يأتي رمضان شهر الخيرات، وشهر الإنابة والتوبات، شهر الانتصارات حين كنّا نتمسّك بشرع الله، مقيمين على الطاعات! فأين نحنُ اليوم من نفحاته الإيمانية الصادقة؟! وأين نفوسنا الصافية التي تهفو لوعد الملك المنّان؟! أما تتشوّق أرواحنا يا ترى- لباب الريّان؟! لكن كيف يكون ذلك وما زلنا نجترح المعاصي والذنوب؟! وما زالت بلاد المسلمين ممزّقة، وجروحهم عميقة، وعدوّهم يذلّهم! كيف نلقى رمضان وقد امتدّ الهوان لأمة القرآن فهانت أمام أهل الضلال والفسق والفجور؟! أنلقاه أعزّة أم ترانا نغضي حياءً منه ونحن كغثاء السيل؟! أنلقاه والأقصى أسير تحت حكم يهود؟ أنلقاه ونحن نستسلم لأعدائنا، وما عاد يرضيهم حتى هواننا وذلّنا؟! يأتي رمضان..فماذا يحدّثنا شعراؤنا فيه؟!
لعلّ لنا وقفة مع الشاعر د.عدنان علي رضا النحوي إذ ينشد:
قد كنتَ تشرق في ربا الإسلام يجـ *** ـمَعُها الهدى ساحًا تجودُ وتغدقُ
أنّى التفتّ اليوم تلقى أدمعًا *** حرّى تصبّ على دم يتــــدفّقُ
تلقى الثكالى واليتامى والأسى*** فوق الوجوه تغيب فيه وتزهــقُ
وترى المجازرَ والعدا يتواثبـ ***ـون على الديار وكلّ وثبٍ, موبقُ
وترى بني الإسلام يقتل بعضهم ***بعضًا ويمعنُ في العداء ويــغرقُ
وترى عدوّ المسلمين مهيمنًا ***يلقي بأحمال الـــهلال ويـطلقُ
وتراه صفّا واحدًا متماسكًا ***والمسلمون مع الهــوان تفرّقوا
رمضانُ أقبل وامسحنّ من الأسى ***وأعد لنــــا الذي يتألّقُ
واغسل قلوب المسلمين وضع بها ***أملاً به تحيا القلوب وتخفقُ
هكذا يمضي شاعرنا المبدع عدنان النحويّ مع رمضان يبث المفارقات الموجعة بين حاضر وماضٍ,، وبين المسلمين وأعدائهم، وبين حياة القلوب وموتها، فقد كان رمضان في الماضي يطلّ علينا مشرقًا بالهدى ونور الإيمان، بينما يأتي في حاضرنا اليوم وربا الإسلام تعيش في ظلمات المعاصي والضلال إلا من رحم الله، وكان المسلمون أقوياء متمسكين بدين الله صفّا واحدًا لكنّهم أضحوا اليوم ضعفاء متفرّقين يتقاتلون على عرض الدنيا، وقد هانوا على الأعداء حين ماتت القلوب الحيّة المؤمنة.أما الأعداء فهم الميهمنون بقوّتهم واتحادهم، وقد وثبوا على المسلمين قتلاً وتدميرًا، فهل يحيي إقبال رمضان اليوم الإيمان في نفوس أهل الإسلام، ليعيدوا للأمة أمجادها، ويحرّروا أوطانها، ويرفعوا الهوان عن نسائها وأطفالها؟!
أما شاعرنا علي بن عبد الله الزبيدي فهو يدعو شهر التوبة أن يقف قليلاً، وهو يستوقفه لئلا يرحل بعجل، ويتحسّر على سرعة طيّ صفحاته، وهو يلجأ إلى تشخيص من خلال صور شعرية موحية، فنجد أننا نشاركه آلامه وأحزانه في قصيدته: (وقفة توديع):
قف أيها الشهرُ لو يُستوقف العَجلُ ***أهكــذا أجمــلُ الأيّام تُختزلُ
قف لم يزل للمشوق الصبّ ظامئة ***ترنو إليك وفي أحداقــها وجلُ
لـم تدرِ هل قبلت بالأمس توبتها ***أم أنّها بلظى الحرمــان تشتعلُ
رحلتَ يا شهرُ لا بل صفحة طُويت ***من عمرنا وسطور الصفحة العملُ
فيك ازدهت دورٌ للعام مشـــرقة ***عشر يُنال بها إن أحسنوا- الأملُ
وليلةٌ في جبين الدهر زاهـــرة ***بها الملائكـــةُ الأبـرارُ تحتفلُ
ولأنّ شهر رمضان يمثّل عند شاعرنا الزبيدي قيمًا روحيّة عظيمة، نراه يلحّ على ضمائر الخطاب كثيرًا: (قف، إليك، رحلت، فيك... ) أما العشر الأواخر وليلة القدر فهي دررٌ العام حقًا عند جميع المسلمين، فما أدراك بإيقاعها لدى شاعر مرهف الحسّ مثل علي الزبيدي؟ لأنّ النفس تسمو إلى خالقها حين تتصل به، وهو يعود ليبكيه على رحيله بكلّ أسى:
يا حبّذا نفحاتُ الصوم عاطرةً ***تسمو بها أنفسٌ بالله تتّصلُ
وحبّذا الآيُ يتلوها مـــردّدة ***قلبٌ بترديد آي الذكر مشتغلُ
رحلتَ، لا لوم إذ يبكيك ذو شجن ***فربما حال دون الملتقى الأجلُ
وأقبل العيدُ، هل يلقاه من حرموا؟ ***هيهات ليس لهم بل عيد من قبلوا
ونقف أخيرًا في نفحات رمضان مع ديوان: (قناديل على مآذن القدس) لشاعر فلسطين صالح عبد الله الجيتاوي الذي تنـزّ أوجاعه مع كلّ حرف من حروفه النازفة، مستنهضًا همم الأمة، مستضيئًا برؤى إسلامية جليّة، حين يأوى إلى حسّ المكان وقدسيّته، ويمضي إلى تاريخنا الإسلاميّ بكلّ أمجاده بلغة حركيّة، وإيقاع شجيّ، فيشعل جراحنا في قصيدته (في ظلال رمضان):
تتوالى مع الصيام طيــــوفٌ ***مونقاتُ الرؤى وأخرى حزينة
هذه (بدر) في المدارج تختــالُ ***علــيها من الملائــك زينة
هذه (مكة) أنارت روابيــــها ***ببدر الهدى وجنــد (المدينة)
وعلى هامة الخلود (صلاح الدين) ***أرسى بسيــفه (حطـّــينه)
تتداعى بذكره صــورُ الــحزن ***ومحرابُـه يـــبثّ أنـــينه
مستباح الحـــمى وهيهات فيها ***مصرخٌ بالغداة ينصـــر دينه
جاس فيه النفاقُ والكفرُ والرجسُ ***فلا يستر الشقــيٌّ مجــونه
لهفَ نفسي! أهذه أمةُ السيف ***وقد أجّـج الخنــا أفــيونه!
في شعر صالح الجيتاويّ أنفاس ملتقاعة، وحزنٌ دفين، وصور جديدة مشبعة بالأسى، ومع ذلك فهو يرنو إلى مسجده الأقصى منبر صلاح الدين محرّرًا من رجس العصابات اليهودية، ويبثّ مع رمضان المبارك شذى أزهار نديّة من التفاؤل والإيمان بوعد الله ونصره للمؤمنين الصادقين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد