بسم الله الرحمن الرحيم
قدم الصيف بحره وتعبه، وأخذت الأسر في الاستعداد والتخطيط لقضاء عطلة الصيف كلها أو بعضها في مصايف خارج البلاد أو داخلها، وصار الحديث عن ذلك يشغل أوقات الأسر من والدين وأولاد أكثر من انشغالهم بالاختبارات التي أصبحت على الأبواب.
وقد جرت العادة أن يتحدث الخطباء والوعاظ في المساجد في هذه المسألة، وتقام المحاضرات من أجلها، ويكتب الكتاب في الصحف والمجلات موضوعات مختلفة تتناول هذه القضية، وأخذ فريق من الناس يستفتي عن حكم السفر إلى بلاد الكفار لقضاء الإجازة هنالك. وبما أن الفضائيات قد انتشرت بين الناس انتشار النار في الهشيم فقد تبع ذلك انتشار فتاوى متعددة في هذه القضية، فبعض العلماء يرى حرمة السفر إلى بلاد الكفار، ويستدل على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أنا برئ من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين))، وبأمثال هذه الأدلة الشريفة التي تدل على تحريم الإقامة ببلاد الكفار بغير عذر، وقد رد فريق آخر من العلماء بأن السفر جائز إلى بلاد الكفار، وما جاء في الأحاديث إنما هو تحريم الإقامة الدائمة، والمسافر إنما هو عابر لا غير وليس هو بمقيم.
لكني أرى أن المسألة أعظم من أن تكون منحصرة في كونها حراماً أو حلالاً فقط، حتى تختلف فيها أقوال العلماء، ويكون لكل عالم أتباعه في مذهبه الذي ذهب إليه، كلا إنه ينبغي أن ننظر إلى قضية السفر إلى بلاد الكفار نظراً فاحصاً متعمقاً طويلاً، فإنا إن تفكّرنا في هذه المسألة تبرز لنا عدة مفاسد عظيمة ترجح ترجيحاً قاطعاً تحريم السفر بغير ضرورة إلى البلاد الكافرة، فمن هذه المفاسد الظاهرة:
- الأثر السيئ المنطبع في نفوس الأهل والأولاد:
إن الذاهب إلى بلاد الكفار بأهله وأولاده إنما يعرضهم لفتنة عظيمة جداً، وذلك من نواحٍ, عدة، فمن ذلك: رؤية الكافرين وهم منطلقون كالبهائم بلا رابط من عقل أو دين أو حياء، فهذا يقبّل هذه، وآخران يتعانقان، وآخران في وضع مخز جداً، وهكذا.
ولقد رأيت من هذه المخازي وقت دراستي في إيطاليا الشيء العجيب إلى الغاية، فكيف يذهب الوالد بأولاده ليروا مثل هذا الأمر، أعوذ بالله، ألا يخشى هذا الوالد من تأثر أولاده بما يرون، ألا يخشى من تطبيق أولاده ما يرونه؟ ألا يخشى من أمر أعظم وأخطر ألا وهو محبة أهله وأولاده لهذا الوجه المخزي من العيش والاختلاط؟
- ومن المفاسد العظيمة أيضاً المقارنة بين طريقة حياتنا وطريقة حياتهم الاجتماعية إن من المفاسد العظيمة للسفر إلى بلاد الكفار أن يقارن الرجل وأهله بين طريقة حياتهم وطريقة حياة الكافرين الاجتماعية فيعجبوا بها، ويتعدى هذا الإعجاب إلى ازدراء طريقة حياة قومهم والتبرم منها والتضجر، فيرجعوا إلى بلادهم معاول هدم وتدمير.
والمقصود بطريقة حياة الكافرين الاجتماعية الناحية السلبية من تلك الحياة، وذلك نحو اختلاط الرجال بالنساء اختلاطاً مخزياً معيباً، وعدم الأخذ بالآداب العامة، والاستهانة بها، والإخلاد إلى الحياة الدنيا ومحبتها والتعلق بها، وتقديم الماديات على الروحانيات، بل عدم التصديق بما وراء هذه الحياة الدنيا، إذ أن أكثر الكافرين شاك في دينه ولو ادعى أنه نصراني أو يهودي، نسأل الله السلامة، هذه بعض سلبيات الحياة الاجتماعية عندهم - وسيأتي الحديث عن بعض الإيجابيات - ومن مفاسد هذه المقارنة أيضاً أن يعمد الشباب والشابات إلى التشبه بالكافرين والكافرات، فيلبسوا أزياءهم الخاصة بهم، فإذا وضعوا صوراً عليها وضع شبابنا تلك الصور، وإذا كتبوا عليها شيئاً كتب شبابنا وشاباتنا الشيء نفسه وهم في أكثر الحالات لا يفهمون ما يكتبونه لكنه التقليد الأعمى العجيب، وحدّث ما شئت عن تقليدهم مشية الكافرين وتخنثهم وتكسّرهم ورقتهم.
وليتنا إذ تشبهتا بهم هذه التشبه اكتسبنا ما القوم عليه من بعض الطرائق الاجتماعية الحميدة، من حسن إدارة أعمالهم وتخليصها من التعقيدات المختلفة، وسهولة حل المشكلات المختلفة، ليتنا اكتسبنا هذا منهم لكننا لم نفعل، والذي حصل باختصار هو أننا تشبهنا بالكافرين في لهوهم ومجونهم وتركنا التشبه بهم في جدهم وعزمهم وحرصهم على العمل والارتقاء في النواحي الحياتية المختلفة.
- ومن المفاسد تضييع أموال المسلمين:
إن السفر إلى بلاد الكافرين يعود على الاقتصاد الإسلامي بأقبح الأثر، وذلك لأن الأموال التي تصرف هنالك أموال ضخمة هائلة تقدر بمئات البلايين من الريالات كل سنة، وذلك ما يصرفه المسلمون مجتمعين في بلاد الكافرين على شهواتهم وملاذهم، ناهيك عن عشرات الآلاف من صفقات العقار وغيرها التي تجري كل سنة في بلادهم، وهذا يؤدي إلى إضعاف الاقتصاد الإسلامي وتقوية اقتصاد الكافرين، وإنعاشه، وكثير منه يصب في مصلحة اليهود كما وردت بذلك تقارير مؤكدة لا تخفى على كل متابع مهتم.
وليتخيل المرء أن هذه الأموال الكثيرة صبت في بلاد المسلمين، وأن هذه الصفقات الضخمة عقدت بين مسلمين كم سيختلف الحال عما هو عليه الآن، وكم سينعش العالم الإسلامي ويرتقي ويسعد أهله؟ !
إن العالم الإسلامي مليء بالمناظر الطبيعية الخلابة الآسرة، والمصايف الجميلة المعتدلة الهواء فلماذا يُعدل عنها إلى بلاد الكافرين ليفتن المرء في دينه وعقله؟ !
وقد يحتج البعض بأن العالم أصبح كله كالمدينة الواحدة، والتأثر حاصل حاصل، وأقول: إن العاقل من يقلل المفاسد ويزيد المصالح، ويسعى بكل جهده لرفعة دينه وارتقاء أمته ولا يلتفت إلى مثل هذا الكلام المثبط.
وبعض الناس يحتج لذهابه إلى بلاد الكفار بأن وسائل الإعلام قد دخلت إلى بيوت المسلمين ورأوا فيها حياة الكافرين، وأقول: بئس الاحتجاج هذا إذ كيف يسمح الرجل المسلم العاقل لنفسه أن يشاهد أولاده وأهله الكافرين وفسادهم سواء في بلاده أو خارج بلاده؟ ! والعاقل هو الذي يبتعد عن مثل هذه الاحتجاجات ويوطد العزم ألا يذهب إلى بلاد الكفار بغير ضرورة مهما كان الأمر، والله الموفق.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد