بسم الله الرحمن الرحيم
يقول ابن هشام، - رحمه الله -، في توجيه قوله - تعالى -: (إن هذان لساحران):
وفي هذا الموضع قراءات:
إحداها: تشديد النون من \"إن\"، و \"هذين\" بالياء، وهي قراءة أبي عمرو، وهي جارية على سنن العربية، لأن \"إن\" تنصب المبتدأ وترفع الخبر، فتكون:
\"هذين\": اسم إن منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بالمثنى، أو موضوع على صيغة المثنى وإن لم يكن في حقيقته مثنى.
لساحران: خبر إن مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى، ويشكل على هذا التخريج دخول اللام على الخبر وهي لا تدخل إلا على المبتدأ، وتخريج هذا الإشكال أنه قد سمع في لغة العرب دخول اللام على الخبر، فمن ذلك:
أم الحليس لعجوز شهربه *** ترضى من اللحم بعظم الرقبة
فـــ \"أم الحليس\": مبتدأ، و \"لعجوز\": خبر المبتدأ، وقد دخلت عليه اللام.
وقد رد بعض النحويين هذا القول، وخرجوا البيت بما تطرد معه قاعدة منع دخول اللام مطلقا على الخبر، فقدروا مبتدأ محذوفا قبل \"عجوز\"، فتقدير الكلام عندهم: أم الحليس لهي عجوز شهربه، فـــ \"هي\": مبتدأ دخلت عليه اللام، و \"عجوز\": خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ والخبر في محل رفع خبر المبتدأ الأول \"أم الحليس\".
وقول أبي عزة عمرو بن عبد الله بن عثمان يمدح الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد امتن عليه يوم بدر:
فإنك من حاربته لمحارب *** شقي ومن سالمته لسعيد
وما قيل في البيت السابق يقال في هذا البيت، فإما أن يقال بأن:
من: اسم موصول في محل رفع مبتدأ.
لمحارب: خبر المبتدأ، وقد دخلت عليه اللام.
أو:
يقدر للخبر \"لمحارب\"، مبتدأ: \"هو\"، فيكون تقدير الكلام: ومن حاربته لهو محارب، وتكون جملة المبتدأ والخبر \"لهو محارب\"، في محل رفع خبر المبتدأ الأول \"من\" الموصولة.
وجدير بالذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قتل أبا عزة بعد ذلك لما نقض الأخير عهده وعاد لهجاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بتحريض قريش، وكان قد أعطاه عهدا يوم بدر ألا يهجوه، ولما طلب أبو عزة الصفح مرة أخرى، قال له - عليه الصلاة والسلام -: لا أتركك تسير في طرق مكة تهز كتفيك وتقول: خدعت محمدا مرتين، أو كما قال - عليه الصلاة والسلام -، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وأولى الناس بوصف الإيمان خاتم المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقول الشاعر:
خالي لأنت ومن جرير خاله *** ينل العلاء ويكرم الأخوالا
فإما أن يقال بأن اللام دخلت على الخبر \"لأنت\"، أو يقدر له مبتدأ محذوف: \"هو\"، ويكون تقدير الكلام: خالي لهو أنت، وتكون جملة المبتدأ والخبر \"لهو أنت\" في محل رفع خبر المبتدأ الأول \"خالي\".
والثانية: \"إن هذان لساحران\"، وتخريج هذه القراءة أن: \"إن\" مخففة، وعليه لا عمل لها فيما بعدها، وتكون \"هذان\": مبتدأ، و\"لساحران\": خبر المبتدأ.
يقول ابن هشام - رحمه الله -:
ونظيره أنك تقول: إن زيدا قائم، فإذا خففت فالأفصح أن تقول: إن زيد لقائم على الابتداء والخبر، كما في قوله - تعالى -: (إن كل نفس لما عليها حافظ)، فالمبتدأ \"كل\" والخبر \"لما\" فدخل عليه اللام لما خففت \"إن\".
وإلى هذا الوجه أشار ابن حيان، - رحمه الله -، في بحره المحيط بقوله:
(وتخريج هذه القراءة واضح وهو على أن \"أن\" هي المخففة من الثقيلة و {هذان} مبتدأ و {لساحران} الخبر واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة على رأي البصريين والكوفيين).
وكذا الزمخشري، غفر الله له، في كشافه بقوله:
(وقرأ ابن كثير وحفص «إن هذان لساحران» على قولك: إن زيد لمنطلق. واللام هي الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة).
والطبري، - رحمه الله -، في جامعه بقوله: (وكان بعض أهل العربـية من أهل البصرة يقول: «إن» خفـيفة فـي معنى ثقـيـلة، وهي لغة لقوم يرفعون بها، ويدخـلون اللام لـيفرقوا بـينها وبـين التـي تكون فـي معنى ما).
والثالثة: \"إن\" بالتشديد، و \"هذان\" بالألف، وهي مشكلة، لأن \"إن\" المشددة يجب إعمالها، فكان الظاهر الإتيان بالياء كما في القراءة الأولى، وقد أجيب على هذه القراءة بعدة أوجه منها:
أحدها: أنها لغة بلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد، وكنانة، وآخرين، فهم يستعملون المثنى بالألف دائما، رفعا ونصبا، وجرا، فتقول: جاء الزيدان، ورأيت الزيدان، و مررت بالزيدان، وتعرف هذه اللغة بـــــ \"لغة القصر\"، أي قصر المثنى على صورة واحدة، هي صورة الألف، ويكون الإعراب بحركات مقدرة، ضمة وفتحة وكسرة مقدرة على \"الألف في الزيدان\" في الرفع والنصب والجر على الترتيب، أو يكون الرفع بالألف، والنصب والجر بالألف نيابة عن الفتحة والكسرة، وشاهده من كلام العرب:
قول هوبر الحارثي:
تزود منا بين أذناه طعنة *** دعته إلى هابي التراب عقيم
فقال \"بين أذناه\"، ولم يقل: \"بين أذنيه\"، فجر المضاف إليه \"أذناه\"، بكسرة مقدرة على الألف أو بالألف نيابة عن الكسرة.
وقول الآخر:
فأطرَقَ إطرَاقَ الشٌّجاعِ وَلَو رَأى *** مَساغاً لِنابـاهُ الشٌّجاعُ لَصمَّـما َ
فقال: \"لناباه\"، ولم يقل: \"لنابيه\".
وكذا البيت المنسوب لرؤبة بن العجاج:
إن أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها
فقال: \"غايتاها\"، والقياس: \"غايتيها\" لأنه مفعول به، فقدرت فتحة النصب على الألف في \"غايتاها\"، أو نابت الألف عن الفتحة في نصب \"غايتاها\".
وقول الشاعر:
واها لريا ثم واها واها *** ليت عيناها لنا وفاها
بثمن نرضي به أباها
فاسم ليت: عيناها، جاء بالألف، والقياس: ليت عينيها، بالنصب بعلامة الياء.
والعرب تقول: كسرت يداه وركبت عَلاَه، بمعنى يديه وعليه، كما أشار إلى ذلك القرطبي - رحمه الله -.
وقد رجح الطبري، - رحمه الله -، هذا الوجه بقوله: (والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: {إنّ} بتشديد نونها، وهذان بـالألف لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه، وأنه كذلك هو فـي خطّ الـمصحف. ووجهه إذا قرىء كذلك مشابهته الذين إذ زادوا علـى الذي النون، وأقرّ فـي جميع الأحوال الإعراب علـى حالة واحدة، فكذلك {إنَّ هَذَانِ} زيدت علـى هذا نون وأقرّ فـي جميع أحوال الإعراب علـى حال واحدة، وهي لغة بلـحارث بن كعب، وخثعم، وزبـيد، ومن ولـيهم من قبـائل الـيـمن).
وقال أبو جعفر النحاس، - رحمه الله -، فيما نقله عنه القرطبي: (وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية، إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى بعلمه وأمانته، منهم أبو زيد الأنصاري، وهو الذي يقول: إذا قال سيبويه حدّثني من أثق به فإنما يعنيني، وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحارث بن كعب).
وطالما تكلمت العرب بهذه اللغة، فهي فصيحة يحتج بها، وإن لم تكن الأفصح، كما علم من شروط القراءة المتواترة، فشروطها: اتصال السند وموافقة الرسم العثماني ولو من وجه، وموافقة القراءة للعربية بوجه من الوجوه، سواء كان أفصح أم فصيحا.
بتصرف من \"مباحث في علوم القرآن\" للشيخ مناع القطان، - رحمه الله -، ص158.
والثاني: أن \"إن\" بمعنى \"نعم\"، فيكون المعنى: نعم هذان ساحران، ومثلها:
ما حكي أن رجلا سأل ابن الزبير، - رضي الله عنهما -، شيئا فلم يعطه، فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: إن وراكبها، أي: نعم ولعن الله راكبها.
وقول ابن قيس الرقيات - رحمه الله -:
بكر العواذل في الصبوح *** يلمنني وألومهنه
ويقلن: شيب قد علاك *** وقد كبرت، فقلت: إنه
أي نعم، علاني الشيب، ولكني ما زلت على ما أنا عليه من مرح الشباب.
وقول الآخر:
قالوا غَدَرتَ فقلتُ إنّ وربَّمَا *** نَالَ العُلاَ وشَفَى الغَليلَ الغادِرُ
أي: فقلت: نعم.
وما أنشده ثعلب - رحمه الله -:
ليت شعري هل للمحبِّ شفاء **** من جَوَى حبّهن إنَّ اللقاءُ
أي: نعم اللقاء شفاء للمحب.
وأشار الزمخشري، غفر الله له، لهذا الوجه بقوله: (وقال بعضهم: {إِن} بمعنى نعم. و {لساحران} خبر مبتدأ محذوف، واللام داخلة على الجملة تقديره: لهما ساحران).
والطبري، - رحمه الله -، بقوله: (وقال بشر بن هلال: إن بـمعنى الابتداء والإيجاب. ألا ترى أنها تعمل فـيـما يـلـيها، ولا تعمل فـيـما بعد الذي بعدها، فترفع الـخبر ولا تنصبه، كما نصبت الاسم، فكان مـجاز «إن هذان لساحران»، مـجاز كلامين، مَخرجه: إنه: إي نَعَم، ثم قلت: هذان ساحران)، اهـــــ، فهي تعمل في المبتدأ الرفع، ولا تعمل في الخبر النصب كـــ \"إن\" الناسخة، وإنما يبقى الخبر مرفوعا كما في \"لساحران\" في هذه الآية، والله أعلم.
وينقل القرطبي، - رحمه الله -، عن الكسائي عن عاصم قال: العرب تأتي بـ«ـإنّ» بمعنى نعم، وحكى سيبويه، - رحمه الله -، أن «إنّ» تأتي بمعنى أَجَل.
والثالث: أن خبر \"إن\"، ضمير الشأن محذوف، فيكون تقدير الكلام: إنه هذان لساحران، ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون)، أي: إنه من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون.
يقول الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد - رحمه الله -:
لا يجوز أن تكون \"إن\" في هذا الحديث عاملة النصب والرفع في المذكور من الكلام، على أي لغة من لغات العرب، إذ لو كانت عاملة في المذكور لكانت الرواية: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورين، بنصب \"المصورين\" على أنه اسم إن مؤخر منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم، ولا يجوز أن تكون مهملة لأنها لا تهمل مع تشديدها، وإنما تعمل في حالة التخفيف فقط، وعليه يكون ضمير الشأن: اسم إن، وخبرها: المصورون، ونظيره قول الأخطل التغلبي:
إن من يدخل الكنيسة يوما *** يلق فيها جآذرا وظباء
إذ لا يجوز أن يكون \"من\" اسمها، لكونه اسم شرط، وأسماء الشرط لا يعمل ما قبلها فيما بعدها ولا يعمل فيها ما قبلها، لأنها تقطع ما قبلها عما بعدها، ولأن لها الصدارة في الكلام.
بتصرف من \"منتهى الأرب بتحقيق شرح شذور الذهب\"، ص78.
وعليه يكون اسم إن: ضمير الشأن محذوف، ويكون تقدير الكلام: إنه من يدخل الكنيسة يوما.........، والله أعلم.
ومن ذلك أيضا، قول بعض العرب: إن بك زيد مأخوذ، فتقدير الكلام: إنه بك زيد مأخوذ.
وإلى هذا الوجه أشار ابن الأنباري، - رحمه الله -، بقوله: (فأضمرت الهاء التي هي منصوب «إن» و«هذان» خبر «إن» و«ساحران» يرفعها «هما» المضمر، والتقدير: إنه هذان لهما ساحران. والأشبه عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم «إن» و«هذان» رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء).
وعليه يخرج قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الحمد لله»، برفع \"الحمد\"، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد: نعم الحمد لله وذلك أن خطباء العرب كانوا يفتتحون خطبهم بــ \"نعم\".
ويضعف أبو حيان، - رحمه الله -، هذا الوجه بقوله: (وضعف هذا القول بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا في الشعر وبأن دخول اللام في الخبر شاذ).
وأشار الشيخ محمد محيي الدين، - رحمه الله -، في \"منتهى الأرب\" إلى تخريج غريب إلى حد ما، يبنى على هذا القول، وحاصله:
أن \"إن\" مؤكدة تعمل النصب والرفع، و \"ها\" في \"هذان\" اسم إن، وهو ضمير القصة، و \"ذان\": مبتدأ، و \"لساحران\": خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ والخبر في محل رفع خبر إن.
ويعترض الشيخ محمد محيي الدين، - رحمه الله -، بقوله:
ويعترض على هذا التخريج باعتراضين:
الأول: أن هذا التخريج كان يقتضي أن يكتب في المصحف: \"إنها ذان لساحران\"، فلم فصل ضمير القصة عن \"إن\"؟، فأما وقد كتبت \"إن هذان لساحران\" فإنه يلزم اعتبار \"ها\" جزءا من \"هذان\"، ويكون حرف تنبيه.
والثاني: أن دخول اللام على خبر المبتدأ ضعيف فلا يجوز تخريج القرآن عليه.
ويرد الشيخ، - رحمه الله -، على الاعتراض الأول بقوله:
ويمكن أن يجاب عن الأول بأن خط المصحف ليس جاريا على قياس الكتابة العربية المصطلح عليها، ولهذا لا يجوز أن يقاس عليه. اهـــ، فقد لا يصح الخط من الناحية الإملائية المصطلح عليها، ومع ذلك يكون صحيحا من ناحية خط المصحف الاصطلاحي.
وعلى الاعتراض الثاني بقوله:
بأن اللام التي لا تدخل على خبر المبتدأ هي لام الابتداء، ونحن لا نقول بأن هذه لام الابتداء، بل هي اللام الزائدة مثل التي في قول الراجز: أم الحليس لعجوز شهربه، وسبقت الإشارة إلى تخريج هذا البيت.
الرابع: أنه لما ثني \"هذا\"، اجتمع ألفان، فكأن اللفظ آل إلى \"هذاان\" بألفين: ألف \"هذا\"، وألف التثنية، فوجب حذف واحدة منهما لالتقاء الساكنين، فمن قدر المحذوفة: ألف \"هذا\"، أبقى ألف التثنية وأعمل فيها التغيير إلى الياء في حالتي النصب والجر، ومن قدر العكس، فحذف ألف التثنية وأبقى ألف \"هذا\" لم يغير الألف عن لفظها رفعا ونصبا وجرا، لأنها من بنية الكلمة الأساسية فليست علامة إعراب فرعية كألف التثنية، ليسوغ تغييرها بتغير محل الإعراب، والله أعلم.
والخامس: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو \"هذا\"، فتقول: جاء هذا الرجل، ورأيت هذا الرجل، ومررت بهذا الرجل، لما كان كذلك، جعل أيضا في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد لأنه فرع عليه.
يقول ابن هشام - رحمه الله -: واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية، - رحمه الله -، وزعم أن بناء المثنى إذا كان مفرده مبنيا أفصح من إعرابه، قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة.
وعند التحقيق: يظهر أن \"هذان\" ليس مثنى بالمعنى الاصطلاحي للتثنية، وإنما هو لفظ وضعته العرب في كلامها للإشارة إلى الاثنين، كـــ \"أنتما\" لخطاب الاثنين، وعليه يكون القول ببناءه أقوى من القول بإعرابه، لأن صورة المفرد منه مبنية، وهو ليس تثنية لها بالمعنى اللفظي للتثنية، كما تقدم، والله أعلم.
ويواصل ابن هشام، - رحمه الله -، فيقول:
ثم اعترض على نفسه، أي شيخ الإسلام - رحمه الله -، بأمرين:
أحدهما: أن السبعة أجمعوا على البناء في قوله - تعالى -: (إحدى ابنتي هاتين)، مع أن هاتين تثنية \"هاتا\" و هو مبني، فلزم من قول شيخ الإسلام - رحمه الله - أن يكون فرعه مبنيا مثله فيكون \"هاتان\"، وأجاب شيخ الإسلام، - رحمه الله -، بقوله بأنه: إنما جاء \"هاتين\" بالياء على لغة الإعراب لمناسبة \"ابنتي\"، قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة، كما أن البناء في \"إن هذان لساحران\"، أفصح من الإعراب، لمناسبة الألف في \"هذان\" للألف في \"ساحران\".
والثاني: أن \"الذي\" مبني، وقد قالوا في تثنيته \"الذين\"، على صورة التثنية، في الجر والنصب، وهي لغة القرآن، كقوله - تعالى -: (ربنا أرنا الذين أضلانا)، فلم تأت \"الذين\" على صورة \"اللذان\"، رغم أن مفردها مبني، وأجاب شيخ الإسلام، - رحمه الله -، بالفرق بين \"اللذان\" و \"هذان\"، لأن \"اللذان\" تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه بــ \"الزيدان\"، أي أنه عريق في الاسمية بكونه موضوعا على أكثر من حرفين، و \"هذان\" تثنية اسم على حرفين، فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف شبها وضعيا من جهة وضعه على حرفين فقط، والشبه الوضعي أحد أسباب البناء، وإليها أشار ابن مالك، - رحمه الله -، بقوله:
والاسم منه معرب ومبني *** لشبه من الحروف مدني
كالشبه الوضعي في اسمي \"جئتنا\" *** والمعنوي في \"متى\" وفي \"هنا\"
فتاء الفاعل و \"نا\" المتكلمين، اسمان مبنيان لشبههما بالحروف من جهة الوضع، فالأول موضوع على حرف واحد والثاني موضوع على حرفين.
خلاف \"الذي\"، فهو اسم ثلاثي، ضعف شبهه بالحروف لأنه وضع على أكثر من حرفين، وقوي شبهه بالاسم من جهة وضعه على 3 حروف، فألحق بالأقوى، وإن كانت القاعدة ليست مطردة بكل حال لوجود حروف موضوعة على أكثر من حرفين كـــ \"ليت\" و \"لعل\" و \"إن\"، والله أعلم.
ويواصل شيخ الإسلام، - رحمه الله -، فيقول:
وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ (إن هذان) لحن، وأن عثمان، - رضي الله عنه -، قال: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها، وهذا خبر باطل من وجوه:
أحدها: أن الصحابة، - رضي الله عنهم -، كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟!!!!، فهذا الخبر باطل عقلا من جهة النظر في أحوالهم.
والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف يستقبحون بقاءه في المصحف؟.
والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم، لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والأعجمي.
والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب (التابوت) بالهاء على لغة الأنصار فمنعوه من ذلك، ورفعوه إلى عثمان، - رضي الله عنه -، فأمرهم أن يكتبوه على لغة قريش، ولذا كان المحكمون عند الاختلاف 3 قرشيين: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، ولما بلغ عمر، - رضي الله عنه -، أن ابن مسعود، - رضي الله عنه -، قرأ \"عتى حين\"، على لغة هذيل، بقلب الحاء عينا، أنكر ذلك عليه، وقال: أقرئ الناس بلغة قريش، فإن الله - تعالى -إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل، فمثل هؤلاء في حرصهم على ألفاظ القرآن، كيف يسوغ عقلا أن يقفوا على لحن في المصحف ولا يغيروه؟!!.
وينقل ابن هشام، - رحمه الله -، قول المهدوي في شرح الهداية:
وما روي عن عائشة، - رضي الله عنها -، من قولها: (إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها) لم يصح، ولم يوجد في القرآن العظيم حرف واحد إلا وله وجه صحيح في العربية، وقد قال الله - تعالى -: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد)، والقرآن محفوظ من اللحن والزيادة والنقصان، انتهى.
ويعلق ابن هشام، - رحمه الله -، بقوله:
وهذا الأثر إنما هو مشهور عن عثمان، - رضي الله عنه -، كما تقدم من كلام ابن تيمية، - رحمه الله -، لا عن عائشة، - رضي الله عنها -، كما ذكره المهدوي، وإنما المروي عن عائشة، ما رواه الفراء عن أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه أنها، - رضي الله عنها -، سئلت عن قوله - تعالى -في سورة النساء: (والمقيمين الصلاة)، بعد قوله: (لكن الراسخون)، وعن قوله - تعالى -في سورة المائدة: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون)، وعن قوله - تعالى -: (إن هذان لساحران)، فقالت: يا ابن أخي، هذا خطأ من الكاتب، روى هذه القصة الثعلبي، - رحمه الله -، وغيره من المفسرين، وهذا أيضا بعيد الثبوت عن عائشة، - رضي الله عنها -، فإن هذه القراءات كلها موجهة، كما مر في هذه الآية، وكما سيأتي إن شاء الله - تعالى -في الآيتين الأخيرتين عند الكلام على الجمع، وهي قراءة جميع السبعة في \"المقيمين\" و \"الصابئون\"، وقراءة الأكثر في \"إن هذان\"، فلا يتجه القول بأنها خطأ، لصحتها في العربية وثبوتها في النقل.
وما أشار إليه ابن هشام، - رحمه الله -، بقوله: (وكما سيأتي إن شاء الله - تعالى -في الآيتين الأخيرتين........................ )، أبان عنه بعد ذلك، وخلاصة قوله في الآيتين:
أولا: في آية: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الأخر)، فظاهرها عطف منصوب \"المقيمين\" على مرفوعات \"الراسخون\" و \"المؤمنون\"، والمعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه رفعا ونصبا وجرا، والجواب أن \"المقيمين\" هنا منصوب على الاختصاص، فتقدير الكلام: لكن الراسخون في العلم................... وأخص بالذكر المقيمين الصلاة، تنويها بشرفهم، والله أعلم.
ثانيا: وفي آية: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون)، إما أن يقال بأن:
الواو، في \"والصابئون\": استئنافية لا عاطفة، فيأخذ ما بعدها حكم الرفع على الابتداء.
ويكون تقدير الكلام: إن الذين آمنوا بألسنتهم من آمن منهم، أي بقلبه، بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين هادوا والصابئون كذلك في الحكم، فمن آمن منهم بقلبه، بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فيكون اسم إن: (الذين آمنوا)، وخبرها جملة: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، والمبتدأ: (الذين هادوا والصابئون)، خبره محذوف لدلالة خبر \"إن\" عليه، وتقديره: \"كذلك\" أي هم في الحكم كذلك إن آمنوا، فاستغنى عن إعادة الخبر لدلالة السياق عليه، والله أعلم.
أو يقال هنا بأن الواو \"عاطفة\" وليست استئنافية، ولكنها لا تعطف \"الذين هادوا والصابئون\" على اسم إن المنصوب، وإنما تعطفهما على محل \"إن واسمها\"، ومحلهما هنا الابتداء، والمبتدأ مرفوع، فيكون السياق من باب عطف مرفوع على مرفوع، وهذا اختيار الكسائي، - رحمه الله -، وهو يسمى بــــ \"العطف على المحل\"، والمحل هنا هو الابتداء، كما تقدم، وهو خلاف الأصل لأن الأصل أن العطف يكون على اللفظ، والله أعلم.
ويذكر الشيخ محمد محيي الدين، - رحمه الله -، قصة لطيفة حكاها المقري، - رحمه الله -، المتوفى سنة 986 هـــ، صاحب سفر \"نفح الطيب\"، (7/189)، وفيها أن ابن البناء سئل عن هذه الآية: لم لم تعمل إن النصب والرفع في هذه الآية؟، فأجاب: لما لم يؤثر القول في المقول لهم لم يعمل العامل في المعمول، أي أن القول بأن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ساحران، لم يؤثر في صدقهما فكذا العامل \"إن\" لم يؤثر في المعمول \"هذان\"، فقال له السائل: إن هذا الجواب لا ينهض، فقال: إن هذا الجواب زهرة لا تحتمل أن تحك بين الأكف.
ويعلق الشيخ محيي الدين، - رحمه الله -، بقوله:
وأقول: هذا الجواب ليس من باب التخريج على القواعد، ولكنه من الإشارات التي يقول مثلها أهل التصوف، اهـــ، فهو من باب التفسير الإشاري الذي اشتهر به الصوفية، والخطب هنا هين، خلاف إشاراتهم، وإن شئت قلت: شطحاتهم، في آيات أخرى، كإشارات ابن عربي، النكرة، في \"فتوحاته\" و \"فصوصه\"، والله أعلم.
بتصرف من \"منتهى الأرب بتحقيق شرح شذور الذهب\"، ص7481.
ويراجع كلام الطبري، - رحمه الله -، في جامعه، والزمخشري، غفر الله له، في كشافه، وأبي حيان، - رحمه الله -، في بحره المحيط، والقرطبي، - رحمه الله -، في جامعه، على هذه الآية، والله أعلى وأعلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد