهان ويُنسي بعضه بعضًا، فمهما كانت العبارة بليغة، والأسلوب منمقًا، والفكر متدفقًا، فإنه لا يستطيع مع الإطالة وتنوع الموضوعات إعطاء صورة متكاملة مجتمعة الأفكار واضحة المعالم.
2- ينبغي عدم التعرض لذكر الخلاف في الفروع، والانطلاق من المسلمات في الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، وفي ذلك متسع ثرٌ في الوعظ والإرشاد والتوجيه، وبهذا تؤدي الخطبة دورها في جمع الكلمة، والتمسك بشعب الإيمان، وما أكثر الفضائل والعزائم التي تناسب ميادين التوجيه والتذكير والمواعظ.
3- الحرص قدر الإمكان أن يُلائم موضوع الخطبة الأحداث الجارية والملابسات الواقعة في دنيا الناس ومخاطبة جماهير السامعين، وأن مما يزري بالخطيب أن تكون الخطبة في وادٍ, والناس والزمان في وادٍ, آخر، وأن في نزول كتاب الله منجمًا مما يُنبه إلى ذلك.
4- مجاراة الأحداث والتمشي مع الواقع لا ينافي المطالبة بأن يتخول الخطيب جمهوره بالتذكير بفرائض الإسلام ترغيبًا وبمحرماته ترهيبًا من الصلاة والزكاة والصوم وحقوق الوالدين والجوار ووجوه البر وأنواع الصلات وتحريم الزنا والخمر والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل وأمثالها، وتعطير أسماعهم بين فينة وفينة بذكر سير السلف الصالح بدءًا بالقدوة الأولى والرحمة المهداة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته من بعده والتابعين لهم بإحسان، وذكر أمجاد المسلمين والتنبيه إلى ينابيع الحضارة الإسلامية اليانعة المتجددة، ففي ذلك زرع للفقه في النفوس وربط للمستقبل المأمول بالماضي المجيد وتأكيد للإيمان بالرسالة العالمية وتأصيل للهوية الإسلامية.
5- يحتاج الخطيب في بعض الظروف والأحوال والمجتمعات إلى تنبيه المسلمين إلى الأخطار الإلحادية والفلسفات الأجنبية والنزعات المنحرفة والنِّحَل الباطلة، وفي هذا الباب والمسلك يحسن بالخطيب أن يتوجه إلى بيان حقائق الإسلام بقوة من غير خوص في أسلوب جدلي عقيم أو تجريحي مبلبلº ففي نصاعة الإسلام وقوته - بحمد الله - ما يكفي لدحر الباطل وافتراءات أهله.
6- الخطيب طبيب فعليه قبل وصف الدواء تشخيص الداء، فيتعرف على العلل والأمراض الشائعة ويشخص الداء ويعرف الدواء، فإذا استبان له ذلك رجع إلى الكتاب والسنة فوضع الدواء، وكلما دق التشخيص سهل العلاج، ومعلوم أن الواعظ غير المتبصر سيأتي بما لا يناسب وإذا أخطأ في تحديد العلة فقد تكون الخطبة لغوًا، على الرغم من شمولها على نصوص صحيحة.
7- اهتمام الخطيب بخطبته وعنايته بالتحضير الجيد دليل على احترامه نفسه وسامعيه.
8- الحرص على الإيجاز قدر الإمكان، والقدرة على ذلك تنبع من عمق الثقافة وقوة التحصيل والإدراك التام لما يريد الحديث عنه، والنفس البشرية لا تزكو فيها المعاني إلا إذا أمكن تحديدها وتقويمها، أما كثرة الكلام وبعثرة الحقائق فتحول السامع إلى شبه إناء قد امتلأ وبدأت تسيل منه الكلمات مهما بلغت نفاستها، ومن الخطأ الفادح أن يظن الخطيب أن عليه أن يقول ما عنده وعلى الناس أن ينصتوا طوعًا أو كرهًا. وبعد، فهذا ما تيسر جمعه وتدوينه، سائلاً المولى جلت قدرته وعز شأنه أن يهدي للتي هي أقوم من العمل والأحسن من القول، ويوفق للإخلاص في القول والعمل، وما كان من صواب هنا فمن الله، وما كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، ورحم الله من أهدى إليَّ عيوبي، ولا عدمت أخًا يكشف زلة، وينبه إلى غلطة، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا، وصلى الله وسلم على خير خلقه، نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.انتهى. والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد