العاطفة والدعوة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

وهذا الموضوع من الموضوعات التي رأيت أن كثيراً من شباب الصحوة، وأجيال الدعوة يتحدثون عن بعض ظواهره، ويسألون عن بعض مشكلاته وعوارضه، فأحببت أن أطرقه طرقاً يحيط بأصوله من الناحية النظرية والفكرية، ويلمّ كذلك بمشكلاته من الناحية التطبيقية العملية.

 

أهمية العاطفة:

وهي تتضح من خلال أمرين اثنين:

الوجه الأول منهما: أن العاطفة فطرة بشرية، والله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق الإنسان، وهو العليم به كما قال - جلا وعلا: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}، وكما قال - سبحانه وتعالى -: {فطرة الله التي فطر الناس عليها}º فإنه - جلا وعلا - قد خلق الإنسان قبضة من طين، ونفخة من روح، وجعل له عقلاً يفكر، وعاطفةً تؤثر، وبيّن عقله وعاطفته، أنزل له شرعاً يوجه العقل، لئلا يشذ، ويحكم العاطفة لئلا تند، وبالتالي فإن طبيعة الإنسان وخصيصته البشرية أن العاطفة جزء أساسي فيه، بل جزء مميز لهº فإن الإنسان في حقيقة الأمر مجموعة من العواطف، وكتلة من المشاعر، عنده حب متدفق، وقد يعتريه أحياناً بغض لا حد لمنتهاه في الانتصار للنفس، أو تدبير الكيد لذلك المبغض، وكذلك عنده راحة وطمأنينة، ويعتريه قلق وهم، وأحياناً يكون في صورة من الأنس والانشراح، وأحياناً يكون في وقت من التبرم والضيق وكل هذا نوع من صور العاطفة في نفس الإنسان، والحق أن الإنسان بلا عاطفة، كجثة هامدة، لأن العضلات والجوارح والمفاصل المكونة للجسم البشري - ليست هي التي تعبر عن كنه الإنسان، بقدر ما يعبر عنه قلبه وعاطفته، ولذلك نعرف اليوم ما يسمى بالرجل الآلي، أو قد يطلقون على الكمبيوتر العقل الإلكتروني فهذا إن تجاوزنا على أنه عقل مفكر، لكننا بهذه التسمية - على إقرارنا لها - لا نصف هذه الأشياء بأن لها عاطفة! هي عقل صرف إن تجاوزنا عن حقيقة العقل الذي يفكر ويغيّر، وليس هو مقيداً تقيداً كاملاً، لكن ليس له عاطفة، فالإنسان بلا عاطفة كما نسمع في تعبيراتنا كأنه حجر، أو كأن قلبه من صخر لا يتأثر، يرى الفواجع فلا يهتز له جفن، ولا يخفق له قلب، يرى المباهج والمناظر الجميلة، فلا تفتّر شفتيه عن الابتسامة، ولا تجد في عينيه بريق سعادة، إن هذا في حقيقة الأمر كتلة من صخر، أو أسمنت ليس فيه أية مشاعر، ولذلك قال بعض الأدباء - مع التجاوز عن بعض ما في هذه الكلمة-: \" من لم يطربه خرير المياه في الأنهار، وتغريد الأطيار، وحفيف الأشجار، فليبك على نفسه فإنه حمار أكرمكم الله منعدم المشاعر والأحاسيس.

إذاً العاطفة أصلاً هي جزء رئيسي من تكوين الإنسان، وفطرة وجبلة مما جبله الله - عز وجل - عليها.

 

الوجه الثاني:

أن العاطفة فريضة إسلاميةº ذلك أن الإيمان مهيمن، لا يقبل أنصاف الحلول، لا يقبل منك أن تنطق باللسان، وليس هذا في حد ذاته كافياً في وصف الإيمان، قد بين الله - جلا وعلا - في شأن أهل النفاق الذين يقولون آمنا بألسنتهم وأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، ولا يكتفي منك أيضاً بمجرد الامتثال بالحركات والأعمالº فإن ذلك قد كان دأب المنافقين أيضاً {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً}º فإن الإيمان شرطه أن يستولي على القلب، وأن يضرب أوتاده في أعماق النفس، ولا يرضى إلا أن يكون حاكماً على كل إحساس، وعلى كل شعور، وعلى كل خفقة قلب، وعلى كل خطرة قلب، وعلى كل خلجة نفس، لابد أن تحكم بهذا الإيمانº لأن الإيمان يغيّر الإنسان من داخله، فيغيّر مشاعره، ولذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: (إن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، فليس لك أن تحب كما شئت، أو أن تبغض كما شئت، أو أن توافق هوى نفسك، أو طبيعة ظرفك أو أسلوب تربيتك، بل إذا تغلغل الإيمان في قلبك وجّه هذه العواطف، ولذلك قال - سبحانه وتعالى -: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين أمنوا أشد حبا لله}، فهذا الحب المرتبط بالله - عز وجل -، والمحبة المتصلة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحبة الأخوة الإيمانية بين أهل الإسلام كلها أمور إسلامية إيمانية من أخص خصائص هذا الدين، ومن أعظم أركان هذا الإيمان، لا يمكن أن نتصور إيماناً أو إسلاماً بدونها، أو بدون تحققها الكامل.

ولذلك يعلم العبد المؤمن أن هذه الحقيقة ينبغي أن لا تغيب عن باله مطلقاً، ونصوص الكتاب والسنة في أمر المحبة لله - عز وجل -، والمحبة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - كثيرة في هذا الباب، ليس هذا مقام الاستطراد في ذكرها وسردها، وإذا عرفنا أن العاطفة في أصلها فطرة بشرية، وفريضة إسلامية، فلنذكر الآثار الإيجابية للعواطف ليس على سبيل التفصيل في واقعات الأعيان وإنما في الجملة.

 

الآثار الإيجابية للعواطف:

1- قوة التأثير: إن الكلمة وحدها مهما كان لها من شواهد وأدلة، ومهما كان لها من وصف وتنسيق، لا تؤدي قوتها ما لم يكن وراءها قلب متحرق، ونفس متحمسة، تشعر الإنسان بنبض هذه المشاعر في كل حرف من هذه الحروفº فإذا كانت الكلمة حماسيةº فإذا بها كأنها لهب يتفجر، وإذا كانت الكلمة وعظية كأنها غيث يصيب أرض جدباء فيحيها من جديد، ويورق منها ما اضمحل، أو ما كان قد غابت عنه مياه الحياة وصورهاº فإذا تأملت من بعض المواقف والعبر من سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - تجد هذه الصورة بيّنة واضحة، قد وصف - عليه الصلاة والسلام - أنه إذا خطب كأنه منذر جيش. يحمّر وجهه - عليه الصلاة والسلام - ويظهر أثر انفعاله بهذه الكلمات، وكما في حديث العرباض ابن سارية - رضي الله عنه - قال: (وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا...)

إذاً لم يكن تأثير تلك الكلمات بمجرد العلمº فإن كثيراً من العلم إذا فقد العاطفة، لا يؤدي أي تأثير، وإلا لكان اتصال الإنسان بالكتب كافياً في أن يقوّم سلوكه، وفي أن يوقظ حماسه وهمته نحو الخير والصلاح، وكذلك انظر إلى الموقف الذي كان في يوم حنين لما قسّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم بين مسلمة الفتح والمؤلفة قلوبهم، ولم يقسم للأنصار - رضوان الله عليهم - فوجدوا في نفوسهم موجدةº لذلك جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وقال: يا معشر الأنصار: ما مقالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟... ) و في آخر الحديث قال الراوي حتى اخضلت لحاهم بالدموع)، إذاً للكلمة سر، ينبثق من العاطفة التي وراءها في القلب الذي يخفق بمعانيها قبل أن ينطق اللسان بكلماتها وحروفها.

 

2- البذل والتضحية: إن من أعظم آثار العاطفة البذل والتضحية لمن خفق لك قلبه بالحبº فإن أحببت الله - عز وجل - وأحببت رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأحببت هذا الدينº فإنك تبذل وتضحي في سبيل هذا الذي أحببتهº ونحن نعلم أن العاطفة مشتركة، فإذا وجهتها وجهة صحيحة، نلت الأجر والخير، وتدفقت عاطفتك في مجالها الصحيح، وإلا فإن هذه العواطف أيضاً لها مسارب شيطانية، أو شهوانية، تسلك بها في غير ما أراد الله - عز وجل - لها، فاستمع على سبيل المثال إلى خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وهو يقول: \" ما ليلة تهدى إليّ فيها عروس أحب إلي من ليلة شديد بردها، أصبّح فيها العدو فأقاتلهم في سبيل الله - عز وجل - \". إذاً هذه المحبة دفعته إلى أن يجد لذته في ذلك البذل، وتلك التضحية، وتحقيق قول الله - عز وجل - {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}، إذاً هذا البذل هو الذي ظهر في حياة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذاك أنس بن النضر - رضي الله عنه - يقول: \" واهاً لريح الجنة إني لأجد ريحها دون أحد \". والصور في ذلك كثيرة، والصور غير الإيمانية أيضاً كثيرة، نقرأها في حياتنا وفي حياة البشرية عموماً، ألم نسمع عن المحبين الذين بدلوا إيمانهم، وتركوا وظائفهم، واستهانوا بجاههم كله من أجل من يحبون.

 

3- الرضا والقبول:

من كل ما يأتي من المحبوبº فإنك إن أحببت الله - سبحانه وتعالى - رضيت بقضائه وقدره، وإن أحببت الله - عز وجل -رضيت بأن تطيع أمره، وتجتنب نهيه، وإن أحببت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلت منه كل هدي وإرشاد، وإن أحببت إخوانك المسلمين أفسحت لهم في قلبك، وأعطيتهم من خلاصة مهجتك ومشاعرك ولطفك ولينك وسماحتك ورفقك، إذا تحقق ذلك قبلت منهم، ورضيت منهم ما قد يقع من تقصير، وأغضيت الطرف عن بعض هفواتهم، وتجاوزت عن بعض ما صدر من كلماتهم وغير ذلك من الأمور. واستمع إلى قصة يوسف - عليه السلام -عندما قال: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه}، لِما كان السجن محبوباً.. وهو الذي يقيد الحرية، ولا تقبل به النفس البشرية؟ لأن فيه العصمة عن ما حرم الله - عز وجل -، ولأن فيه المهرب من المعاصي إلى الطاعات، ومن الخلطة الفاسدة إلى الخلوة الصالحة مع الله - سبحانه وتعالى -، لمّا كان الأمر كذلك قال: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه}.

 

4- الصبر والثبات:

فكم تجد من تغلل الحب في قلبه، عنده من الصبر والثبات على أمره على ما أحب من دينه وإيمانه، ما لا يمكن أن يتنازل عنه، أو أن ينكص على عقبيه، أو أن يرتدّ على أدباره بعد أن ذاق محبة الإيمان 0 وعرف حلاوة الإسلام، وارتبط بإخوة الإيمان، ولذلك كان بلال وكان خباب، وكان أولئك القوم يلقون ما يلقون، لا يصدهم ذلك عن دين الله، ولو لم يكن لهم ذلك التعلق القلبي لما ثبتوا، ولما كانت لهم هذه الصور من الصبر الجميل، ثبتهم الله - عز وجل - به، لأن القناعة الفكرية لا تكفي، قد تكون مقتنع بأمر ما فكرياً، لكنك إذا ضُيقت أو اضطهدت في سبيله من الممكن أن تغير فكرتك، أو أن تتنازل عنها، أو أن تساوم فيها، لكن إذا خلصت الفكرة من العقل إلى القلب، وامتزجت بالمشاعرº فإنه من الصعب أن يكو

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply