الاجتهادات الدعوية وسطوة التناغم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

التناغم كلمة شاعرية ومفهوم أصيل وفعل حضاري في أصله ومقصده إذا كان تناغماً في الخير والنافع المفيد، إلا أنه إذا كان تناغماً في الشر أو الخطأ، أو سيطر وهيمن على الوعي ومورس بغلو وزاد عن حده الطبيعي المطلوب ولو كان في الخيرº تعارض مع مفهوم الإحسان في العمل وإتقانه وتحول إلى عائق يمنع الرؤية الصحيحة للأشياء (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) [سورة ص: آية5]، واستغراب الممكن: (أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب) [سورة هود: آية73)، بل ويمنع التفطن للخطأ (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) [سورة الأعراف: سورة 82].

كما أن الإفراط في التناغم الخيّر يكرِّس التبعية ويجذِّر الدعة والخمول ويتسبب في الرتابة والكمون والروتين فيحول دون التطور والارتقاء والإبداع في عموم الأحوال والظروفº فما بالك بزمن تجاوزت فيه قوة رياح التغيير درجة رياح الأعاصير، فجددت النوازل وأوجدت التحديات التي لم تعهد من ذي قبل!

والتناغم في الدعوة إلى الله - تعالى -كغيرها من الأعمال أمر مطلوب من حيث الأصل وفي الجملة كما مرّ التنويه عليه آنفاً، لكنه قد يتحوّل إلى عائق يخيم بثقله على الأداء والفعل الدعوي ولا سيما والدعوة تتعامل مع واقع وبيئات معاصرة تعصف بها رياح التغيير والتي وضعت أمامها أصناف العراقيل والتحديات.

 

ما المقصود بسطوة التناغم:

إنه فعل يقع ويحدث عند توحد زوايا النظر، و عندما تضيق دوائر الاهتمام، وتحصر الأحكام، ويُحجّر الواسع، ويُصادر على المُخالِف، وعندما يُشجّع الموافِق، ويُطرب للمادح، ويُقرّب من اعتاد وأحسن هزّ الرأس وإن لم يقتنع، أو اعتمد التلقين وسيلة للتعلم ولو بدون فهم، ويُصفّق لمن أكمل الفراغ بالمتوقع، وعندما نهتز طرباً لمن كرّر المعهود، ونحسن الاستماع لما يعجبنا من الأقوال ونُعرض ونمتعض لما لا يروق لنا منها، ولسان حالنا في كل ذلك يقول: طوبى لمن قولب و سلّم للشيخ أو الجماعة وللفكر علّب ولم يقلّب.

وكلما كان طالب العلم أو الداعية أقل تحزباً وأكثر تحرراً من قيود المجاملة للآخرين، وأكثر جرأة على تجاوز الحدود والأطر الاجتهادية البشرية، كلما كان أكثر إبداعاً في العطاء، وهذا قد يعلل إبداعات بعض طلبة العلم والدعاة المعاصرين في أسلوب طرحهم ومعالجتهم للأمور، وحسن تخيرهم للموضوعات وعنونتها بما يهز الوجدان ويجذب العقول ويؤثر في القلوبº فاستجاب الكثيرون واهتدوا إلى سبيل الحق، لوصول الرسالة وانسجام المعاني القصدية، والتقائها مع المعاني الإدراكية فأدرك المستمع ما أراد المتكلم.

وكلما ازداد التحزب والإعجاب بالذات كلما ازدادت فرصة الإفراط في التناغم وقوة سطوته، حتى يتحول أحياناً إلى سيفٍ, مُسلطٍ, يُشاح به في وجه المخالف من صفوف الأتباع تحت مسميات عديدة تحتمي بالعاطفة أحياناً وتتذرع بالمنطق أخرى مما قد يكون كلمة حق أريد بها خطأً حماية التناغم نحو: أتريد تفريق الكلمة؟ أو هل نحن أفضل من قادتنا ومن سبقنا؟ أتريد أن تأتي بما لم يأت به الأوائل؟ ألا يسعك ما وسع غيرك؟ هل هذا وقت النقد والأعداء يتكالبون علينا؟ أو نحو قول القائل: إن الخلاف شرُّ، والخير كل الخير في الوحدة والرأي الواحد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.

وهذا السلوك السلبي المذكور يزيد بدوره التحزب ترسيخاً. فالتحزب داء عضال يؤدي إلى التناغم المفرط الذي يتحول بدوره إلى عامل يغذيهº فبين التحزب والتناغم المفرط تأثر وتأثير متبادل مما يزيد الأمر تعقيدا، بحيث يصعب على المتحزب التخلص من سطوة التناغم وتعدي مساره والخروج عن إطاره مهما حاول صاحبه وبذل من الجهد. ويزداد الأمر سوءًا مع المجاملة الأدبية وتعارض وتشاكل بعض القيم عند من أراد التخلص من سطوة التناغم لاصطدامه مع احترام الشيخ والأستاذ وسائر المحبين من الذين يتآلف معهم وتجمعه وإياهم المصالح والأهداف المشتركة.

 

وكثيراً ما يعلل هذا السلوك أي التناغم المفرط بمفهوم سيطر على التفكير الدعوي عهوداً وعقوداً من الزمن، ألا وهو المحافظة على وحدة الصف، والخوف عليه من التشتت، والأمر يبدو معكوساً عند التأملº فما تشتت الصف وتفرق الكلمة إلا نتيجة السلطوية في الآراء والأحادية في النظرة والمواقف.

ومن أسباب سطوة التناغم -بالإضافة إلى ما سبق- ألفة الأشياء واعتياد المتكرر واستمراء السير على خطا الغير، وانشراح الصدر للروتين وللقديم المعهود من آليات العمل والتنفيذ.

ومن أسبابه أيضاً الحذر من الجديد، و الخوف من التغيير وهو عامل نفسي قهري.

وكان من نتائج سطوة التناغم في الآراء والاجتهادات الدعوية استمرار العمل الدعوي بآليات ومفاهيم ومفردات ووسائل وضعت منذ عقود تكاد أن تصل قرناً من الزمان للتعامل مع واقع جديد مغاير لذلك القديم من حيث التحديات والوقائع والظروف والواجبات وهو أمر عجيب حقاً ويبعث على الدهشة.

يقال: بضدها تتميز الأشياءº فعكس التناغم الاختلاف والتنوع، فلولا التنوع لما تعددت الآراء السائغة، ولما اختلفت مذاهب الفقه ولا مدارس اللغة ولا مناهج المفسرين ولا أدلة استنباط الأحكام، ولا تفاوتت الأحكام على الأحاديث ومقاييس نقدها، ولما خالف تلميذ أستاذه ولا قرين من أهل العلم قرينهº ولما اكتظت المكتبة الإسلامية بالأسفار والمجلدات النافعة التي أفادت منها الأجيال المتعاقبة ونهلت من رحيق عطائها على مرّ الأزمان، ولولا التنوع ما كان راجح ومرجوح، ولبطلت معظم الأعمال العلمية والرسائل الجامعية. إنه اختلاف العقول والمدارك وتباين زوايا النظر ودوائر الاهتمام ومناطق التركيز.

فما الحل إذاً؟

إنها الدعوة إلى التنوع المتناغم، والاختلاف مع الانسجام والتوحد. إنها الإنطلاقة والدعوة إلى التغيير والتطور والحث على الإبداع وتعليم مهاراته للنشء المسلم المعاصر، وتربية الأجيال الجديدة من الدعاة على أن تبدي رأيها بحرية وأن تتطلع وتعمل للتطوير والتحسين المستمر. وهو أمر لا يتم إلا بالتشجيع وتغيير الكثير من سلوكيات الدعاة وخاصة أصحاب الريادة والقيادة منهم وأهل الحل والعقد في ساحات العمل والعطاء. ومن أهم تلك السلوكيات التسامح مع من يخالفنا الرأي إذا كان رأيه سائغاً، والصبر على تعدد الرؤى، وإتاحة المجال لقبول التغيير وحفز الهمم على صعود القمم. كما لا يتم إلا بتوسيع الإدراك وتجاوز صور الأسر من العوائق الذهنية والعاطفية والاجتماعية والبيئية والثقافية المختلفة وهو أمر له مهاراته التي يجب تعلمها وتعليمها ونشرها في المجتمع عبر مؤسساته الثقافية والتعليمية كافة. عندئذٍ, فلنبشر بمستقبل أفضل وأكثر إشراقاً ونجاحاً لاجتهاداتنا الدعوية.

 

 

  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply