بسم الله الرحمن الرحيم
للعمل بالعلم فوائد عظيمة، وآثار حميدة، يجنيها طالب العلم في الدنيا والآخرة، ويحسها كل من عمل بعلمه. وتنعدم هذه الآثار، إذا لم يستطع العالم أن يوافق بين علمه وسلوكه، ولعظم هذه الآثار، رأينا كيف شدد الإسلام في عقوبة من لا يعمل بعلمه فيأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويفعله.
ولم أقف على هذه الآثار مجتمعة، وإنما اجتهدت في استنباطها من النصوص على قدر فهمي لها وإدراكي لمعناها. فمن هذه الآثار:
1) حصول الرفعة في الدنيا والآخرة. قال - تعالى -: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}. وقال - الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين\".
ولا ريب أن هذه الرفعة والمكانة لا تكون إلا لأهل العلم العاملين به، وكيف تكون لمن لا يعمل بعلمه وهو مذموم شرعاً وعقلاً؟
قال الشوكاني: \"يرفع الله الذين آمنوا منكم\" في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيها \"والذين أوتوا العلم درجات\" أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة. ومعنى الآية: أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات. فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات..)([1])
2) الذي يعمل بعلمه لا يضل في حياته.ولا يشقى في آخرته.وكيف يضل وقد تمسك بالوحي الذي جعله الله - تعالى - هداية لجميع الناس، وكيف يشقى وقد عمل بعلمه فأعد رصيداً من العمل الصالح المؤسس على علم نافع؟ أعده لذلك اليوم العظيم؟ قال الله - تعالى -: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى..}[طه: 123].
وقد تكفل الله - تعالى - لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة، ويجزيه أجره موفراً في الآخرة. فقال - تعالى -{من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].
والجمهور على أن الحياة الطيبة في الدنيا وذلك بالعمل الصالح والعافية والرزق الحلال، وانشراح الصدر وهدوء البال. ومما يؤيد ذلك أن الله - جل وعلا - ذكر جزاءه في الآخرة في نهاية الآية. فلو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة حياته في الجنة كما يقوله جماعة من السلف لكان قوله - تعالى -: {ولنجزينهم أجرهم}. تكراراً أو توكيداًº لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم، والتأسيس مقدم على التوكيد والله أعلم([2]).
وإذا كان هذا جزاء من عمل صالحاً فلا ريب أن العمل الصالح قائم على العلم النافع، فمن تمسك بالقرآن علماً وعملاً فله هذه الحياة الطيبة. والتي لا يلزم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمالº لأن المال عنصر واحد من عناصر الحياة الطيبة يكفي منه القليل كما قال - الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه\"([3]).
وبضد ذلك من أعرض عن وحي الله فله المعيشة الضنك في الدنيا. عيشة تضيق بها نفسه، ولا يسعد بها ولو كانت واسعة. ويضيق عليه قبره ويشقى فيه طيلة حياة البرزخ، ويحشر يوم القيامة أعمى لا حجة له. ولا بصر يبصر به، وينسى في العذاب الأليم، ويترك كما ترك العمل بآيات الله. هذا جزاء من أعرض عن القرآن في الدنيا والآخرة، معذب في الدنيا معذب في البرزخ معذب في الآخرة. قال - تعالى -: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى}. [طه: 124 127]([4]).
وأكثر المفسرين على أن هذه الآيات في الكافر، لكن من أعرض عن آيات الله فله حظ من الوعيد بحسب إعراضه استناداً إلى العموم الدال على الشمول والله أعلم.
3) الذي يعمل بعلمه حري بالنجاة يوم القيامة والإجابة السديدة على السؤال الذي سيوجه إليه قبل أن تزول قدماه من عند ربه (ماذا عملت فيما علمت)؟ ولابد أن يُعد المسلم للسؤال جواباً، وأن يكون الجواب صواباً.
ويبدو لي أن الإجابة الصحيحة على هذا السؤال نجاح فيما عداه من الأسئلة الأخرى إن شاء الله لأن من عمل بعلمه وفقه الله للاستفادة من شبابه وعمره. وأن يجمع المال إن كان ذا مال من حله. وينفقه فيما يوافق شرع الله. هذا مقتضى العلم.
ولأهمية هذا الجانب ذكر الآجري - رحمه الله - في كتابه (أخلاق العلماء) فصلاً بعنوان \"ذكر سؤال الله لأهل العلم عن علمهم: ماذا عملوا فيه\" ثم أورد بعض الأحاديث والآثار الموقوفة في هذا الموضوع ثم قال: (من تدبر هذا أشفق من علمه أن يكون عليه لا له، فإذا أشفق مقت نفسه، وبان بأخلاقه الشريفة التي تقدم ذكرنا لها والله الموفق لنا ولكم إلى الرشاد من القول والعمل)([5]).
وقد أعطيت هذه الثمرة رقماً مستقلاً لورود النصوص الخاصة بها، وإلا فقد يقال: إنها داخلة في عموم نفي الشقاء في الدار الآخرة عمن عمل بما علم كما تقدم.
4) الذي يعمل بعلمه يسلم من العواقب السيئة والنتائج الوخيمة والأوصاف القبيحة التي تنتظر من لا يعمل.
وقد رتب الله - تعالى - هذه الأمور على الإعراض عن التذكرة بآيات الله.
ومعلوم أن من لم يتذكر لن يصدر منه عمل بما يعلم ولن يقيم لآيات الله - تعالى - وزناًº لأن العمل بالقرآن هو العمل بالعلم حقيقة.
فلا أحد من الناس أعظم ظلماً ممن ذكر ووعظ بآيات ربه وهي القرآن ثم تولى وصد عنها. ثم هو ينسى ما قدمت يداه من المعاصي والكفر، مع أن الله - تعالى -لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه. قال - تعالى -: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه..} [الكهف: 57].
ومن النتائج السيئة للإعراض جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبداً كما قال - تعالى -مبيناً ما ينشأ عن الإعراض: {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً}[الكهف: 57].
ومن الأوصاف أن المعرض كالحمار قال - تعالى -: {فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة}[المدثر: 49]([6]).
إلى غير ذلك من الآيات التي اشتملت على بيان النتائج والأوصاف التي تلاحق المعرضين.
5) من عمل بعلمه أورثه الله علم ما لم يعلم([7]). وفتح بصيرته وأنار قلبه. قال - تعالى -: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}[محمد: 17].
قال الشوكاني: (زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين. أي: والذين اهتدوا إلى طريق الخير فآمنوا وعملوا بما أمرهم به زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين([8]). قال - تعالى -: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيما}[النساء: 66، 67، 68].
وأما من لم يعمل بعلمه وأعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعاً لهواه. فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، وهو حري أن يسلبه الله ما علم، يقول - تعالى -: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}[الصف: 5].
قال ابن كثير: (أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان.. )([9]).
6) العمل بالعلم من أقوى أسباب حفظه وبقائه، لتحوله إلى صورة عملية وواقع مشاهد، ولذا يستطيع كل واحد منا أن يكتب صفة الوضوء والصلاة والحج ونحو ذلك لأن هذا علم قد عمل به وتحول إلى سلوك واقعي فأصبح موصولاً بالذهن، مرتبطاً بالذاكرة، يستدعيه متى أراده.
يقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري - رحمه الله -: (فإن العمل هو الذي يجعل العلم راسخاً مستقراً في النفس، وذلك أن العلم يستحضره صاحبه في النفس مجملاً غير سالم من غموض أو إبهام. فإذا أبرزه بالعمل للوجود صار تفصيلياً جلياً واضحاً، وبكثرة التكرار للتلاوة ومداومة العمل يكون النظري منه بديهياً ضرورياً، فيثبت وحي الله بالقلب فلا ينسى، وأما مع هجران العمل به فإن صاحبه يصل به النسيان إلى حالة يساوي فيها من لا يعرفه بتاتاً والعياذ بالله)([10]).
وقد اهتم العلماء بموضوع حفظ العلم، والتحذير من نسيانه، وافردوا فيه المصنفات المستقلة([11]) وذكروا الأسباب التي تعين على حفظ العلم([12]) ولكن من أقوى وسائل حفظه العمل به، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أن من أسباب حرمان العلم عدم العمل به، فهو يقول: (السادس: عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه.
قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به وقال بعض السلف أيضاً: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حلّ وإلا ارتحل.
فالعمل به من أعظم أسباب حفظه وثباته وترك العمل به إضاعة له، فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل قال الله - تعالى -: }يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به{[الحديد: 28]([13]).
7) العمل بالعلم يهيأ للعالم مكانة مرموقة، ونظرة حسنة. وبه يكون قدوة طيبة، يؤخذ كلامه، ويوثق بفتواه. وكلما ظهرت آثار العمل على العالم أحبه الناس وتعلقوا به ورغبوا فيه وهذا مشاهد.
ولكن إذا رأوا العالم وقد ظهرت عليه آثار الانحراف والمخالفة لما علم به، وقعوا في حيرة بين القول والفعل. وراحوا يفسرون هذا الانفصام بين العلم والسلوك تفسيرات شتى. ومن ثم لا يثقون بقوله، ولا يقيمون وزناً لشخصه، وإذا كان العالم مرموقاً منظوراً إليه ولا سيما في بلده كانت المسؤولية أعظم لأنه متبع ومقتدى به.
قال ابن مفلح في الفروع: (وليحذر العالم وليجتهد فإن ذنبه أشد، نقل المروذي عن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: (العالم يقتدى به ليس العالم مثل الجاهل). قال: وقال شيخنا يعني ابن تيمية - رحمه الله - (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فذنبه من جنس ذنب اليهود)([14]).
إن مخالفة تعاليم الدين ممن يقتدى به من أضر الأشياء على سنن الإسلامº لأن ذلك يؤدي إلى اقتداء العوام به فإنهم اتباع كل ناعق. والعالم إذا أظهر المعصية وإن صغرت سهل على الناس ارتكابها. لأن الجاهل يقول: لو كان هذا الفعل كما قال: من أنه ذنب لم يرتكبه. وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا([15]) وواقعنا اليوم يشهد بذلك في صور متعددة.
فليحذر العالم مثل هذه المزالق العظيمة التي يبوء بإثمها وإثم من اتبعه فيها إلى يوم القيامة. وقد قال النبي - الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"من سن في الإسلام سنة سيئة يعمل بها من بعده، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء\"([16]).
وقد يكون عدم العمل بالعلم وسيلة للصدّ عن دين الله - تعالى -. فإن العالم إذا لم يوافق بين علمه وسلوكه يقف حجر عثرة أمام الدخول في الإسلام والتمسك بأحكامه وأخلاقه، ولا سيما من يحسنون الظن بهذا العالم لأنهم يسمعون كلاماً جميلاً ولم يروا شخصه، فهم في أشد الشوق إليه، فإذا رأوه مقتوه وقالوا: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)([17]) وربما كان ذلك ذريعة لسبّ الإسلام نفسه وتلك مصيبة.
(ومن هنا فالداعية بحاجة إلى تطبيق عملي لمبادئ الإسلام وأفكاره وسلوكه، لتكون حياته ترجماناً مبيناً لمنطوق الإسلام. وصورة كريمة لمعطياته)([18]) وعليه أن يكون قوياً بإيمانه على شهوته، قوياً على المجتمع الذي يجره إلى الانحلال، وينأى به عن تطبيق عمله على نفسه وأسرته.
وإن المطابقة بين القول والعمل أمر عسير غير يسير إلا على من وفقه الله إنه يحتاج إلى صلة دائمة بالله - تعالى -وإخلاص، ثم رياضة وجهد ومحاولة واستعلاء على الرغبات والشهوات، ومن ترك العمل بما علم فقد استسلم لشهواته وانقاد لهواه وهو على خطر عظيم.
--------------------
[1]) فتح القدير: (5/189). ط: الحلبي.
([2]) انظر أضواء البيان للشنقيطي (3/352) وفي ظلال القرآن (5/279) وتفسير القرطبي (11/258).
([3]) أخرجه مسلم (7/151) والترمذي (7/15).
([4]) راجع كتب التفسير عند هذه الآيات تفسير ابن كثير (5/316) تفسير ابن عباس للدكتور عبد العزيز الحميدي (2/265) وما بعدها.
([5]) أخلاق العلماء ص87 وما بعدها. وكذا بوب ابن عبد البر في جامع بيان العلم ص278.
([6]) انظر أضواء البيان (4/141) وما بعدها.
([7]) هذه العبارة يذكرها بعض الناس على أنها حديث. وهو موضوع في نظر الضعيفة للألباني (1/423).
([8]) فتح القدير (5/35).
([9]) تفسير ابن كثير (8/135).
([10]) تفسير الدوسري (2/158).
([11]) مثل كتاب (الحث على حفظ العلم) لابن الجوزي - رحمه الله -.
([12]) وبعض هذه الأسباب لا يخلو من نظر. راجع على سبيل المثال تعليم المتعلم للزرنوجي ص130.
([13]) مفتاح دار السعادة (1/172). وقوله (كنا نستعين على حفظ العلم) في الاقتضاء (الحديث) انظر ص90.
([14]) الفروع (1/526) وانظر غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب للسفاريني (2/520).
([15]) انظر الاعتصام للشاطبي ص319. دار الكتب العلمية.
([16]) أخرجه مسلم (7/107) والنسائي (5/75-77) وابن ماجة برقم (203) وأحمد (4/357).
([17]) هذا مثل يضرب لمن خبره خير من مرآه، وفيه قصة. انظر مجمع الأمثال للميداني (1/227).
([18]) انظر مشكلات الدعوة والداعية:فتحي يكن ص67.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد