السنة هي الجنة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 ما زال السؤال يؤرق الأخيار، ويحير أفكار الحادبين على هذه الأمة: ما الذي غيب السنة عنا؟ وجعلها بمنأى عن توجيه حياتنا؟ ومن الذي أوهمنا أن السنة خاصة ببعض الناس؟ حتى صارت نزاعاً بين الغلاة والجفاة في كثير من الأحيان لتكثر فيها المشاحنات والمناظرات والمطارحات، فيغيب نورها من بين تلك الظلماتº بعد أن كانت مُنافَحةً عن الدين، ومُناصَحةً للمسلمين، وعلامة المحيا والممات.

 

 وليت شعري هل ظمئت الأرواح وكثرت الأتراح إلا لبعدنا عن سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ومائها القراح؟ فلا منجا لنا ولا ملجأ إلا بالعودة إلى ذلك الينبوع الصافي الذي لم يكدر، والنظر إلى منهج السلف الصالح في التعامل مع السنة فـ(ما كان أصحَّ علمَ من تَقَدَّما!).

 

 فقد كان القوم يحذرون من مخالفتها ويخافون مفارقتهاº إذ في ذلك الضلال والفتنة (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). وقال عمر - رضي الله عنه - محذراً من ترك العمل ببعض الأحاديث: \"فتقولوا ما نجد الرجم في كتاب الله فتضلوا بترك فريضة أنزلها الله\"، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: \"إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلِّف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم\".

 

 وقد كان للسلف حفاوةٌ بالسنة وإعجابٌ بروعتها، كما روى الشيخان عن ابن أبي ليلى أنّ كعب بن عجرة قال له: \"ألا أهدي لك هدية؟\" قال: \"بلى، فأهدها لي\"، فأهداه الصلاة الإبراهيمية. وقال أنس - رضي الله عنه - كما في مسلم من حديث محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته: \"فأعجبني الحديثº فقلت لابني: اكتبه\". وعن سعد وأبي بكرة كلاهما يقول: \"سمعته أذناي ووعاه قلبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام)\". وقال حذيفة كما في الصحيحين من حديث الفتنة الذي سأله عنه عمر: \"فحدثته حديثاً ليس بالأغاليط\". وقال معمر كما في مسلم: قال لي الزهري: \"ألا أحدِّثك بحديثين عجيبين؟!\".

 

 وكان للقوم اعتزازٌ بحكمة السنة وتقديرٌ لقيمتها، كما قال أبو بكرة الثقفي - رضي الله عنه -: \"فنفعني الله بكلمة سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي قوله: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، وقال عامر بن شراحيل الشعبي كما في البخاري: \"أعطيناكها بغير شيء. قد كان يُرحل فيما دونها إلى المدينة\"، وروى مسلم في شأن تسليمتي التحليل من الصلاة عن أبي معمر أن أميراً كان بمكة يسلِّم تسليمتين فقال عبد الله: \"أنى علقها؟\"، قال النووي: \"أي: من أين حصَّل هذه السنة، وظفر بها؟\".

 

 وقد كان للأولين نُفرةٌ من مخالفة السنة، ونُصرةٌ لإخوانهم بالنصيحة والنهي عن الابتداع، فقد جاء في مسلم أن عمران بن حصين كان يحدث بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، فقال بشير بن كعب: \"إنه مكتوب في الحكمة أن منه وقاراً ومنه سكينة\". فقال عمران: \"أحدِّثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثني عن صحفك؟\"، وفي رواية: فقال بشير بن كعب: \"إنا لنجد في بعض الكتب ـ أو الحكمة ـ أن منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعف\" قال: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه، وقال: \"ألا أراني أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه؟\" وورد في مسلم أن ابن عمر - رضي الله عنهما - روى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم عليها). قال بلال بن عبد الله: \"والله لنمنعهنّ\"، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً سيئاً ما سمعته سبه مثله قط، وقال: \"أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: والله لتمنعهنّ؟\". وذكر مسلم أن امرأة من أهل أبي موسى صاحت عند وجعه، فلما أفاق قال: \"أنا بريء مما برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة\". وقال الزهري لعروة: \"ما بال عائشة تتم في السفر؟\" قال: \"إنها تأولت كما تأول عثمان\"، قال النووي: \"رأيا القصر جائزاً والإتمام جائزاًº فأخذا بأحد الجائزين\". وأخرج مالك في الموطأ قول أبي الدرداء: \"من يعذرني من معاوية؟ أحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحدثني عن رأيه\".

 

 وقد كان لولاة الأمر في هذه المناصحة نصيبٌ كبير، فقد أنكر ابن مسعود على عثمان - رضي الله عنهما - إتمام أربع ركعات في منى، كما روى مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد قال: صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات. فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع، ثم قال: \"صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين، فليت حظي مِن أربع ركعات ركعتان متقبَّلتان\". وروى البخاري في كتاب الاعتصام عن شيبان بن عثمان بن طلحة أن عمر قال له: \"هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين\"، قلت: \"ما أنت بفاعل\"، قال: \"لـمَ؟\"، قلت: \"لم يفعله صاحباك\"، قال: \"هما المرآن يُقتدى بهما!\". وقد أنكر عروة بن الزبير على الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وأنكر أبو مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة. فقد روى مسلم عن الزهري أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوماً، فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوماً وهو بالكوفة فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري، فقال: \"ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -\" يكررها خمس مرات. وقال في آخر حديثه: \"لقد حدثتني عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر\"، وكذلك شأن أنس - رضي الله عنه - كما قال أبو أمامة بن سهل في الصحيحين: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلى العصرº فقلت: يا عمّ! ما هذه الصلاة التي صليت؟ قال: \"العصر، وهذه صلاة رسول الله التي كنا نصلي معه\".

 

 وقد كانوا - رضي الله عنهم - يربٌّون أنفسهم وأبناءهم على الاعتناء بالسنة والاحتفاء بها، لا يقولون لشيء منها: هذا أمر حقير وذاك يسير. بل كانوا يجدون فيها بركة الأنفاس والطهارة من الأدناس، والاهتداء بالنبراس (أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)º فتراهم يهُشون لهديها ويبِشٌّون، ويتمسكون بها إذا ذهب الناس إلى غيرها يبُسّون حتى قال مسلم بن الحجاج في شأن دعاء التشهد [اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال]: (بلغني  أن طاوساً قال لابنه: أدعوت بها في صلاتك، قال: لا، قال: أَعِد صلاتك. لأن طاوساً رواه عن ثلاثة أو أربعة أو كما قال)، وبعث معاوية - رضي الله عنه - إلى المغيرة بن شعبة – في الصحيحين – يسأله عن الدعاء بعد الصلاة. وروى مسلم عن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - قال: (اللّهمّ إني أشهدك على أمراء الأنصار، وأني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم، وليعلّموا الناس دينهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، ويقسموا فيهم فيئَهم، ويرفعوا إليّ ما أشكل عليهم من أمرهم، ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأُخرِج إلى البقيع فمن أكلهما فليُمِتهُما طبخاً). وقد سأل ابن عمر كما في البخاري أين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح؟، ثم قال: (ونسيت أن أسأله كم صلّى؟). وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل كما في مسلم: (سألت وحرصت على أن أجد أحداً من الناس يخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبّح سُبحَة الضّحى). وفي مسلم أيضاً قول أبي الدرداء: (أوصاني حبيبي بثلاث لن أدعهنّ ما عشت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضّحى، وبأن لا أنام حتى أوتر). وسأل حكيم بن أفلح عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن. قال: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحداً عن شيء حتى أموت)!

 

 ورحم الله العلامة ابن المنيّر، ما أحسن قوله في [المتواري على تراجم أبواب البخاري]: (السنّة هي الجُنّة الحصينة لمن تدرّعَها، والشِّرعة المنيعة لمن تشرّعها، وِردُها صافٍ,، وظلّها ضافٍ,، وبيانها وافٍ,، وبرهانها شافٍ,)!

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply