مقاصد الشريعة العشرة في العناية بحفظ القرآن الكريم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 يكفي القرآن الكريم في فضله أنه كلام الله - تعالى - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد، وإنه يكفي لنا أن نلهج ونتشرف بالتلفظ بكلام الله، ومع ذلك فقد ورد في فضله أحاديث كثيرة، بل عقدت لفضائله كتب كما في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، والدارمي، وغيرها، ولذلك لن أقف عند هذه الفضائل المعروف أكثرها \"إن لم يكن كلها\" لدى القراء، وإنما أذكر معالم مهمة، وخواطر تتعلق بمقاصد الشريعة من العناية بحفظ القرآن الكريم، وهي:

أولاً: مسؤولية الأمة في تحمل دورها نحو كتاب الله العزيز في حفظه والحفاظ عليه على مر العصور بجميع الوسائل المتاحة.

ثانياً: الحفاظ على جميع ما يتعلق بالقرآن الكريم من حيث حروفه، وكتابته، وإعرابه وبناؤه، وحركاته، وسكناته، وقراءته المتواترة، وغير المتواترة، وأوجهه الكثيرة، وكل ما يخص شكل القرآن الكريم، حتى إن الإنسان ليستغرب من العلوم التي ابتكرها المسلمون لأجل ما يخص لفظ القرآن الكريم، من علوم النحو، والصرف والبناء، والبيان والبديع والمعاني (أي علوم البلاغة) والإعجاز اللفظي، والنظمي، وما يتعلق بأوائل السور، والآيات، وأواخر السور، وأوائل الآيات والربط بينها من خلال السياق واللحاق، واستنباط الكثير والكثير من كل حرف، وكلمة، ومن كل نظم أو سباق أو لحاق.

ثالثاً: الحفاظ على هذا الدستور الإلهي العظيم الخاتم المحفوظ غضاً طرياً كما أنزل على سيدنا محمد {حيث كانت الكتب المنزلة تحرف بعد فترة من الزمن، كما حدث للتوراة والإنجيل، وجميع الكتب السابقة على القرآن الكريم، وحينئذ يبعث الله - تعالى - في كل فترة رسولاً ومعه كتاب أو صحف منزلة من عند الله، فيعيد الناس إلى الحق، فلم تكن المشكلة مستديمة، ولكن لما جعل الله القرآن الكريم خاتم الرسالات ومكملها ومتممها، وجعل رسوله محمداً خاتم الأنبياء والمرسلين، ختمت به الرسالات ختماً لا فتح بعده، وحينئذ لو حدث أي تحريف يكون إلى الأبد. لذلك تكفل الله - تعالى - بذاته العلية بحفظ هذه الرسالة الخاتمة \"القرآن\" فقال - تعالى -: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9) (الحجر)، وقال - تعالى -: لا تحرك به لسانك لتعجل به 16 إن علينا جمعه وقرآنه 17 فإذا قرأناه فاتبع قرآنه 18 ثم إن علينا بيانه 19 (القيامة).

ولكن مع هذا القدر الإلهي بحفظه الذي لا يرد، أمر الله الأمة ببذل كل جهودها للحفاظ على القرآن الكريم، فكانت الأمة التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس، جديرة بهذا التكليف والتشريف فقامت بواجبها جيلاً بعد جيل إلى أن جاء جيلنا جيل العلم والتقدم التكنولوجي، وثورة الاتصالات والمواصلات فاستغل هذا التقدم العلمي لحفظ القرآن الكريم من خلال التسجيل، والفيديو والتلفاز، والإنترنت ونحوها، وانتشرت مراكز تحفيظ القرآن الكريم، وكثر القراء وحفظة القرآن الكريم.

رابعاً: إن من أهم مقاصد الشريعة أيضاً فهم القرآن الكريم، والتفقه فيه، وتدبره، حيث يقول - تعالى -: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب 29 (ص)، فالتدبر في آيات القرآن الكريم والتذكر والتفكر فيه من أهم مقاصد نزوله، جاء ذلك في قوله - تعالى -: أفلا يتدبرون القرآن أم على\" قلوب أقفالها 24 (محمد)، وقد فسر بعض السلف قوله - تعالى -: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا (البقرة: 269)، أي بفهم القرآن.

ولذلك يجب ألا يقتصر دورنا وعلاقتنا بالقرآن عند حفظ القرآن الكريم، وإنما يصاحبه التدبر والتفكر والتذاكر، والفهم العميق، والفقه الدقيق من خلال فهم كلماته، والاستنباط من آياته وأخذ العظة والاعتبار من قصصه، وحكمه، ولذلك وصفه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود فقال: \"إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، والنور والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه... ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد... \" (الدارمي 1-310)، وروى الدارمي بسنده عن علي بن أبي طالب، عن النبي الذي وصف القرآن بأنه: \"كتاب الله.. فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق من كثرة الرد، هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم\".

خامساً: لا ينبغي الاكتفاء بالتعلم، وإنما الخيرية تتحقق بالشق الثاني وهو التعليم، حيث يقول الرسول : \"خيركم من تعلم القرآن وعلمه\".

سادساً: تعاهد القرآن الكريم بالتلاوة المستمرة وعدم نسيان ما حفظه، فلا ينبغي نسيان ما حفظه.

سابعاً: الدعوة بالقرآن، والتبشير به كما قال - تعالى -: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون 122 (التوبة).

ثامناً: أهمية العمل بالقرآن، فهو كتاب هداية وعمل وتطبيق، لذلك كان وصف عائشة للرسول : \"كان خلقه القرآن\".

تاسعاً: عدم الإفتاء في أمور الدين بمجرد الحفظ والقراءة، لأن الفتوى لها شروطها وضوابطها، لأنها توقيع عن رب العالمين بالحِل أو الحرمة، ولذلك حذر النبي من ذلك، وجعل كثرة القراءة دون الفقه من علامات الساعة في أحاديث كثيرة، وتترتب عليها أخطار كبيرة، ولذلك عقب الله - تعالى - على الأمر بالقراءة، بالعلم فقال: اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5) (العلق)، فلا ينبغي الاكتفاء بالقراءة، بل لابد أن يعقبها العلم، وعلى الأقل إذا لم يتحقق العلم والفقه فلا يجوز الإفتاء بمجرد القراءة، ولا يحكم على الناس بمجرد الحفظ.

ومن هنا كان تفسير الإمام الشافعي للحديث الصحيح الذي يقول بشأن المستحق للإمامة: \"يقدم الأقرأ\" فقال الشافعي: كان الأقرأ من الصحابة هو الأفقه، وهذا يؤكده حديث ابن عمر} في وصف الصحابة بأنهم \"ما كانوا يتجاوزون عشر آيات إلا بعد فهمها ووعيها والعمل بها\".

ومن الجانب التطبيقي لم يكن ينفع هؤلاء الذين خرجوا على سيدنا علي وحكموا عليه وعلى أتباعه بالكفر، لم ينفعهم الحفظ والقراءة والتدين كما وصفهم الرسول: \"يحتقر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وصومه عند صومهم ولكنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية\"، فهذا أكبر دليل على أن الحفظ وحده والقراءة وحدها لا تكفي، بل لابد للفتوى والحكم على الناس من الفقه الشرعي بالنصوص والدلالات ومقاصد الشريعة وغير ذلك، وإلا تكون النتيجة وخيمة، وللسبب نفسه أمرنا الله - تعالى - بالعلم بالشهادة وليس مجرد النطق بها فقال - تعالى -: فاعلم أنه لا إله إلا الله (محمد: 19).

عاشراً: الالتزام بآداب حفظ القرآن الكريم وآداب التعلم والتعليم مع أهل العلم والناس أجمعين.

هذه هي مقاصد الشريعة العشرة، في الحفظ والقراءة.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply