أسطورة الموسوعية


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

في كتب التراجم الإسلامية تعودنا على وصف مجموعة كبيرة من الأئمة والعلماء والحفاظ بأن فلاناً كان إماماً فقيهاً محدّثاً مفسّراً نحوياً أصولياً متكلماً إلى آخره.. ثم إذا استعرضت رجال العلم في التاريخ وجدت أن البارزين والمتبوعين في الأمة لم يؤخذ عنهم غالباً إلا جانب واحد من جوانب العلم أو جانبان وقليل من يتجاوز ذلك.. فالإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي والليث والأوزاعي كانوا من أصحاب العلوم المتعددة ولكن الأمة لم تتبعهم إلا في الفقه وأبوابه ومسائله وتفريعاته، وأهل الحديث كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد الثوري وكانوا أصحاب أكثر من علم كذلك، ولكنهم قادوا الأمة في جانب الحديث على تفصيل في مكانة الإمامين أحمد والثوري عند أهل الفقه، والنحويون كذلك وأهل التاريخ وأصحاب الشعر والملاحة والأدب وهكذا.. قد يظهر علماء يكتبون في مجالات عدة يستوعبونها ويحفظون منها كثيراً، ولكنهم برغم ذلك لا يعدون من فرسانها.

 

فالموسوعية التي نروم الحديث عنها لا شأن لها بالحفظ وهذه النصوصº وإلا لعدَّ كل محدث فقهياً أو كل قارئ مفسراً، ولأصبح من يحفظ عشرين ألف حديث أو مائة ألف دون علم بالدراية والرواية من أئمة العالم والفقه وهو لا يحسن الجمع بين حديثين متعارضين، أو الترجيح بين دليلين أو الاعتبارات التي تحيط بالنصوص، والتي يعرفها أهل العلم، فالحفظ ليس مقصودنا هنا، وإن كان من أسباب الموسوعية وركائزها ولا نقصد في كلامنا هذا من يؤلفون في الفنون، فليس كل من ألّف في فن يعدٌّ عالماً فيه مهما سارت به الركبان وإن كان التأليف من سمات الموسوعيين ولكنه يحتاج إلى أسباب تتعاضد.

 

العالم الموسوعي أو الإنسان الموسوعة الذي نريد إثبات أسطوريته هنا، هو العالم المرجع في كل فن من فنون الشريعة مثلاً أو العلم الطبيعي أو التاريخي، ولا حظ كلمة كل فن في مجال واحد، فهل بهذا الوصف يوجد إنسان موسوعي كما يتردد في أوساط الناس سلفاً وخلفاً؟

 

وسيأتي معنا للحديث عن الموسوعة العملية المزعومة تبعاً للموسوعة العلمية.

 

لم يرد الله - عز وجل - أن تسير هذه السنة على أحد من خلقه لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وحين أراد الله خلق آدم خليفة في الأرض وتعجبت الملائكة من ذلك كان الرد: { إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم }. الآية.

 

عندها اكتشفت الملائكة قصورهم في هذا العلم أو هذا الجانب، ولم يكن هذا مستغرباً عندهم - عليهم السلام - لأن الله خلقهم لا يشبه أحدهم الآخر أو يماثله بل جعلهم درجات في العلم والعمل والمواهب، فملك موكل بالوحي، وملك موكل بالنفخة، وآخر بالشجر، وآخر بالمطر، وغيره بالجبال، وللموت ملائكة، وللعذاب ملائكة ومنهم طوافون ومنهم ركع وسجود ومنهم مسبحون وغيرهم يحملون العرش، وما لا يحصيهم ولا يحصى أعمالهم ومواهبهم وقدراتهم إلا الذي خلقهم. وفي كتاب الله - عز وجل - آيات بينات في هذا ترد كلاً إلى فضله - سبحانه - وحكمته، فالملائكة أقسام كما ذكرنا ولهم تنوع لا حصر له من القدرات والعلم والمواهب كما ورد في سورة الذاريات والمرسلات والنازعات والصافات { الله يصطفي من الملائكة رسلاً }، { جاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع } إلى آخر ما ورد في ذلك ونظرة سريعة في إخبار الله - سبحانه - عن أنبيائه يزيد الأمر وضوحاً ولا نبتغي المفاضلة بين الأنبياء، وإن كان ذلك وارداً ولكن الحديث عن الاختصاصات التي أعطيت لكل نبي، ولعل الاقتصار على دليلين أو ثلاثة يغني عن إطالة الاستشهاد والاستدلال بباقي الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -.

 

من أهم الأمثلة في ذلك ما ورد في القرآن من داود وابنه سليمان الذي لم تؤثر فيهما قوانين الوراثة أو كثرة المشاهدة والمخالطة بينهما - عليهما الصلاة والسلام -: { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين * وعلمناه صنعة لبوس لكلم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون * ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين * ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين }. فانظر كيف قسم الله العلم بين الابن وأبيه قال: { ففهمناها سليمان }، وعن داود قال { وعلمناه صنعة لبوس }، { وآتينا داود زبوراً }، وفي سورة النمل قال - عز وجل -: { ولقد آتينا داود وسليمان علماً }، وعلى لسان سليمان: { يا أيها الناس علمنا منطق الطير }، وقال الله في الآيات السابقة: { وكلا آتينا حكماً وعلماً }، وانظر إلى قوله - سبحانه وتعالى -: { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير }، وإلى قوله - عز وجل -: { ولسليمان الريح عاصفة }.

 

وبين رسولين كريمين أيضاً اتضحت أنواع من العطايا والفضائل والمواهب والتنوع بين موسى كليم الله وعيسى بن مريم، فموسى كليهم الله وعيسى كلمة الله، وآتى الله موسى التوراة وأتى عيسى الإنجيل، وموسى جاء بالآيات التسع المعجزة وعيسى جاء من غير أب وتكلم في المهد ويحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.

 

إن اختلاف الأنبياء في ذلك لا ينقص من مكانة أحد منهم - عليهم الصلاة والسلام -º لأن ذات التكريم يكمن في الاصطفاء بالنبوة والرسالة وهو أساس الكمال، وما يأتي بعدها فهو من دعائم الكمال، وما يأتي بعدها فهو من دعائم الكمال كل حسب منزلته عند الله، فمجرد الاصطفاء كمال لا ينفي البشرية عن أصحابه أو ما يعتري البشر من تفاوت في المواهب والعلم والعمل على أن الأنبياء في جانب العصمة والطهر والزكاة قد أخذوا بنصيب وافر من المنح الإلهية.

 

فالموسوعية ليست للأنبياء ولا للملائكة كما قال الله - عز وجل -: { وكلا آتينا حكماً وعلماً }.

 

إن الموسوعية كمال والكمال المطلق لله - عز وجل - { والله واسع عليم }.

 

والموسوعية الدارجة في أوسطنا العلمية صبغت بصبغة الألوهية جهلاً ونزقاً، أرأيت الموسوعة فلان الذي لا يرد قوله ولا يخطئ حكمه، ولا يراجع في شيء من آرائه، وعلى هذا التأليه للبشر نبني صروحاً من الأوهام.

 

إن الموسوعية وهم لا أصل لها، ونحن لا ننكر اللفظ بقدر ما ننكر النتائج المبينة على هذا اللفظ وكل من وصف من الأئمة بأنه موسوعة في شتى العلوم الشرعية ثبت غير ذلك بالاستقراء علمياً، فالمحدث يبقى محدثاً والفقيه فقيهاً والمتكلم متكلماً والمفسر مفسراً، وهكذا، حتى من يجمعوا علمين أو أكثرهم لم يكونوا على درجة من النضج الكامل في الرأي والعطاء فهم أوزاع بين العلوم أخذ من هذا بنسبة وأخذ من ذلك بنسبة، وقيل عنه موسوعة، ورحم الله الإمام الشافعي الذي كان من أهل الحديث وله مسند معروف إلا أنه كان يقول لأحمد - رحمه الله -: \" إذا صح الحديث عندكم فأخبرونا نأخذ به \".

 

إن بعض أبواب الفقه تحتاج إلى تخصص فما بالك بالفقه كله فكيف بباقي العلوم العلماء الذين تخصصوا في علم واحد هم من قادة الأمة بحق فالمحدثون كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم إلى ابن حجر ومن بعده قادوا الأمة وأعطوا في ذلك عطاء جزيلاً لا زالت بركاته إلى الآن، والفقهاء كالشافعي وأبي حنيفة ومالك ومن بعدهم مروراً بابن قدامة والماوردي والرافعي والنووي وغيرهم كثير قادوا الأمة في الفقه وقدموا لها تراثاً مجيداً.

 

ولو نظرنا إلى النووي وابن حزم وابن تيمية والسيوي وابن دقيق العيد وغيرهم كثير برغم حيازتهم لمجموعة من العلوم إلا أن جانباً واحداً يبقى بارزاً مع ضمور الجوانب الأخرى أمام هذا الجانب التخصصي بالإضافة إلى الغرائب التي يقع فيها كثير ممن لا يقتصرون على تخصص واحد.

 

وإن تجاوزنا قليلاً وقلنا بإمكانية الحيازة لكل ما يتعلق بالشريعةº فإن ادّعاء ما بعد ذلك فيه نظر برغم أن إماماً مثل السيوطي قال عن نفسه في كتاب: [ التحدث بنعمة الله ] أنه بلغ رتبة الاجتهاد في التفسير والحديث، والأصول واللغة والفرائض والفقه إلا أنه اعترف بتفاوت قدر الاجتهاد ما بين هذه العلوم ولم يزعم لنفسه الأفضلية في كل علم هذا الذي يعد أمثاله في الأمة على أصابع اليد الواحدة، فكيف بمن ادعى الناس له ذلك ثم أضافوا إلى ذلك علم الكلام والفلسفة والمنطق والحساب، قد يتعلم الإنسان كل ذلك علماً ضعيفاً أو منقوصاً لو فتح له المجال فيه لعاد الغرائب الطوال.

 

لقد قسم سيدنا الحبيب محمد - صلى الله عليه و سلم - تخصصات العلم والعمل والمواهب على الصحابة بشكل يجعل المتأسي لا يحس بلبس ولا إشكال فقال - عليه الصلاة و السلام -: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأشدهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر) الحديث رواه الترمذي وحسنه عن أنس - رضي الله عنه -.

 

وذكر قراءة ابن مسعود وأن خالداً سيف الله، ومدح كثيراً من الصحابة بعلم أو بعمل أو موهبة، وكان كل واحد مرجعاً في بابه، كما كان ابن عباس ترجمان القرآن، - رضي الله عنهم - وحبذا الرجوع إلى فضائل الصحابة.

 

إن هذا الحديث وغيره يعتبر قاعدة ذهبية في التخصص والرد على إدعاء الموسوعية مما يجعلنا ندرك بأن العالم الذي تخصص له لا قاعدة له.

 

وفي العمل الإسلامي وجب إظهار زيف الموسوعات العملية التي لم ينلها الصحابة فضلاً عن غيرهم، فلسنا نؤمن برجل يتقن كل فنون العمل، وإذا ما ظهر هذا النوع فعلينا أن نصدق بأكذوبة \" رامبو \" أو \" السوبرمان \" لقد أرهق الدعوة رجال يزعمون لأنفسهم سعة الإتقان لكل عمل، وسعة المواهب اللامتناهية وتركوا المتخصصين يعيشون على الهامش متفرجين، وأخذوا أبواب العمل كله فهم الدعاة والسياسيون والعلماء والمناضلون والإغاثيون والإعلاميون وما لا يحصى من الفنون والعلوم قد يكون بعضهم بحسن نية، لكنه يقتل العلم من حيث لا يعلم كان الصحابة يضربون في كل عمل بنصيب في الصلاة والجهاد والإنفاق وسائر الأعمال، ولكن معاذاً وأبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وغيرهم ما كانوا يضعون أنفسهم في مكان الصدارة على الجيش وإن كانوا مجاهدين أصلاً كما أن أبا عبيدة وابن أبي وقاص والزبير وخالداً وأمثالهم لم يجلسوا على كرسي الأستاذية للناس، وإن كان ينزل الوحي وهم جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه و سلم - ولا شك أن نوادر من الصحابة كانوا يجمعون أكثر من جانب، ولكنهم قلة كعمر وعلي - رضي الله عن الجميع -.

 

إن ثراثنا مليء بهذه الفكرة التي لا بد أن نعيدها إلى نصابها، وإن ظهر من الأئمة من أسعفته قدراته أن يخوض في مجموعة علوم، فإن هذا ليس دليلاً على التمكن وحسن العطاء بقدر ما هو تكلف وتجميع من هنا وهناك لا يلبث أن يكتشف المتخصصون نقصاً شديداً في رسوخ العلم فيه، ولا أريد ذكر أسماء حتى لا يغضب كثير من القراء، والعمل مثل العلم وكل ميسر لما خلق له ورحم الله الإمام مالك يوم قال: \" إن الله يقسم الأعمال كما يقسم الأرزاق \".

 

ومما أفضى بنا إلى ما نحن فيه من جمود فقهي وعملي هو ظهور أنواع من أبناء الصحوة يحاولون محاكاة مجموعة من الأئمة في مزاعم الموسوعية، ولذلك يظهر عليهم دائماً الخلط بين موقف وآخر والتداخل الظرفي بين زمان وزمان وإلباس القرن الخامس عشر بلبوس القرون الأولى دون تمييز بين ما هو أصل ثابت أو فرع متحول، ولقد وقعت في التراجم الإسلامية أخبار كثير من العالمين والعاملين من الضروري جداً أن توضع على طاولة النقد العلمي وأن يتعامل معها بواقعية وإنصاف.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply