بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مستحق الحمد وأهله، يجزي الصادقين بصدقهم من رحمته وفضله، ويجازي الكاذبين فيعاقبهم إن شاء بحكمته وعدله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في حكمه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل خلقه- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه - ومن تبعه في هديه، وسلم تسليما..أما بعد:
فقد سرت أمراض خبيثة في أمة الإسلام تحصد الحسنات وتجلب السيئات، يقوم بها مخلوق صغير هو من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، إنه اللسان الذي به تظهر الرفعة والدنو والسقطة والعلو..
وفي بعض المجالس انصرف هذا اللسان إلى مورد خبيث ومزلق خطير محرم، ألا وهو السخرية والاستهزاء، ينبئك ذلك عن سوء طوية، وسواد قلب، وقلة دين، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن} [الحجرات:11]
ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء.
وأشد أنواع الاستهزاء وأعظمها خطرا: الاستهزاء بالدين وأهله، ولخطورته وعظم أمره فقد أجمع العلماء على أن الاستهزاء بالله وبدينه وبرسوله كفر بواح، يخرج من الملة بالكلية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر صاحبه بعد إيمانه.
ولقد تفنن في أنواع السخرية والاستهزاء، فهناك من يهزأ بالحجاب، وآخر من يسخر بتنفيذ الأحكام الشرعية، ولمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر نصيب من ذلك..كما أن سنة نبينا محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - أيضا لها نصيب من مرضى القلوب، فظهر الاستهزاء باللحية وقصر الثوب وغيره.
في جواب اللجنة الدائمة للإفتاء على (من قال لآخر : \" يا لحية \" مستهزئا): إن الاستهزاء باللحية منكر عظيم فإن قصد القائل بقوله: \" يالحية \" السخرية فذلك كفر، وإن قصد التعريف فليس بكفر، ولا ينبغي أن يدعوه بذلك.
ولنعلم خطورة الاستهزاء على دين الرجل..
فلنستمع إلى ما يتلى في سورة التوبة قال - تعالى -: { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءآيته ورسوله كنتم تستهزءون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } [التوبة: 65، 66]
وقد ورد في سبب نزولها أن رجلا من المنافقين قال: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء. فرفع ذلك إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- فجاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله: إنما كنا نخوض ونلعب فقال - صلى الله عليه وسلم -: { أبالله وءايته ورسوله كنتم تستزءون } إلى قوله { مجرمين } وإن رجليه لتنسفان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو متعلق بنسعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وثابت من سيرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أنه أرحم الناس بالناس، وأقبل الناس عذرا للناس، ومع ذلك كله لم يقبل عذرا لمستهزئ، ولم يلتفت لحجة ساخر ضاحك.
ولعلك- أخي - لاحظت في الآية الكريمة أن الله شهد لهم بالإيمان قبل الاستهزاء فقال: { قد كفرتم بعد إيمانكم}
قال ابن الجوزي: في زاد المسير: وهذا يدل على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.
وقال الشيخ السعدي - رحمه الله -: إن الاستهزاء بالله ورسوله كفر يخرج عن الدين، لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقص له أشد المناقضة.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -: ومن الناس ديدنه تتبع أهل العلم لقيهم أو لم يلقهم، مثل قوله: المطاوعة كذا وكذا.
فهذا يخشى أن يكون مرتدا، ولا ينقم عليهم إلا أنهم أهل الطاعة..
ولقد فضح الله - تعالى - موقف المستهزئين بالمؤمنين وبين المراتب في الدار الآخرة فقال - تعالى -: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب } [البقرة: 212]
و البعض إذا قيل له هذا من باب الاستهزاء بالدين، قال: نحن لم تقصد الدين، ولم نقصد الرجل بذاته، بل نمرح ونمزح..
وما علم إلى أين يؤدي به هذا المرح وذاك المزاح؟
إنه خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة. هلاك ودمار في العاجلة. وعذاب مقيم في الآجلة.
قال الله - تعالى -: { قال اخسئوا فيها ولا تكلمون، إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا ءامنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون، إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم الفائزون} [المؤمنون:108-111]
والسخرية والاستهزاء للشخص العادي نوع من أنواع الأذى والتعدي، فما بالك إذا كان من المؤمنين أو المؤمنات، والملتزمين والملتزمات.
قال الله - جل وعلا -: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}
وهذا اللسان الصغير الذي خلقه الله - عز وجل - للطاعة والعبادة قد يودي بصاحبه إلى المهالك، خاصة إذا كان يطلق بدون تحفظ ولا تحرز، فتراه يغمز هذا، ويلمز ذاك..
ومن تأمل في حال البعض رأى أن هناك مجالس طويلة قامت على الضحك والنكت الساذجة، يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- محذرا ومبينا عظم الأمر وخطورته «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها من أبعد من الثريا» [رواه احمد]
واحذر أخي المسلم الجلوس في مجالس يعصى الله - عز وجل - فيها، فإنه - تعالى - يقول: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم ءايات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا} [النساء:140]
وعليك الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها.
واجعل أمام عينيك هذه الآية: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق:18]
واحرص على حفظ لسانك ففي الحديث: «...وهل يكب الناس على وجوههم- أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم» [رواه الترمذي]
طهّر الله ألسنتنا، ونزه أسماعنا عن كل ما يشين، والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد