زرت آثار البتراء الخالدة، وعن هذه الزيارة كتبت هذه القصيدة:
عـذراً إذا قـصـرت يـا بتراء *** فـتـحيتي، مهما سمت، بتراءُ
وجـلال قـدرك لـلبلاغة معجزٌ *** فـقـصيدتي أرض، وأنت سماءُ
كـم كـنت أحلم أن أراك فشاقني *** حـسـن لـه بين الضلوع غناءُ
رفّـت على شفتي القوافي وانثنت *** نـشـوى، وفي أعطافها خيلاءُ
وهـفـت إلـى آيات حسن باهر *** حـتـى سـبـاها رونق ورواءُ
سـرّحـت طرفي في مرابع فتنةٍ, *** حـسـناء، لم تحلم بها صحراءُ
شمٌّ الصخور تسامقت فيها الذرى *** ولـهـا مـع الأفـق السنيّ لقاء
عـزّت نـسـور فوقها بوكورها *** فـلـهـا شـمـوخ بـاذخ وإباء
يـا لـلـجـبال الراسيات كأنها *** حـرّاس أرض خـشّـع أمـناءُ
وقـفـت تـصلي في تهجدِ عابد *** لـيـهـزّ آذان الـسـماء دعاءُ
عـجـبـاً للون قد كساها ضافياً *** كـغـلالـة رقصت بها الأضواء
ولـه احـمـرار الـورد إلا أنه *** زاده عـلـى هـامـاتها، وضاءُ
أترى جَنَت حمر الورود، فلم يعد *** فـي الأرض منها وردةٌ حمراءُ!
كـم خـلـتها شفقاً، كأن ضياءه *** لـهـبٌ، ولـكن ما اعتراه فناءُ
أو غـادةً هـيـفـاء بات يزينها *** خـفـرٌ يـضرِّج خدها، وحياءُ
بـتـراء كـم توحين من أنشودة *** إن الـجـمـال لـشـاعرٍ, إيحاءُ
فـقـلوبنا بالشوق أضحت أعيناً *** لـنـراك يـا بـتراء حين نشاءُ
كـم مـن جـمال بالخيال بدا لنا *** لـتـراه حـتـى الـمقلة العمياء
إن لـم نـقـل شعراً نبُثٌّ بصدقه *** إحـسـاسـنـا، فقلوبنا شعراءُ
صيغت لك الأسماء، لكن قصّرت *** وتـخـاذلت عن وصفك الأسماء
مـا أنـت إلا سـفرُ مجدٍ, مشرقٍ, *** ولأنـت حـقـاً والـخلود سواء
فـإذا أشـرأبّ لك الخيال، فإنه *** يـرنـو فـيـبهر طرفه اللألاء
شـاخ الـزمـان فلم يدع لحسانه *** حـسـنـاً، وأنت صبية حسناءُ
مـا غـادرتـك وسامة ووضاءةٌ *** أو غـاب حـسـنٌ ساحرٌ وبهاءُ
وكـأن عـمرك ساعة، لما يغب *** عـن سـاحـك الـنحاتُ والبناءُ
هـذي قـصـورك ما تزال كأنها *** بـالأمـس غـاب سراتها النبلاءُ
قـومٌ نـمـتـهـم عزةٌ وشهامةٌ *** ونـبـالـة وعـروبـةٌ قـعساءُ
ويـهـزنـي فـخرٌ بآبائي، وكم *** يـزهـو بـمـاضٍ, زاهـرٍ, أبناءُ
كـم جـال في أبهاء قصر عاهلٌ *** واخـتـال فـي سـاحاته أمراءُ
وانـقـضّ مـنـه جحفل متحفزٌ *** لـلنصر، تسيق زحفه ضوضاءُ
وأكـاد أبـصـر رايـةً خـفاقةً *** وتـكـاد تـمـلأ مسمعي أصداءُ
وإخـال أهـلـي لم يغيبوا لحظة *** عـنّـا، ولـم تذهب بهم أرزاءُ
ما زال موطئ خطوهم فوق الثرى *** مـا زال فـي حضن النسيم نداءُ
بـتـراكـم للصخر من أعجوبةً *** جـلّـى، ولـيس لحسنها أكفاءُ
تـحـكـي بصمت معجزٍ, متميّزٍ, *** يـا سـحر ما نطقت به البكماءُ !
فـي كـل ركـن روعـة أخاذة *** تـسـبـي الـعقول، وآيةٌ غراءُ
جـئـناك يا بتراء يحملنا الهوى *** وتـحـس نـار حـنينا الغبراءُ
فـكـأن أرتـال القوافل لم تزل *** تـسـعـى إلـيك يقودهنّ حداءُ
فـإذا نـأى عـنا المزار، فحسبنا *** فـي الـبـعد، أن قلوبنا سفراءُ
تـبـقـيـن يا بتراء توأم دهرنا *** مـا دام لـلـدهـر الأبـيد بقاءُ