بسم الله الرحمن الرحيم
لا يخفى على مسلم ما للمسجد من دور في حياة المؤمنº فهو المدرسة الأولى التي تخـرَّج فيها الصحابة - رضي الله عنهم -. فكـان لهـم كبير الأثر في جميع المجالات العلمية والدعوية والقضائية والأدبية وغيرهاº ذلك أن المسجد أدى دوره وقام برسالته التي جاء من أجلهاº فلم يكن في عهود الإسلام الأولـى دار صـلاة فحسـب، بـل كـان مـع ذلـك دار اجتماع لكـل المسلمـين، ومـركزاً لإرسال السرايا والجيوش، ومنه ينطلــق الدعـاة إلى اللـه يجـوبون الأرض يعلِّـمون النـاس الخير.
وفـي هـذا المقـام أود التـذكيـر بـرسالة المسجد، وإحياء هـذه الـرسـالـة التـي كــادت أن تـمــوت، ولا سيما أننا في وقـت يحـارب فـيـه المسـلــم بوسـائل مختلفة، وأساليب متعددة.
وهـذه بضـع عشـرة وسيـلـة استخلصـتها من هدي الإسـلام وقـواعـده العـامـة، نستطــيـع من خلالها معاً أن نفعّل دور المسـجـد ونحـيـي شيئـاً مـن رسالـتهº فـإن غيـاب هـذا الــدور، واندراس تـلـك الـرسـالـة، مــن أسبـاب تعـرض المسلـم للانجـراف وراء التيـارات المنحرفة المفسدة المشبوهة، التي تستهــدف تضليــل الناشـئة بالـدرجة الأولـى، وإبعـادهم عن دينهـم وإغـراقهم فـي أوحــال الـرذيلة مستخـدمة فـي ذلك شتـى الوسائـل من دور سينمـا ووسائل إعلام وشبكات اتصال.
وسائل تفعيل إحياء رسالة المسجد:
* الوسيلة الأولى: عقد الدروس الشرعية والدورات العلمية:
وذلك بواسطة العلماء وطلاب العلم في شتى صنوف العلوم الـشرعية مـن عقـيدة وفـقه وحـديث وتفسـير وغيـرها، وذلك بين الفيـنة والأخرى، لا سـيما في مـواسـم العُـطَل والإجازات. ومما يدل على أن المسجد كان مهد مثل هذه الدروس العلمية قصة أبي هـريرة - رضي الله عنه - حين مر بسوق المدينة، فوقف علـيها، فـقال: «يا أهـل السـوق! ما أعـجزكم! قالوا: وما ذاك يا أبـا هـريرة؟ قـال: ذاك مـيـراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقـسم وأنـتم هـا هـنا! ألا تـذهبون فتأخذوا نصيبكم منه! قـالوا: وأيـن هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سراعاً، ووقف أبـو هـريـرة لهم حـتى رجـعوا، فـقال لـهم: ما لكم؟ فـقالـوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نرَ فيه شيئاً يُقسَم. فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى! رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام. فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم -»(1).
ولهذا كان الواحد من السلف، إذا أراد أن يطلب العلم، توجه أول ما يتوجه إلى بيت اللهº فعن صفوان بن عسال المرادي ـ - رضي الله عنه - ـ قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم، فقال: مرحباً بطالب العلم، إن طالب العلم تحفّه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا، من محبتهم لما يطلب»(1).
وقد ألمح - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك حين قال: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله»(2) والشاهد من الحديث قوله: «في بيت من بيوت الله» وذلك لأن الغالب في حلقات القرآن وفي دروس العلم أن تكون في بيوت الله(3).
ومن أولى أولويات الدروس العلمية: حلقات تحفيظ القرآن الكريم للناشئةº فما زالت مساجد المسلمين عامرة منذ القديم بمثل تلك الحلقات التي يتخرج فيها حفظة كتاب الله، وهناك بعض المساجد تجعل حلقات التحفيظ في مدرسة أو دار خاصة بالتحفيظ مستقلة عن المسجد، مستقلة عنه حسب الظروف.
* الوسيلة الثانية: إلقاء المحاضرات والندوات:
والمقصود بذلك المحاضرات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم، وهذه تختلف عما سبق من حيث إنهـا لا تـركـز على شـريـحة معـينة من المجـتمع كطلبة العلم، بل تتوجه إلى عموم الناس: المتعلم وغير المتعلم، من النساء والرجال، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير»(4)، وإن من أهم المواضيع العامة التي يحتاجها الناس كلهم بيان أركان الدين الخمسة، وأعظمها الصلاة، وحث الناس على أدائها في جماعة، خصوصاً فريضة الفجرº فما بنيت المساجد إلا للصلاة وذِكر الله. ومن المواضيع المناسبة في هذا الموطن ما يتعلق بالأسرة والبيت وتربية النشء ومسائل النكاح والطلاق والمشاكل الاجتماعية والأسرية التي تعاني منها كثير من بيوت المسلمين.
* الوسيلة الثالثة: إلقاء بعض الكلمات والمواعظ الموجزة:
يتـم إلـقـاؤها بـين فيـنة وأخـرى يسـتـفيد منـها جمــيع روّاد المسجد خاصة أهل الحي، على أن يُرَاعى في ذلك كله الأوقات المنـاسبة حتى لا يملّ الناس، وهكذا كان هديه - صلى الله عليه وسلم -º فقد قال عبد الله بن مسعود ـ - رضي الله عنه - ـ: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا»(5)º هذا وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس موعظة، وهؤلاء هم الصحابة أحب العالمين للموعظة. وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - يذكّر الناس كل خميس اتباعاً لهدي النبي الكريم. والمهم في هذا الأمر عدم إملال الناس وتنفيرهم، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوالº فقد يكون التذكير يوماً بعد يوم، أو يوماً بعد يومين، وقد يكون أسبوعياً، والضابط في ذلك كله هو الحاجة مع وجود النشاط(6).
* الوسيلة الرابعة: إنكار المخالفات الشرعية نصحاً لعامة المسلمين:
وذلك عند وقوع أحد منهم في مخالفة داخل المسجد، وقد جاءت السنَّة بالنهي عن أمور تتعلق بالمساجد كالبيع والشراء فيها(7)، ونشدان الضالة(8)، ورفع الأصوات(9)º ونحو ذلك. ولعلِّي أضرب مثالاً واحداً لإحدى المخالفات التي أعتقد أنها منتشرة وقلّ أن يخلو منها مسجد، تلك هي المرور بين يدي المصلي، والمرء يعجب أشد العجب من تهاون الناس في هذا الأمرº فالمار لا يبالي كثيراً بأخيه المصلي، بل لا يبالي بإخوانه المصلين، فتجده يقطع صفوف المصلين واحداً تلو الآخر وكأنه لم يقع في محرم بَلهَ كبيرة من كبائر الذنوب(10). ومن جانب آخر تجد المصلين أنفسهم يتساهلون في عدم دفع هذا المار بين أيديهم وكأن الإثم يقع على المار فحسب، والأشد عجباً هو تخلي جمهرة المسلمين ـ خصوصاً أئمة المساجد ـ عن القيام بواجبهم في النصح والإرشاد لهذا الأمر المتكرر يومياً، وللأسف فإن المسجد الحرام أخذ النصيب الأوفر من الوقوع في هذه المخالفة الشرعية، بحجة أن بعض العلماء أجاز ذلك عند الضرورة كالزحام الشديد، ولكن الناظر لحال الناس هنالك يرى عدم التفات الناس إلى تلك الضرورة أو الحاجة، بل أصبح الأمر عادياً حتى إن البعض يمر بين يدي المصلين ذهاباً وإياباً دون أي مبالاة. هذا مثال واحد من المخالفات في بيوت الله - جل وعلا -، وإذا كان نشدان الضالة وإشهار السلاح ونحوها، يندر أن تقع في المساجد اليومº فهناك ما هو أشد منها كإصدار النغمات الموسيقية أو الأغاني عبر الهواتف المحمولة وغيرها من الأمور التي تحرم في كل مكان فضلاً عن المساجد والتي هي أحب البقاع إلى الله.
* الوسيلة الخامسة: إماتة البدع وإحياء السنن:
يجب التعاون على إماتة البدع والخرافات من المسجد إن وُجدت، ثم إحياء السنن التي أُميتت وما أكثرها! والبدع هي من المخالفات التي ينبغي القيام بالنصيحة عند حدوثها(11)، ولكني أفردتُ البدع عن سائر المخالفات لفداحة الآثار المترتبة على ارتكابها مقارنة بالمخالفات التي تم الإشارة إلى بعضهاº فالبدعة أحـب إلى إبلـيس من المعصيةº لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها كما قال سفيان الثوري - رحمه الله -، ولست بحاجة لأن أعـدّد البـدع، بـل الشـركـيات المتفشية في مساجد المسلمين ودور عبادتهمº فمن أخطر البدع ـ وهذا على سبيل المثال لا الحصر ـ التي لا تزال للأسف موجودة في مساجد المسلمين دفن الأموات ـ لا سيما من يُعتقَد فيه الصلاح والخير ـ إما في قبلة المسجد، وهذا أشنعها، أو في طرف منه، أو في صحنه، أو حتى في فنائه، وكذلك العكس أي إقامة المسجد وبنائه على قـبر، ولـم يكـن هذا تعامل السلف الصالح مع القبور إطلاقاً، بل إن الذي أحدث المشاهد، وعظّم القبور في ملة الإسلام هم المبتدعة(12). ومما يدل على خطورة هذا الأمر أن التحذير من الوقوع فيه كانت آخر وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(13).
وإن مما يندى له جبين المؤمن تلك الإحصائيات المروّعة، حول انتشار هذه البدعة في مساجد المسلمين حول العالم(14)º وهذا يحتم علينا جميعاً التكاتف في تحذير الناس منها، والرفع إلى من يهمه الأمر بخطر مثل هذه البدع المفضية ولا شك إلى الشرك الأكبر، هذا مثال واحد من أعظم البدع ناهيك عند البدع الأخرى التي تكثر في المساجد وبدع الاحتفالات بالمناسبات الحولية، مثل الاحتفال بالمولد النبوي، أو الاحتفال بليلة النصف من شعبان، أو غيرها من المناسبات، وكذلك البدع المتعلقة بالأذان وبالأذكار دبر الصلوات، وكلها مما ينبغي التعاون على إزالته، فوالله لو لم نجنِ من تفعيل دور المسجد إلا تطهير بيوت الله من مثل هذه الخزعبلات لكفى. ولا ينبغي تهوين مثل هذه الأمور والنظر إليها بعين التساهل لعلاقتها الوثيقة بجناب التوحيد والذي بسلامته ينجو الإنسان من النار ويدخل الجنة، نسأل الله من فضله.
وبعد إماتة البدع(15) ينبـغي العـمل على إحياء السنن الخاصة بالمساجد، وهي كثيرة، وإنما تُرِكَت لتعلق الناس بالبدع، وينبغي التدرج في إحياء السنن في المسجد وتقديم الأهم فالمهم، حتى لا ينفر الناس من السنَّة أو ينكروهاº فالسنن المتـعلقة بصـفة الصـلاة وتسـوية الصـفوف مثلاً تُقدّم على سنن الدخول إلى المسجد والخروج منه، وهذا الأمر يحتاج إلى فـقه المقـاصـد وفـقه المصـالح والمفاسد، ومن لم يكن ذا مَكِنَة فلا يتجشم عناء التغيير، فقد يُفسِد أكثر مما يُصلِح.
* الوسيلة السادسة: جمع التبرعات والصدقات للمحتاجين في الأرض المحتلة:
والمقصود هو الدعم المالي المتواصل للمحتاجين من الأسر الفقيرة القاطنة بالحي، ولدعم المشاريع الخيرية أو لقضايا المسلمين في الخارج، وكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعوة إلى الدعـم المالي للكيان المسلم في المسجد، كما في دعوته للإنفاق في غـزوة تـبوك(16)، ودعـوته للتـبرع حـين جـاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار(17)، وكان إذا جاءه مال الغنيمة، أو الفيء، نثره فـي المسـجد يقسـمه بـين النـاس، وبوّّب على ذلك الإمام البخاري فقال: باب القسمة وتعليق القِنوِ في المسجد(18)، قال ابن رجب: «المقصود بهذا الباب: أن المسجد يجوز أن يوضع فيه أموال الفيء، وخُمس الغنيمة، وأموال الصدقة، ونحوها من أمـوال الله الـتي تقـسم بـين مستـحقـيها»(19)، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يأخذون صدقاتهم إلى المسجد لعلهم يجدون مـن يأخذها منهم من فقراء المسلمين كما في قصة يزيد بن الأخنس - رضي الله عنه - حين أخذ صدقته إلى المسجد ليتصدق بها(20). وجاء في وصف سبعين من خيار الصحابة أنهم كانوا يشترون طعاماً لأهل الصٌّفَّة القاطنين بالمسجد(21)، وقـال يـزيـد بـن أبـي حبيـب: كان مرثد بن أبي عبد الله اليزني ـ ويكنـى بأبي الخير ـ أول أهـل مــصر يـروح إلى المـسجـد، وما رأيته داخلاً المسجد قط، إلا وفي كُمِّه صدقة: إما فلوس، وإما خبز، وإما قمح يتصدق به(22). فهذه نماذج تدل على مكانة المسجد، ودوره في تدعيم الجانب الاقتصادي للمسلمين، وأن الصدقات والتبرعات وما شابهها كانت تنطلق منه(23).
ولعل ما يمر به العمل الخيري من تضييق الخناق عليه، ومن حملات مسعورة تدعو لإيقافه، محفز لنا لإحياء دور المسجد في هذا الجانب، وتفعيل ذلك الدور ولو على المستوى الفردي، وإني على يقين جازم أنه لو اعتنى كل مسجد بهذا الجانب، وقام بأداء رسالته كما كانت في العهد الأول، مع شيء من التنظيم والترتيب الذي يتطلبه مثل هذا العمل، من حيث التوزيع الدقيق للمستحقين، وصرف الصدقات في أبواب البر التي يحتاجها المجتمع، وقبل ذلك وبعده الإخلاص لله في ذلك، لانتفع كثير من المحتاجين، وسُدّت أفواه، وأُشبعت بطون.
* الوسيلة السابعة: بناء المساجد وتشييدها:
والنصوص الدالة على فضل بناء المساجد كثيرة، من أشهرها حديث عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من بنى مسجداً لله يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة»(24)، وفي رواية «بنى الله له مثله في الجنة». وإن التوسع العمراني في المدن من أهم الدواعي في الإكثار من بناء المساجد وتشييدها، فينبغي حث أهل الغنى والجِدَة على بناء المساجد خصوصاً في المناطق النائية، أو المجمعات السكنية التي يقطنها أعداد كبيرة من المسلمين، وكذلك الشركات التجارية الضخمة، التي يرتادها مئات الموظفين يومياً.
ومن أهم المحاذير المتعلقة بتشييد المساجد والتي ينبغي الحذر منها: الإسراف والتبذير في البناء ومتعلقاته، ومن أبرز مظاهر التبذير التي قلّ أن يخلو منها مسجد: الزخرفة والتزيينº فإن ذلك فضلاً عن أنه منهي عنه(25)º ففيه من الإسراف والتـبذير الشـيء الكثـير، بل فيـه إضاعة لأموال المسلمين فيما لا فائدة فيه، وقد نُهِينا عن إضاعة المال(26) بالإضافة إلى إشغال المصلي عن صلاته التي هي سبب وجود المسجد، والأَولى صرف مثل هذه الأموال في ما يتطلبه المسجد من حاجات بعد البناء كترميمه، أو تنظيفه، أو نحو ذلك.
* الوسيلة الثامنة: عمارة المسجد الحسّية:
لا شك أن الاهتمام بعمارة المسجد الحِسِّية من شعائر الله التي أمرنا بتعظيمها. قال الله - تعالى -: {فِي بُيُوتٍ, أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ} [النور: 36]، قال قتادة: هي هذه المساجد أمر اللّه - سبحانه وتعالى - ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها(27). وفسر مجاهد رفعها ببنائها(28): فيدخل في رفعها، بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسات والأذى(29).
ومما يدخل في الاهتمام بالعمارة الحسية للمساجد العناية بتنظيفها وتطييبها بين فينة وأخرىº إذ المساجد هي أحب البـقاع إلى الله - جل وعلا -(30)º فـهي أولى بالتنظيف والرعاية من غيرها. قالت عائشة - رضي الله عنها -: «أمرنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ببـناء المسـاجـد فـي الـدور، وأن تنظّف وتطيّب»(31)، وبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن التفل في المسجد خطيئة وأن كفارتها دفنها(32). ومن ذلك أيضاً أن لا يأتيها الإنسان وهو متلبس برائحة كريهة تصدر من جسمه أو ثوبه أو فمه تتأذى بها ملائكة الرحمن، ويتأذى إخوانه المصلونº ففي الحديث: «من أكل من هذه الشجرة ـ يعني الثوم ـ فلا يأتينّ المساجد»(33)، وبيّن في حديث آخر علة هذا النهي المتمثلة في إيذاء الملائكة وبني آدم من هذه الروائح(34). والأحاديث والآثار الواردة في الأمر بتنظيف المساجد وتطييبها كثيرة، ويتأكد هذا الأمر في حال اجتماع الناس أوقات الصلاة، أو يوم الجمعة، أو في رمضان، ونحوها من المناسبات.
كما ينبغي توفير وسائل الراحة لرواد بيت الله كبرادات مياه الشرب، وأجهزة التكييف خصوصاً أثناء فترة الصيف في البلاد الحارة خاصة، وكذلك السخانات الكهربائية وأجهزة التدفئة في فترة الشتاء، وأدوات التنظيف والكنس الحديثة، وغيرها من نِعَم الله التي أنعم بها علينا، والتي لم تكن متوفرة إلى عهد قريب، بل ولا تزال كثير من مساجد الله خالية منهاº فقد كان الخدَم في سالف العهد، يُكلّفون بتنظيف المسجد، وكنسـه بأيـديـهم، وبـوّب الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب الخدَم للمسجد، وذكر حديث المرأة السوداء التي كانت تقمٌّ مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(35)، وفي بعض طرق الحديث أنها كانت تلتقط العيدان والخرق بيديها(36).
ولا يظنن ظان أننا نهمل عمارة المسجد المعنوية بذكرنا للعـمارة الحـسية، بـل إن الأمـر على النقيض من ذلكº فإن الله ـ - عز وجل - ـ جمع العمارتين في آية واحدة، فقال ـ - تعالى -ـ: {إنَّمَا يَعمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ...} [التوبة: 18] الآية.وما ذكرنا من وسائل لإحياء دَور المسجد هي صور للعمارة المعنوية للمسجد، ولذلك فإن المقصود من إفراد العمارة الحسية للمسجد بالذكر من باب كـونها سـبباً فـي تحصيل العمارة المعنوية التي اهتم بها الشارع الحكيم.
* الوسيلة التاسعة: العناية بمصلىات النساء:
ويشمله كل ما يشمل مصلى الرجال، مع مراعاة الفوارق الشرعيةº فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يهتم بشان النساء في المسجد، فأذن لهن في الحضور إلى المسجد، ونهى عن منعهن من ذلك(37)، مع إشارته إلى أن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد(38).
ومع إذن الشارع الحكيم للنساء بشهود جماعة المسلمين بالمسجد إلا أنه حدّ حدوداً لا ينبغي تجاوزها، ومن تلك الحدود منع النساء من حضورهن متزينات متعطرات، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «وليخرجن تَفِلات»(3)، وفصلهن عن صفوف الرجال درءاً لوقوع ما لا تحمد عواقبه، وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - تخصيص يوم للنساء يعظهن فيه ويذكِّرهن(39).
ومـما يـؤسـف له أن الكـثير مـن المسـاجد لا تعـطي مصـليات النـساء أهمية كبيرةº فمن المساجد ما لا يوجد فيه مكان خاص للنسـاء أصـلاً فضلاً عـن أن يُهـتم به، ومـن المساجد ما لا تعير مصـلى النساء اهتماماً، من حيث تنظيفه وتطييبه، بل تجده مهجوراً، وكأنه ليس تابعاً للمسجد، ومن مصليات النساء ما لا يُفتـح إلا أياماً محددة كالجمعة من الأسبوع أو رمضان من السنة فحسبº وكأن النساء لسن شقائق الرجال كما جاء في الحديث(40).
إنني أنصح القائمين على بيوت الله أن يعيدوا النظر في أحوال المصليات النسوية بالمساجد، وأن ينظروا ما تحتاجه تلك المصليات، حتى تقوم بدورها كجزء مهم من أجزاء المسجد، وإذا كان هذا الأمر مهمّاً في الماضي فهو أكثر أهمية في الحاضر مع اشتداد الهجمة على المرأة المسلمة وثوابتها.
* الوسيلة العاشرة: تعويد الصبيان على ارتياد المسجد:
لا سيما المميزين منهمº مع تعليمهم آداب المسجد، وكان الصبيان ـ المميِّز منهم وغير المميِّز ـ في عهد السلف يدخلون المسجد، وكل ما ورد من أحاديث في منع الصبيان من دخول المسـجد فـلا تصـح ويـردٌّها فعـل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة، ولا ينبغي تنفير الأولاد من بيوت الله بحجة أنهم مصدر إزعاج للمصلين، أو سبب لذهاب الخشوع في الصلاةº فهذه حجج واهية، وما وسع الصحابة ينبغي أن يسعنا، ومثل هذا الإزعاج إن صدر يمكن معالجته بأساليب صحيحة أخرى، غير الطرد من المسجد، فإن الطرد فيه مفاسد كثيرة، أولها بُغض الصبي للمسجد، ونفرته منه، لا سيما إذا كبر، وكفى بهذه مفسدة، والشـارع الحـكيم حـرص على ترغيبـهم فـي الصـلاة بالمسجد لا تنفيرهم منه، بالإضافة إلى أن تعويدهم الحضور للمسجد، فيه فوائد أخرى عدا أداء الصلاة، ومن ذلك رؤيتهم منظر التلاحم بين المسلمين بمختلف فئاتهم، ولمسهم معالم التآخي بين المصلين، فينشؤون على مثل هذه المفاهيم، وإذا حضروا الجمعة تعلموا أدب الإنصات وحُسن الاستماع، هذا إذا كانوا غير مميِّزين، أما المميِّز منهم فإنه لا شك سيستفيد مما يسمع من خطبة أو محاضرة، وسيتعلم الأحكام الشرعية، والآداب الإسلامية، والتي سينقلها إلى أهل بيته لاحقاًº فإن الاستجابة في الناشئة أسرع منها في الكبار(41)، وكما قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا * * * على ما كان عوّده أبوهُ
* الوسيلة الحادية عشرة: مكتبة المسجد:
إن إنشاء مكتبة للاستعارة والمطالعة بداخل المسجد تحت إشراف طلبة العلم المميزين، أو بجانبه، من مستلزمات إقامة الدروس العلمية، والدورات الشرعية، التي سبقت الإشارة إليها(42)، فلا شك أن طلبة العلم الذين يفترض حضورهم للمسجد، من أجل الدروس والمحاضرات، سيحتاج أكثرهم لشيء من الكتب والمراجع الموثوقة، ويحذر من كتب المبتدعة وأهل الضلال.
ـ ويجب تشجيع أهل المسجد ورواده على زيارة المكتبة، وحثهم على القراءةº إذ هي الغاية من وجود المكتبة.
ـ تحديد أوقات معلومة لفتح المكتبة وإغلاقها، ووضع نظام للاستعارة، وكذلك الإعلان عن كل مادة جديدة في المكتبة من كتب وأشرطة كاسيت وأقراص حاسوبية ونحوها.
* الوسيلة الثانية عشرة: تعيين أئمة وخطباء من أهل العلم والإصلاح:
إن كل ما ذكر من وسائل لتفعيل دور المسجد متوقف على طبيعة القائمين على بيوت الله، ويأتي في أولهم إمام المسجد وخطيبه، وكذلك مؤذنه، والأصل في هذه الوسيلة هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤمٌُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله.. »(43)، ففيه بيان أهمية هذه الولاية، وأنه ليس كل أحد أحق بها، وأكثر كتب الحديث وكتب الفقه تحدثت عن الإمامة والخطابة والأذان في أبواب خاصة، حيث يتم ذكر الصفات الواجب توفرها في كل من إمام المسجد، وخطيبه ومؤذنه، بل أُفرِدَ هذا الأمر بالتصنيف في كتب مستقلة لأهمية الدور المنوط بهؤلاء القائمين على بيوت الله. يقول الشيخ خير الدين وانلي: «ولا يمكن للمسجد أن يقاوم السينما والمدارس التبشيرية واللادينية إلا إذا كان المسئولون عنه ذوي مستوى عالٍ, من الثقافة الإسلامية والنخوة الإسلامية والوعي الإسلامي، وإلا إذا حرصت وزارات الأوقاف الإسلامية على العناية بإعداد هؤلاء المسؤولين وكلما كان المسؤولون عن المسجد محتسبين لوجه الله كانت الفائدة منهم أكبر»(44).
ولعل من الأساليب الحديثة في إعداد مسئولي المساجد، عقد الدورات التدريبية لهم خصوصاً للأئمة منهم بهدف تعليمهم ما قد يجهلونه من أحكام تخص المسجد وتنمية معارفهم، وهذا التثقيف والتحصيل من متطلبات الولاية التي تقلدوها، وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيهº إذ كيف نرجو قيام المسجد برسالته، وبدوره الفعال، والقائمون على المسجد من أجهل الناس، وأدناهم ثقافة ووعياً؟
ولعل من أحسن الأمثلة الدالة على الثمرة اليانعة من تطبيق هذه الوسيلة، ما ذكره الشيخ محمد لطفي الصباغ من قيامه في فترة شبابه أثناء دراسته النظامية بجامعة دمشق ـ الجامعة السورية قديماً ـ قيامه مع عدد من إخوانه الصالحين بإعادة مسجد الجامعة الذي حولته القوات الفرنسية إلى بار، ومن ثم إلى مستودع، أعادوه إلى ما كان عليه قبل دخول الفرنسيين(45)، ثم قاموا بتشكيل لجنة تُعنى بالمسجد وأموره، فنظموا البرامج التوعوية والأنشطة العلمية، في فترة عصيبة كانت بلاد الشام تعيش بين نارين: التيارات الفكرية المنحرفة والطرق الصوفية المبتدعة، فاستضافوا أهل العلم لإلقاء الكلمات والمحاضرات بالمسجد، كالشيخ مصطفى السباعي والشيخ مصطفى الزرقا(46)، وراسلوا العلماء للإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم، ولا سيما تلك التي تتعلق بالسنن والبدع، فراسلوا الشيخ الألباني للإجابة عن أسئلة الناس واستفساراتهم. يقول الألباني في مقدمة رسالته (الأجوبة النافعة عن أسئلة مسجد الجامعة) متحدثاً عن ذلك المسجد مثنياً على لجنته.
*الوسيلة الثالثة عشرة: تفعيل أمر الأوقاف:
مـن أهـم مزايـا الوقـف في الشـريعة الإسلامية أنه مستمر لا ينقطع ودائم لا يتوقف، وبهذا يتم الحفاظ على حياة الجهات التي أوقف عليها، وتاريخ الإسلام حافل منذ القدم على الوقف في وجوه البر المختلفة من مساجد ودور علم ومدارس ومستشفيات ورعاية أيتام وغيرها، حتى أصبح هناك ديوان في عصـر الأيوبيين والمماليك خاص لأوقاف المساجد(46)، وكان كـثير مـن الصـحابة والتـابعين من الحكام والمحكومين يحبسون ـ يوقفون ـ ما يقدرون عليه من أموالهم في سبيل الله، وإذا كان العلماء اختلفوا في مشروعية الوقف على أمور معينة فقد اتفقوا على مشروعية الوقف على المساجد ودور العبادة(47).
والواجب على أهل المسجد تفعيل دور الأوقاف كوسيلة لإحياء رسالة المسجد من ناحيتين:
الأولى: نشر ثقافة الوقف على المساجد، وما يتعلق بها من دروس علمية، وحلقات لتحفيظ القرآن، ومكتبات ونحوها، وتوعية الناس بها وحثهم على ذلك.
الثانية: العناية بأوقاف المساجد، والاهتمام بها، والحرص عليها من عبث العابثينº فإن الكثير من أوقاف المساجد لا يَرجِع رَيعُها إلى المساجد، وإن عاد من ذلك شيء فهو نزر يسير جداً، لأن جُلّ هذه الأوقاف قد اندرست أو اغتُصبت، فإذا حرص القائمون على المسجد بالاعتناء بأوقاف المسجد، وضمان أن تعود ثمرة الوقف إلى المسجد، لا إلى جهات أخرى، فإن ذلك سـوف يسـهـم في تـأدية المسـجد لدوره في الحـياة.
* الوسيلة الرابعة عشرة: اللقاءات مع أهل الحي:
إن قيام المسجد بأنشطة مختلفة: علمية ودعوية واجتماعية وثقافية وغيرها يتطلب تقييماً لمثل هذه الأنشطة بين فترة وأخرىº لأنها تبقى أولاً وأخيراً أعمالاً بشرية، يعتريها النقص ويكتنفها الخلل، ومن أحسن الأساليب لعمل مثل ذلك التقييم، عـقـد لقاء دوري يجمع أهل الحي بإمام المسجد أو من ينوب عنه، لمراجعة أحوال المسجد وشؤونه. ومن فوائد مثل هذا اللقاء ما يلي:
ـ سد أي خلل أو نقص فيما يتعلق بشؤون المسجد عموماً ولا سيما الأنشطة سالفة الذكر.
ـ الاستفادة من مقترحات أهل الحي وآرائهم.
ـ تشجيع المبادرات المتميزة بالمسجد ومكافأة من يقوم بها.
ـ الاطلاع على أنشطة وبرامج المساجد الأخرى للاستفادة منها.
والله أسأل أن ينفع بهذه الوسائل قارئها والعاملين عليها والمشاركين في قيامها ابتغاء مرضاة الله.
----------------------------------------
(*) محاضر بكلية علوم الحاسب وتقنية المعلومات ـ جامعة الملك فيصل بالأحساء ـ السعودية.
(1) الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني (83).
(2) الطبراني وغيره، وحسنه الألباني كما في صحيح الترغيب (71). (2) مسلم في صحيحه (2699).
(3) انظر شرح مسلم للنووي (17/24). (4) الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2685).
(5) البخاري في صحيحه (66). (6) فتح الباري (1/214).
(7) الترمذي (1242). (8) المصدر السابق.
(9) البخاري (458).
(10) فتح الباري لابن حجر (1/757) ونيل الأوطار للشوكاني (3/8) و انظر أحكام السترة للطرهوني.
(11) انظر الوسيلة الرابعة. (12) منهاج السنة لابن تيمية.
(13) البخاري (418) ومسلم (827). (14) انظر هذه الإحصائيات في كتاب (دمعة على التوحيد) من إصدارات المنتدى الإسلامي.
(15) إنما جعلت إحياء السنن بعد إماتة البدع من باب (التخلية قبل التحلية). (16) تفسير الطبري: سورة التوبة (79).
(17) مسلم (1691).
(18) البخاري (1/516)، القِنوُ: العِذق بما فيه من الرٌّطب. والعذِق: الغصن. والرٌّطَب: ثمر النخيل قبل أن يصبح تمراً.
(19) فتح الباري لابن رجب (3/154). (20) البخاري (1333).
(21) البخاري (3860) ومسلم (677). (22) ابن خزيمة بسند حسن، وصححه الألباني في صحيح ابن خزيمة (2432).
(23) وانظر تفسير القرطبي: سورة الجن (18).
(24) البخاري (431) ومسلم (828). (25) أبو داود (449) وابن ماجه (739) وغيرهما.
(26) البخاري (6862) ومسلم (1715). (27) تفسير ابن كثير: سورة النور (36).
(28) تفسير القرطبي: سورة النور (36). (29) تفسير ابن سعدي: سورة النور (36).
(30) مسلم (1076). (31) أبو داود (384) وابن ماجه (751) بأسانيد صحيحة.
(32) مسلم (858). (33) البخاري (806) ومسلم (876).
(34) مسلم (876). (35) البخاري (458) و (460).
(36) فتح الباري لابن حجر (1/715).
(37) مسلم (668).
(38) ابن خزيمة، وحسنه الألباني في صحيح ابن خزيمة (1689).
(39) أحمد بسند صحيح كما قال أحمد شاكر، تَفِلات: أي غير متعطرات: قال ابن منظور في لسان العرب: التَّفَل: تَرك الطِّيب.
(40) البخاري (99). (5) صحيح الجامع (2333).
(41) انظر ما يتعلق بدخول الأولاد المسجد في أحكام حضور المساجد لعبد الله بن صالح الفوزان.
(42) انظر الوسيلة الأولى.
(43) مسلم (1078).
(44) المسجد في الإسلام، لخير الدين وانلي.
(25) أنظر الوسيلة السابعة.
(46) برنامج (صفحات من حياتي) بقناة المجد الفضائية 27/8/1462هـ.
(47) محاضرات في الوقف لمحمد أبو زهرة.
(48) تفسير القرطبي:سورة الجن (18)، حاشية الروض المربع، لابن قاسم (5/530).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد