بسم الله الرحمن الرحيم
من العبث أن يراد صب الناس كلهم في قالب واحد في كل شيء، وجعلهم نسخًا مكررة، ومحو كل اختلاف بينهم، فهذا غير ممكن لأنه مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها \" ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم \"(يونس: 119).
ثم إن الاختلاف في الرأي بعيدًا عن الأصول إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والتنوع دائمًا مصدر إثراء، وخصوبة، فمن الناس من يميل إلى التشديد، ومنهم من يميل إلى التيسير، ومنهم من يأخذ بظاهر النص، ومنهم من يأخذ بفحواه وروحه، ومنهم من يسأل عن الخير، ومنهم من يسأل عن الشر مخافة أن يدركه، ومنهم ذو الطبيعة المرحة المنبسطة، ومنهم ذو الطبيعة الانطوائية المنكمشة.
وهذا الاختلاف في صفات البشر، واتجاهاتهم النفسية، يترتب عليه لا محالة اختلافهم في الحكم على الأشياء، والمواقف والأعمال، يظهر ذلك في مجال الفقه والسياسة، وفي مجالات السلوك اليومي للناس في الحياة.
والمتأمل في الاختلاف الواقع بين الصحابة والتابعين يجد أنه لم يتناول لُب الدين، فلم يكثر الاختلاف في وحدانية الله - تعالى -، وشهادة أن محمدًا رسول الله ، ولا في أن القرآن نزل من عند الله، ولا في أصول الفرائض كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج، ولا في طُرق أداء هذه التكاليف، وبعبارة عامة لم يكن خلاف في ركن من أركان الإسلام، ولا في أمر من الدين بالضرورة، كتحريم الخمر، والخنزير، وأكل الميتة، والقواعد العامة للميراث، وإنما الاختلاف في أمور لا تمس الأركان ولا الأصول العامة.
وكانت صدورهم تتسع لمن خالفهم في الرأي، بل قد يتعمد أحدهم أمام قرينه المخالف له في الرأي ألا يأتي أمرًا في مجلسه يشعره بذلك، كراهية منهم للخلاف، واحتراماً لشعور المخالفين، فلم يكن الاختلاف في الرأي أداة مقصودة لذاتها، وإنما الاجتهاد المعرَّض للثواب والخطأ، والذي يظهر فيه تمايز العقول، وتفاوتها في التفكير، ليظهر ثمرة ذلك في الطاقة العقلية التي يبذلها المجتهد، ولتتحقق على يده الحلول التي تعالج قضايا الناس في مختلف العصور.
ومن ذلك يتبين أن الخلاف بينهم لم يكن لمجرد الهوى والتشهي، وإنما كانت له أسبابه الجدية التي ينبني عليها العمل لا القول فقط، ساعين إلى إحقاق الحق ولو على لسان المخالف، ورحم الله الإمام الشافعي - رضي الله عنه - حيث قال: \"رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب\"، وقال أيضًا \"والله لوددت أن يظهر الله الحق ولو على لسان خصمي\".
وعلى هذا يكون الاختلاف بالوصف الذي ذكرناه رياضة للأذهان وتلاقحاً للآراء، وفتحاً لمجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها، بالآداب الإسلامية التي نتحدث عنها فيما بعد.
وما أروع ما قاله الأستاذ البنا - رحمه الله - عند حديثه عن ركن الفهم في الأصل الثامن حيث يقول: \"الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببًا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب\".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد